قراءة في أيديولوجيا الإرهاب الإسلامي
السبت 16/ديسمبر/2017 - 07:04 م
طباعة
إنه من الخطورة البالغة أن يُنظر للتطورات الأخيرة المتعلقة بالهزيمة العسكرية الساحقة التي تلقتها داعش بالعراق وسوريا باعتبارها تعني قضاءً على الخطر. يجب أن نذكر أنه ومثلما لم تضع هزيمة طالبان أو جماعة أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان مسيطراً من قبل على جزء كبير من ذات الأرض التي سيطرت عليها داعش، نهاية للتطرف والإرهاب، فإن هزيمة داعش لن تفضي لنتيجة أفضل. فالبذرة حية ونشطة، والتربة خصبة وجاهزة! على العكس، نخشى أن تكون تلك الهزيمة العسكرية على مستوى الميدان سبباً في ان يتجه أتباع أيديولوجيا الإرهاب الشريرة للبحث عن بدائل أسوأ من ذلك كثيراً. فبمثلما يتفاجأ العالم، مرة تلو الأخرى، بتعدد وجدّة أساليب وأشكال العنف، كدهس الأبرياء بالشاحنات واقتحام المسارح العامة، فمن الممكن أن يتفاجأ ذات العالم بابتداع الإرهاب لوسائل جديدة لم تكن في الحسبان، كاستخدام مستحضرات كيميائية للتسميم الجماعي للأبرياء.
هكذا يقدم د. ناجي بشير خاطر، لدراسته الحديثة عن الإرهاب المتأسلم والمنشورة على صفحات جريدة "حريات" السودانية على الأنترنت، تحت عنوان " الإرهاب الإسلاموي من الألف للياء !"، والذي يناقش فيها أهم المصطلحات والجذور التاريخية للظاهرة الإرهابية الإسلاموية حسب تعبيره وسوف نقدم في السطور القليلة القادمة لأهم ما جاء في هذه الدراسة المهمة عن هذه الظاهرة.
وبداية من ضبط المصطلح يقول د. عمر: " إن هنالك حاجة ملحة لضبط تعريف “الإرهاب” ليشير وليعني بشكل محدد وواضح: الاستخدام المفرط للعنف لتحقيق مكاسب سياسية وأيديولوجية عبر خلق حالة واسعة ومستمرة من الترويع والشعور بعدم الأمان، تتم باستهداف بشر عاديين يمارسون حياتهم الطبيعية، وبدون أن يكونوا مستعدين لذلك الاستهداف. فهذا الضبط الإصطلاحي ضروريٌ جداً و شرطٌ لا غنىً عنه، إذ بدونه يصبح مستحيلاً إجراء تحديد دقيق للجهات المسئولة عنه وتصنيف صحيح للأفكار التي تمهّد له. أما الأشكال الأخرى لاستخدام العنف، فلها مسارات أخرى في النظر والتحليل، و من ثمّ تحديد المواقف منها."
وبعد أن يقوم بتدقيق المصطلح وتعريفه ينتقل بنا الكاتب إلى توصيف لطبيعة الإرهاب المتأسلم فيقول: " إن الأيديولوجية التي يتبناها الإرهابيون، تمثل منظومة من الأفكار تحمل تصوّراً محدداً، بسيطاً، ساذجاً، و لكنه موغل في الرجعية، لما ينبغي أن يكون عليه العالم، و تنطلق هذه الأيديولوجية من فهمٍ معينٍ للدين الاسلامي له جذور راسخة في التاريخ. كما تحتوي تلك الأيديولوجية في داخلها على تصور عن كيفيّة تحقيق شعاراتها وأهدافها، وهو استخدام أقسى أنواع العنف وأكثرها فاعلية من الناحيتين المادية والمعنوية."
ويؤكد الكاتب هنا على أن إغفال مناهج واتجاهات التحليل التي تتبناها الأكثرية في العالم للأساس الفكري للتطرف، وتجاوز تلك المناهج والاتجاهات للروابط الأيديولوجية القوية التي تجمع بين التنظيمات المتطرفة، تلك التي لم تنتج عن مصادفة، سيقود لا محالة لتبني نتائج خاطئة في فهمها مما سيترتب عليه الفشل في هزيمتها. إن إصرار تلك التحليلات في التركيز على مشكلة الشرق الأوسط وما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، أو سيادة أنظمة القهر في تلك المنطقة واختلال موازين العدالة الاقتصادية والسياسية بها، أو ظروف التهميش التي يعانيها المسلمون بالغرب، باعتبار ذلك يمثل الأسباب الجوهرية التي أدت لنشوء واستمرار التطرف، كل ذلك يدحضه الواقع الماثل. فحركات بوكو حرام بنيجيريا أوطالبان في أفغانستان وباكستان أو الشباب بالصومال، لم تكن من همومها يوماً أن تتبنى تلك القضايا ولم تضمنها في برامجها السياسية أو خطابها الإعلامي، بل لا يهمها من كل قضايا الإنسان غير أن تقطع يد السارق ويرجم الزاني وتلزم المرأة أقصى ركن في منزلها، وما إلى ذلك. و حركة داعش، تلك التي اختارت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ساحة لعملياتها، اختارت أبعد النقاط عن إسرائيل لممارسة نشاطها التدميري. ولم يُطّلَع لها على رؤية، ولو مبسطة، في مجال التنمية الاقتصادية أو البشرية أو الاجتماعية، أو استرداد القدس.
