أهل السنة في إيران: التاريخ والواقع والمستقبل
السبت 12/أكتوبر/2019 - 02:47 م
طباعة
حسام الحداد
ما ان دخل الإسلام بلاد فارس الا وجادت هذه البلاد بكم هائل من علماء الدين في فروع شتى بين الحديث والفقه والتفسير والسيرة، هؤلاء العلماء الذين خرج منهم أئمة كبار من أهل السنة ما زالت لهم يد طولى إلى الآن على العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي.
ومع بداية القرن السادس عشر ظهرت "الدولة الصفوية" الشيعية على الأراضي الإيرانية والتي أثرت بظهورها تأثيرًا كبيرًا على النواحي السياسية والاجتماعية والدينية تجاوزت إيران وتعدتها إلى العراق وتركيا وأفغانستان وصولًا إلى الهند، وكانت سببًا في قطيعة بين إيران والعالم الإسلامي السني منذ ذلك الوقت حتى الآن.
وتبدأ قصة ظهور الدولة الصفوية مع التصوف الذي انتشر على الأراضي الإيرانية بعد الغزو المغولي لها في القرن الثالث عشر الميلادي، هذا التصوف الذي مزج بين التسنن الشافعي وحب آل بيت النبي الكريم وخاصة سيدنا "علي"، والذي سهّل التعامل بين المذاهب السنية والشيعية المختلفة، فالمتصوف يرى لقاء الله هو الهدف الأسمى وليس في اختلاف المذاهب والطرق أثرًا في هذا، ولكن رغم ذلك فغالبية تلك المناطق من أهل السنة الشافعية وكان المتشيعة قلة يتركزون في بعض المدن مثل "إقليم خراسان" و"قم"، و"قزوين"، و"هراة".
ويقول الباحث في التاريخ العثماني كريم عبد المجيد في دراسة له تحت عنوان: "كيف تحولت إيران من التسنن إلى التشيع؟: "انتشرت الطرق الصوفية وكان من بينها الطريقة التي أسسها الشيخ "صفي الدين الإردبيلي" (1252-1334) التركماني السني الشافعي والتي عُرفت بالطريقة الصفوية نسبة إليه، واستطاعت الطريقة خلافًا لغيرها من الطرق أن تتحول إلى حركة ثم إلى تأسيس دولة وسلالة حكم امتدت من عام 1501 حتى 1736، واستطاع أبناؤه وأحفاده من بعده تأسيس بنية هرمية للحركة وقفوا فيها على منصب شيخ الطريقة الأكبر.
صدر قرار بحرق أهل السنة الذين اضطهدوا الشيعة قبل ظهور دولة الشاه، وتم قتل كثير بهذا القرار في أذربيجان، كما جرى هدم الجوامع السنية ونسف المزارات الصوفية النقشبندية وقُمع العديد من الطرق الصوفية الأخرى.
تطورت الطريقة الصفوية وجذبت أتباعا كُثر، حتى أضحت قوة سياسية نافذة في شمالي غرب إيران وشرقي الأناضول في القرن الخامس عشر، خاصة مع تحول الطريقة من الوعظ إلى الجهاد والتشيع مع أحد أحفاد الشيخ صفي الدين وهو "الجنيد" (ت 1460) الذي مثّل نقلة في تاريخ الحركة؛ أدت إلى إعلان حفيده إسماعيل الأول المعروف باسم "الشاه إسماعيل" (1487-1524) قيام الدولة الصفوية الشيعية وتعيين نفسه كأول ملك لها، والقيام بتجميع جنود الحركة الذين عرفوا بعد ذلك باسم "القزلباش" في جيش تحت قيادته، ولعل الدافع القوي الذي دفع إسماعيل لإعلان دولته على التشيع هو تمييزها عن الدول السنية المجاورة لها، وكان فرض التشيع بكل الوسائل المتاحة -كما سنرى- يهدف لإيجاد انسجام ديني ومذهبي داخل المجتمع الإيراني الذي تحكمه الدولة الجديدة.
إعلان المذهب الشيعي وبداية القتال:
تذكر المدونات الصفوية أن إسماعيل اجتمع ليلة الجمعة بأركان دولته، وبحث معهم إعلان الدولة الجديدة على المذهب الشيعي الإثنى عشري، وقد أثار هذا تخوف كثير منهم، خاصة وأن عدد سكان مدينة "تبريز" والذي ينوي الإعلان من خلالها يزيد عن ثلاثمائة ألف شخص، ثلاثة أرباعهم من أهل السنة، وقد تحدث ردة فعل شعبية من الناس ترفض أن يحكمهم ملك شيعي، إلا أن جواب إسماعيل أكد على أنه لا يخشى إلا "الله" و"الأئمة الإثنى عشر" وأنه من يعترض منهم سيفصل السيف رأسه عن جسده.
