«إسلام نوسانتارا».. أساس متين للوسطية والتعايش في إندونيسيا
الخميس 20/سبتمبر/2018 - 06:16 م
طباعة
إسلام محمد
رغم أن إندونيسيا هي أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، فإن حركة الفتوحات الإسلامية لم تطأ هذه البلاد يومًا من الأيام، ولا يوجد تاريخ محدد لدخول الدين إليها، بل قام التجار العرب بنشر العقيدة بين السكان المحليين عبر التعاملات اليومية، وحركة البيع والشراء، لذلك يضرب بها المثل داخل الدول العربية على أنها نموذج للقوة الروحية للإسلام وتجسيد عملي للأثر الطيب الناتج عن تطبيق الأخلاق المستمدة من الدين.
وكان لانتشار الإسلام على يد التجار آثار لها أبعاد جغرافية وثقافية مازالت موجودة حتى اليوم؛ فقد انتشر في المناطق الساحلية أكثر منه في المناطق الداخلية البعيدة عن الموانئ وحركة السفن، كما انتشر بشكل أفقي واسع، لكن التعاليم الفقهية الدقيقة لم تُغرس بعمق في نفوس الأتباع؛ فالدعاة هنا غير متخصصين، بل تجار لديهم حماسة للدين.
وصَاحبَ حركة انتشار الدين، بروز أسماء تسعة من الدعاة العرب، عرفوا باسم «الأولياء التسعة»، كان لهم أكبر الأثر في أهالي جزيرة جاوة التي يعيش فيها أغلب السكان، وتزوجوا من أهل البلاد، واندمجوا فيهم، وكذلك التجار الذين قدم الكثير منهم من محافظة حضرموت اليمنية، واختلطوا هم وذريتهم بالأهالي، وعلَّموهم اللغة العربية وتعلموا لغتهم المحلية لينتجوا خليطًا من اللغتين، وهي اللغة الرسمية المعتمدة الآن في جمهورية إندونيسيا، التي تحمل الكثير من المفردات ذات الأصل العربي.
وإلى الآن يحرص الإندونيسيون على ارتداء الـ«سارونج» أثناء الصلاة؛ وهو إزار يلبس على النصف السفلي من الجسم، أخذوه من التجار الحضارمة، فهو لباس شعبي منتشر في اليمن، ما يدل على عمق التأثير الذي أحدثه هؤلاء المهاجرون، الذين اتبعوا منهجًا في الدعوة يقوم على التقرب للناس، ولا يستخدم كثيرًا كلمات مثل «هذا حرام» و«هذا كفر»، وما إلى ذلك، بل قربوا المفاهيم الدينية للسكان البسطاء باستخدام لغة خطاب قريبة منهم.
ومع الوقت ازداد انتشار الإسلام، وازداد امتزاجه بالتراث المحلي في جزر الأرخبيل، وهيمنت عليه النزعة الصوفية بشكل كبير، وأصبح مرتبطًا بالطقوس الاحتفالية، وحلقات الذكر الجماعي، وتقديس أضرحة الموتى، وعلى رأسهم الأولياء التسعة، إذ صارت مراقدهم مزارات يقصدها سكان جزيرة جاوة لتأدية العبادات والطقوس المتوارثة.
النموذج المتسامح
وبمرور الوقت، انتشر نموذج من التدين يحتفي بالطقوس، ويتسامح في تطبيق الأحكام الفقهية، وإن كان المذهب الشافعي هو المرجع النظري لهذا النموذج، مقترنًا بالمنهج الصوفي المستمد من كتابات الإمام أبي حامد الغزالي، إضافة إلى عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري، وصارت هذه الأصول هي الدعائم الفكرية للتدين الذي انتشر في أرخبيل نوسانتارا؛ وهو الاسم القديم الذي أطلق على الجزر الإندونيسية.
ورغم ذيوع مصطلح «إسلام نوسانتارا» مؤخرًا كنموذج معتدل للدين الإسلامي يُعول عليه ليقف في مواجهة تيار التشدد أو ما أُطلق عليه «إسلام الشرق الأوسط»، فإن تفسير هذا المصطلح يشوبه بعض الغموض، رغم استخدامه على أعلى مستوى؛ ففي مناسبات متعددة تحدث الرئيس جوكو ويدودو عنه باعتباره النموذج المتسامح مع الآخر.
وقد أعلنت جمعية نهضة العلماء، أكبر الجماعات الإسلامية في البلاد، عن تبنيها هذا النموذج في مؤتمرها الثالث والثلاثين، والذي عقد في أغسطس 2015، بالتزامن مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي وانتشاره عالميًّا، لكن عدم وضوح المفهوم سبب نزاعًا كبيرًا بين أعضاء المجلس المركزي للجمعية أنفسهم الذين اختلفت وجهات نظرهم إزاء ما يعنيه المصطلح بالضبط.
فالمعارضون يقولون إن المصطلح يسعى إلى إضفاء الشرعية على الممارسات التي تتعارض مع تعاليم الإسلام والمتأثرة بالديانات القديمة كالبوذية والهندوسية والمعتقدات المحلية، بينما يقول المؤيدون إنه إسلام شامل متسامح مع الثقافة المحلية دون إخلال بأصل الدين، بل هو مثال على الممارسات الثقافية الغنية في البلاد، ويعتبرونه متوافقًا مع مبادئ البانشاسيلا التي أعلنها الرئيس الأسبق، سوكارنو، والتي تُمثل الأصل المشترك الذي تجتمع عليه جميع فئات الشعب، وهي الإيمان بالإله، ووحدة إندونيسيا، والإنسانية العادلة والمتحضرة، والديمقراطية التي تقودها الحكمة، والعدالة الاجتماعية.
من جانبه، أكد منصور جيلاني، مستشار جمعية نهضة العلماء، أن مفهوم إسلام نوسانتارا لا يعني الخروج عن مبادئ الإسلام، فالدين واحد لا يتغير من مكان إلى آخر، ولا يختلف باختلاف البلدان؛ لكن المقصود هو الاختلافات الثقافية التي ترتبط بالعادات المحلية.
وأضاف جيلاني في تصريحات لـ«المرجع» أن معنى المصطلح هو التمسك بالتقاليد المتوارثة المرتبطة بالدين، كارتداء السارونج أثناء الصلاة وليس الجلباب مثلًا، وإقامة الاحتفالات في الذكرى السنوية لوفاة الأولياء الصالحين، وليس كما يفعل المسلمون في أماكن أخرى فيحتفلون بموالدهم، إذ إن الثقافة الدينية الإندونيسية تعتبر أن يوم الوفاة هو الأولى بالاحتفال؛ لأنه يوم لقاء الله، وهو اليوم الذي يفرح الصالحون به لأنهم يشتاقون للقاء ربهم.
وتابع أن مراسم العزاء على سبيل المثال تختلف في إندونيسيا عنها في بعض الدول الأخرى، فبعد موت الميت بثلاثة أيام تنظم جلسات للاستماع والذكر والتهليل والتكبير، ثم جلسة جديدة بعد أسبوع، وأخرى بعد 40 يومًا، وأخرى بعد 1000 يوم من الوفاة، وهكذا تختلف الطقوس الدينية المرتبطة بمراسم العزاء عنها في أي مكان آخر، لكن تظل العقائد وأصول الدين هي هي في كل مكان.