يؤكد تواجد الأيديولوجيات المتطرفة في مناخات مشبّعة بالرفاهية الاقتصادية كما يحدث في دول الغرب والخليج العربي، أو تستمتع بمناخات ديمقراطية معقولة كباكستان واندونيسيا وماليزيا، أن مسائل التهميش الاقتصادي والسياسي ليس لها غير دور ثانوي بدون شك، سواءً في نشوئها أو في تمددها. في ذات الاتجاه، فإن تدمير الجماعات الجهادية للآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن بأفغانستان وسوريا ومالي، علماً بأنه لا توجد روابط تنظيمية تذكر بين هذه الجماعات، ليس له دلالة غير كراهية تلك الجماعات المطلقة لإنجازات العقل الإنساني، من منظور أيديولوجي محض يجمع بينها جميعاً.
ويخلص الباحث هنا الى أنه قد حان الوقت للعالم الغربي، أن يقتنع بأن الإجابة على سؤاله الأشهر، “لماذا يكرهوننا”، إنما متأصلة في عالمي الفكر والشعور لدى قاطني العالم الإسلامي. عليه أن يعلم بأن تلك الكراهية ناتجة عن وجود تصور ذهني موغل في السذاجة لما ينبغي أن يكون عليه النوع البشري بأكمله، تصور قائم على فهم للدين لا يحتمل غير إقصاء كل التصورات الأخرى عن العالم باعتبارها شر مطلق، وقائم على النظر للعالم القائم باعتبار قيمته الوحيدة أنه نقطة عبور، يجب أن يكون سريعاً، للعالم الآخر.
أما عن الإطار الأيديولوجي للإرهاب فيقول الباحث: " ان عماد أيديولوجية الإرهاب الإسلاموي، أن المسلم مطالب، كفرض وليس كخيار، وفي كل زمان ومكان، بالعمل لإنشاء دولة مطابقة لدولة الرسول محمد (ص) في القرن السادس الميلادي، غض النظر عن اختلاف الزمان والمكان. من الملامح العامة لهذه الدولة المنشودة، الاستناد على نفس الإطار القانوني لدولة الرسول (ص) فكراً وممارسة، وتقسيم العالم إلى داري حرب وإسلام إلى أن يدخل جميع الناس في دين الإسلام أويقبل أهل الذمة منهم وضعية المواطن من الدرجة الثانية. كما أن من تلك الملامح اعتبار كامل جسد المرأة عورة ومنع خروجها للحياة العامة وحق الزواج بها وهي قاصر، وتحريم كل ما كان محرماً وقتها كالغناء والموسيقى وما إلى ذلك، وتحليل ما كان حلالاً كالعبودية مثلاً. بشكل عام، على الدولة المنشودة مؤسسات ومواطنين، النظر لأي جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك العلم الطبيعي، من خلال المناظير التي كانت متبعة في تلك الحقبة الزمنية." ويستطرد قائلا: " ليست قوانين الدولة وفلسفة عقدها الاجتماعي هي المعنية وحدها بهذه النظرة، بل إن طريقة إنشائها نفسها يجب أن تتبع المناهج والوسائل التي يعتقد أولئك الإرهابيون، ومن يتفقون معهم، أنها تعبر عن تلك التي تم بها تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى. يمثل الجهاد والشدة في التعامل مع الخصوم لب هذه المناهج والوسائل، حيث يتم إخضاع المختلفين لثلاثة خيارات لا غير، الإسلام وفق ذات النمط الذي تتبناه تلك الجماعات، الموت، أو القبول بوضعية المواطنين من الدرجة الثانية وهذا خيار متاح فقط للمسيحيين واليهود، فالاختلاف مع الأديان والملل الأخرى إنما هو اختلاف تناحري لديهم، لا يحتمل الندية في العيش أو المساواة في القيمة."