وفي صباح الجمعة وبينما الناس يتوافدون على "المسجد الكبير" بالمدينة، فوجئ المصلون بانتشار "القزلباش" في الجامع وهم مدججون بالسلاح، وصعد الشاه على منبر المسجد الكبير وأعلن المذهب الشيعي الإثنى عشري مذهبًا رسيمًا للدولة الجديدة، وتذكر المصادر الصفوية أن الشيخ "أحمد الإردبيلي" قد قرأ الخطبة باسم الأئمة، فقوبل الأمر بالترحيب من نصف من كان في المسجد واعترض النصف الآخر على الأمر، وما كان من القزلباش إلا أن استلوا سيوفهم وأسكتوا كل من اعترض على هذا.
انطلق الشاه لاستئصال المخالفين لمذهبه عبر القتل والمطاردة، وصدرت الأوامر بلعن الخلفاء الثلاث في الخطب والأماكن العامة، ومن يرفض من الناس اللعن فمصيره القتل، ومن يُرى وهو يصلي صلاة أهل السنة ستقطع رأسه، كما صدر قرار بحرق أهل السنة الذين اضطهدوا الشيعة قبل ظهور دولة الشاه، وتم قتل كثير بهذا القرار في أذربيجان، كما جرى هدم الجوامع السنية ونسف المزارات الصوفية النقشبندية وقُمع العديد من الطرق الصوفية الأخرى، وقد امتدت يد المطاردة والقتل لأرباب التسنن والتصوف طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
جرى إهمال الحج إلى مكة بزيارة كربلاء، وجرى زيادة الزيارات الطقسية الاحتفالية لأضرحة الأئمة بدلًا من الزيارات التي كانت تتم لأضرحة الصوفية، بغية ربط الإيرانيين بالمؤسسة الدينية الشيعية الشعبية.
ظهرت حالة من الذعر بين سكان المدن الإيرانية والأذربيجانية عند وصول أخبار هذه المجازر إليهم، خاصة وأن الشاه كان يقوم بترهيب المناطق التي يقبل على فتحها قبل أن يدخلها، وينشر بداخلها أن من سيعترض عليه وعلى حكمه ومذهبه فمصيره القتل، فالناس هنا بين خيارين إما إعلان تشيعهم أو استقبال السيف في صدورهم، وقد قامت مذابح كبيرة ضد أهل السنة في كثير من المدن مثل مذبحة "تبريز" والتي يقال إن عدد ضحاياها تجاوز العشرين ألفا، ومدينة "يزد" التي لم يَقل فيها عدد القتلى عن سبعة آلاف قتيل، بالإضافة إلى "كازرون"، و"طبس"، و"مقاطعة خراسان"، و"بغداد" التي دخلها الشاه في أكتوبر 1508 وفيها أمر بفتح قبر الإمام "أبو حنيفة" وإخراج عظامه وحرقها ثم نثر رمادها ثم هدم تربته وحرقها.
أقبل الأهالي في مختلف المدن على التشيع خوفًا من القتل، وكان يتم جلب الأهالي مجموعات مجموعات إلى ميدان كبير ويقوم أحد علماء الشيعة بشرح أسس المذهب ووعظ الناس وتحبيبهم في المذهب، ويقوم عالم آخر عند الانتهاء الأول من حديثه باستقبال الناس على دفعات ليعلنوا موالاتهم لآل البيت وللأئمة الإثنى عشرية وتشيعهم، و من يرفض فمصيره محتوم.
و من الصعب الأن تحديد عدد الذين ينتمون إلى أهل السنة والجماعة في إيران لعدم وجود إحصائيات رسمية يمكن اعتمادها. ولكن هناك إحصائيات تجزم أن عددهم يتراوح بين 18 إلى 20 مليون نسمة من إجمالي السكان أي أكثر من 25% من سكان إيران، أكثرهم من الأكراد بحوالي 8 ملايين، يليهم الشعب البلوشي في المرتبة الثانية.
و يشكل الفرس في إيران الأكثرية بنسبة 51% أما العرب فتصل نسبتهم إلى 3%، وبعض التقارير تتحدث عن نسبة تصل إلى 7%.
كتاب الحقائق الخاص بوكالة الاستخبارات الأمريكية لعام 2012م أشار إلى أن إجمالي عدد المسلمين السنة في إيران يبلغ 9% من إجمالي السكان. وبعض المصادر تقول بأن العدد الحقيقي للسنة يبلغ حوالي 15% أو 20% نصفهم من الأكراد.
أهل السنة في إيران
يتوزع أهل السنة في المناطق الحدودية وفي مناطق متفرقة بعيدة عن بعضها البعض اتفقت التقارير على أنها كالتالي:
محافظة كردستان: يقطنها الأكراد السنة وهي واقعة في غرب إيران ومركزها مدينة (سنندج).
محافظة أذربيجان الغربية: أغلبها من الأكراد السنة وهي تقع في شمال غرب إيران.
محافظة كرمنشاه: الواقعة في شرق وجنوب شرق إيران و يشكل الأكراد السنة أكبر نسبة من سكانها ومركز المحافظة مدينة كرمنشاه.
محافظة خوزستان (الأحواز): الواقعة في غرب وجنوب غربي إيران، أكثر سكانها من العرب السنة.
منطقة تركمن صحراء: الواقعة في شمال إيران، أي من سواحل بحر قزوين إلى الحدود الجنوبية لدولة تركمنستان.
محافظة خراسان: الواقعة في شمال إيران وهي تمتدّ إلى حدود أفغانستان في شرق إيران.
محافظة سيستان و بلوشستان: وهي واقعة في جنوب شرق إيران ويشكل الشعب البلوشي المسلم أكبر نسبة من سكانها. وهذه المنطقة تمتد من جنوب خراسان إلى بحر عمان في الجنوب ومن الشرق إلى حدود باكستان.
محافظة هرمزكان: خاصةً مدينة بندر عباس وضواحيها وجزيرة قشم والمناطق الواقعة على سواحل الخليج وبحر عمان.
محافظة فارس: وخاصة في منطقة (لارستان) وضواحيها وقراها وأيضًا في مناطق أخرى مثل: طلة دار، خور، اوز، خنج، بستك، فيشور وجناح وغيرها من المناطق.
مدينة بوشهر والمناطق والقرى المحيطة بها وأيضًا مناطق: بندر مقام، طاوبندي وكشكنار ومناطق أخرى في جنوب غربي إيران.
ضواحي مدينة خلخال التابعة لمحافظة أردبيل.
منطقة طوالش وعنبران الواقعتان في غرب بحر قزوين في الشمال.
إيران شيعية!
وهكذا بعد أن كانت إيران منذ حوالي 500 سنة سنيّة بالكامل تحولت بالقوة والقتل والبطش إلى المذهب الشيعي، ويجدر التأكيد أن حملات التشييع العنيف هذه فشلت أمام الأقاليم الأبية مثل كردىستان وبلوشستان وجلستان (ذات أكثرية تركمانية)، وأجزاء كبيرة من إقليمي الساحلي وبوشهر التي تسكنها أكثرية سنية.
وتشير التقارير إلى أن إقليم الأهواز أو عربستان، الذي تطلق عليه إيران مسمى خوزستان، يشهد تحولًا ملحوظًا إلى المذهب السني.
أهل السنة في إيران أغلبهم من الأكراد الذين يعتمدون المذهب الشافعي أو البلوش والتركمان على المذهب الحنفي، أما العرق العربي فينتشر في منطقة خوزستان (الأحواز)، ولكن أغلب الأحوازيين شيعة وليسوا سنة كما هو مشهور. والطوالش، وبعض العرب في منطقة لنجة، وبعض الأذريين يتبعون المذهب الحنفي النقشبندي.
تحديد النسل
وقد سبق وأن فرضت الحكومة الإيرانية خطةً لتحديد النسل إلا أنه ورغم الخناق الاقتصادي وتفشي البطالة في الوسط السني شوهد ارتفاع نسبة السنة في البلاد بشكل ملحوظ، ما دفع السلطات الإيرانية إلى ترويج زيادة الولادة وإلغاء التحديد الذي كانت تبنته خوفًا من تغلُّب أهل السنة تعدادًا.
تَغلُّبٌ بات محل تعليق الكثير من المفكرين والمحللين حتى قال عنه الباحث والمفكر الإستراتيجي زبغنيو بريجينسكي:
تجنبوا التفكير في هجوم استباقي على إيران، لأن الوقت والإحصاءات السكانية وتغير النسل ليست في صالح الحكومة الإيرانية أبدًا
الدستور الإيراني وأهل السنة
ورغم أن الدستور الإيراني اعترف بوجود الأقليات الدينية الزرادشت واليهود والمسيحيين وسَمح لها بالتمتع بالحرية في أداء طقوسها الدينية، إلا أن أهل السنة في إيران هم الوحيدون الذين يتعرضون لمضايقات تمنعهم حريتهم في العبادة. فإلى اليوم لا يمكنهم أداء صلاة الجمعة والعيدين على منهج أهل السنة في طهران.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد المساجد لأهل السنة بلغ 10 آلاف مسجد وفق الإحصاءات الرسمية فضلًا عن المؤسسات الدينية السنية في إيران التي توجد في محافظات الشمال وبلوشستان وسيستان على وجه الخصوص، من أشهرها الجامع المكي في مدينة زاهدان في إقليم سيستان يتسع لآلاف المصلين ويُسمح فيه بأداء صلاة الجمعة، أما في طهران العاصمة يقطن بها قرابة المليون سني فيها 15 مسجدًا لأهل السنة أشهرها مسجد صادقيه، لا يُسمح فيها بأداء صلاة الجمعة والعيدين.