وعن كيفية تشكل هذه الأيديولوجية الإرهابية يقول الكاتب: " لقد تم في فترة وجيزة، بمعايير التحولات الإنسانية الكبرى، بناء منظومة فكرية كاملة أصبحت هي المرجعية الوحيدة والفاصلة. كما تم تحصين هذه البنية جيداً بإرساء مناهج وقواعد معرفية في صلبها تقف حاجزا صد ضد أي محاولات لتحديثها، حيث من ضمنها::
1- اعتماد الحديث النبوي مصدراً للتشريع مساوٍ للقرآن رغم أنه تم تدوينه بعد قرنين من وفاة النبي (ص) ورغم اشتماله على ما يؤكد دور العامل البشري فيما هو منقول
2- اعتبار آليتي الإجماع والقياس مصدراً لتوليد الأحكام، فيما لا نص واضح فيه، و جزءً من منظومة الدين، رغم عدم ورود ذلك في النصوص القرآنية
3- وضع مبادئ وقواعد متعسفة في تفسير النص الديني، واعتبارها أمراً إلهياً رغماً عن أنها من صنع الفقهاء أنفسهم، من شاكلة: ”لا اجتهاد مع النص”، و ”العبرة بعموم النص وليس خصوص السبب”، “المعلوم من الدين بالضرورة”، إلخ.
4- حصر التفسير والتأويل والاجتهاد، بل إبداء الرأي في قضايا الحياة المختلفة، على فئة رجال الدين، هؤلاء الذين يتم تأهيلهم مسبقاً وفقاً للمبادئ والمناهج والأسس المشار إليها أعلاه!
وعن الغلو والتطرف والإرهاب يؤكد الكاتب انه تفاوت في مقدار الجرعة ليس إلا أو كما قال نصر حامد أبو زيد انه اختلاف في الكم وليس في النوع، حيث يؤكد الباحث على ان البنية الفكرية السائدة في المجتمع المسلم والتي يذعن لها الفرد المسلم العادي، تدفعه دفعاً في اتجاه الغلو بكل مظاهره. وبالبنية الفكرية لا نعني الدين نفسه ممثلاً في نصوصه، وإنما نقصد الفهم السائد والمسيطر للدين، وهو أمر بشري تماماً نشأ وترسخ في ظروف تاريخية تعرضنا لها سابقاً.
وإن الخضوع لمفاهيم تلك البنية الفكرية، كالقول بأن للدين موقف ورأي في كل قضايا الحياة، وتصوير الإله في المخيلة باعتباره قاسياً في عقابه عند أي هفوة مهما صغرت، كأن يقع غطاء رأس المرأة عن شعرها أو أن يفوت الفرد صلاة من الصلوات، تجعل من المسلم في حالة بحث دائم عن رأي الدين، ممثلاً في “علمائه” وفقهائه، فيما يطرأ على حياته من أحداث، ودائم البحث عما يجنبه الغضب الإلهي. ويصبح بالتالي الغلو في التدين، أمراً مرغوباً وشائعاً باعتباره الأصل في علاقة الأرض بالسماء وشكلاً للممارسة لا يمكن الاستغناء عنها.فالغلو، إذن، هو حالة ذهنية ونفسية تضغط الفرد والجماعة لقياس كل ظواهر الحياة بمعايير الدين، وتلزمهم بتحديد موقفهم منها عبر مفهومي الحلال والحرام، بدلاً عن مفهومي الصحة والخطأ.
أما التطرف، فيمثل مرحلة تالية من مراحل الاعتقاد، تسيطر فيه على الفرد الرغبة على تحويل الأفكار التي رسختها فيه حالة الغلو إلى أفعال محققة على أرض الواقع، مدفوعاً في ذلك بمؤثرات داخلية ككمية الجرعات الدينية التي يتلقاها وظروفه المعيشية والاجتماعية، أو بمؤثرات خارجية كالمناخ السياسي والحالة الاقتصادية ودرجة حدة الخطاب الذي يقتحم عقل الفرد المسلم من خلال قنوات متعددة: الإعلام، المسجد، المدرسة. يساعد في ذلك وبقوة غياب التفكير العلمي بشكل عام وفقدان الزعامات المستنيرة ذات الكاريزما والعطاء والقدرة على التأثير. إن الانتقال من حالة الغلو لحالة التطرف لا يستلزم صراعاً فكرياً عميقاً داخل الفرد، حيث أن بذرة التطرف مزروعة أصلاً في تربة الغلو. نفس الأمر ينطبق على حالة الإرهاب، الذي لا يختلف مسار الوصول إليه عن ذاك الذي يقود من حالة الغلو لحالة التطرف، حيث أن الاختلاف الرئيسي بين المتطرف والإرهابي، أن الإرهابي وصل مرحلة اليأس من تحقيق ما يصبو إليه المتطرف عبر الوسائل السلمية، فاختار العنف والترويع وسيلة للتغيير.