كما حُرم أهل السنة غير الفارسيين كالبلوش والتركمن والعرب، من التعلم بلغاتهم، ومُنعوا من إصدار الصحف والمجلات بلغاتهم.
انتهاكات في حق أهل السنة
ولعل من أبرز محطات الاضطهاد الشيعي لأهل السنة أحداث مدينة زاهدان عام 1992م حين هُدم مسجد (الشيخ فيض) في مدينة مشهد من قبل الاستخبارات الإيرانية واغتيل العالم السني البارز «أحمد زاده» على يد سلطات الأمن الإيرانية بدس السم له بعد عملية اعتقاله، فضلًا عن عمليات اعتقال تحت ذرائع مختلفة.
أحمد زاده
وفي الوقت الذي كانت تخرج فيه نداءات الاستغاثة من أهل السنة في إيران إلى الحكومات العربية، كانت الردود مُحبِطة للغاية في رسائل الود والسلام مع إيران.
ومن أحدث أخبار العدوان الشيعي التي وُثِّقت على أهل السنة في إيران ولم تلاقِ صدًى، إعدام 25 من الدعاة والناشطين السنة الأكراد في 2 أغسطس الماضي، فأصدر على إثره أئمة أهل السنة في بلوشستان، وكردستان، بيانات إدانة شديدة اللهجة.
تنديدات أعقبت العديد من الرسائل وجهها الشيوخ إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، للمطالبة بضرورة إعادة محاكمة المعتقلين ولكن لا حياة لمن تنادي.
إعدامات جائرة وردود حكومية خائرة أضحت روتينًا تعود عليه أهل السنة في إيران في ظل صمت مطبق من الدول العربية وأهل السنة في العالم، صمتٌ يدفع الحكومة الإيرانية إلى التمادي في البطش والقتل، والاستمرار في خطة القضاء على أهل السنة في إيران.
وتكفي جولة واحدة على حسابات بعض الناشطين السنة من إيران على الشبكة العنكبوتية، لنكتشف عمق المعاناة التي يعيشها المسلمون في تلك الأرض، فصور الشنق والأجساد المعلقة في خشبات الإعدام لشباب أهل السنة وأئمتهم ودعاتهم متكررة باستمرار، وتعكس درجة الظلم والاستهانة بالدماء التي وصل إليها القوم، ورغم ذلك لم نسمع بتحرك دولي ممن زعموا أنهم دعاة السلام ويحركون الجيوش لأجل الأقليات المضطهدة في العالم بل لم نسمع إلا عن إعادة تفعيل العلاقات وعقد الصفقات وتوسيع دائرة التعاون مع الحكم الشيعي في سبيل هيمنة غربية عالمية ضحيتها أهل السنة.
مستقبل أهل السنة:
أجمع عدد من المفكرين والباحثين المتخصصين في الشأن الإيراني أن المستقبل الاستراتيجي لأهل السنة في إيران يشوبه الكثير من المخاطر، خاصة وأن الدستور الإيراني ذاته يفرق بين السنة والشيعة، مؤكدين أن السنة في إيران هم الأكثر فقرا والأقل تعليما والأبعد سكنا عن العاصمة طهران. فبينما يوجد معبد للزرادشتيه في طهران يمنع أهل السنة في إيران من إقامة مسجد لهم بالعاصمة. مطالبين الحكومة برفع جميع أشكال التمييز المذهبي والقومي التي تمارس ضد أهل السنة، فعلى الرغم من أن الأقلية السنية في إيران، ليست أقلية دينية تعيش في مجتمع مغاير لها في عقيدتها، كالأقليات المسلمة التي تعيش في المجتمعات الأوربية، ولكنها أقلية مذهبية، تعتنق مذهبا إسلاميا مخالفا للمذهب الفقهي (الاثني عشري) الذي تتبناه الدولة. وبالرغم من كونهم يمثلون أكبر أقلية مذهبية في البلاد، إلا إن مستوى تمثيلهم في البرلمان والتشكيل الوزاري لا يتناسب مع نسبتهم العددية.