"الفيصل " تفتح ملف اصلاح التعليم الديني في الخليج
الثلاثاء 23/مايو/2023 - 02:27 م
طباعة
روبير الفارس
ثمة ضرورة لتنقية مناهج التربية الدينية خاصةً، بل هي ضرورة قصوى، ضرورة وجود. فالمناهج التعليمية الدينية لدينا لا تزال تعتمد على التراث الديني التقليدي.
كما ترسّخ واكتمل قبل أكثر من سبعة قرون، وهذا ليس في دول الخليج فحسب، بل في كل الدول العربية تقريبًا، وكثير من الدول الإسلامية. وفي هذا السياق يجب علينا أن نتذكر جيدًا أن المناهج؛ أية مناهج -وخصوصًا المناهج التي تتماس مع موضوع هوياتي، كالمناهج الدينية- إنما هي انعكاس للخطاب الثقافي السائد في المجتمع....من هذا المنطلق خصصت مجلة الفيصل السعودية " مايو 2023 "ملفها الاخير عن " اصلاح التعليم الديني ".
وعن اصلاح مناهج التعليم في دول الخليج كتب الكاتب السعودي محمد المحمود يقول المناهج الدينية تستمد مادتها الأساسية من الخطاب الديني المُشَرعن اجتماعيًّا، من الخطاب الديني المُزَكَّى من قِبل رجال الدين ذوي الموثوقية عند عموم الناس.
وللأسف، الخطاب الديني السائد اليوم في المجتمعات العربية هو الخطاب الديني السلفي التقليدي. ولقد قلتُ ذات يوم وأنا في صدد مناقشة الإصلاح الديني بين الواقع والمأمول: «أصبح الفكر الإسلامي اليوم مُعَبَّرًا عنه بأسوأ تُرَاثَاتِه وأكثرها بلادة وضيقًا بالعقل والحرية، كما هو مُعَبَّرٌ عنه بأسوأ مُفَكِّريه وأكثرهم عبودية وخنوعًا وتقليدًا وتبليدًا»، وطبعًا، هذا النمط من الفكر ذي الأثر السلبي يتسرّب -على نحو تلقائي، وأحيانًا عن قصد، وبتخطيط مسبق- إلى المناهج التعليمية.
ولأن لهذا الفكر التقليدي حاضنة مجتمعية في الثقافة السائدة، فهو مُحَصَّن ضد النقد، وضد التغيير في غالب الأحوال. والمقصود بكونه مُحَصَّنًا ضد النقد، ليس فقط أن ثمّة توجهًا عامًّا -ثقافيًّا ومؤسساتيًّا- يمنع من نقده، بل أيضًا، أن احتضانه الاجتماعي يعني تطبيعه بالضرورة. ومؤكد أن ما ينشأ الإنسان على رؤيته طبيعيًّا؛ يصعب عليه اكتشاف «اللاطبيعي» فيه، أي يصعب عليه رؤية عيوبه؛ إلا بالخروج منه وعليه؛ وقليل من تسمح له الظروف الموضوعية والظروف الذاتية بذلك.
واضاف المحمود قائلا في تقديري أن المناهج لعبت دورًا محوريًّا/ أساسيًّا في الافتراق وقطع سبل التواصل الاجتماعي/ الإنساني بين أبناء الأمة الواحدة؛ وذلك أن هذه المناهج -الدينية تحديدًا- تأخذ مادتها بالكامل من تراث ديني قروسطي، أي من التراث الذي تشكّل على خطوط التماس الصراعية بين الفرق الإسلامية في القرون الهجرية الأولى، إن كل مفاهيم «البدعة» و«الضلال» و«الانحراف العقدي»، «الكفر/ الشرك»…إلخ.
و تشكلت كأداة من أدوات الصراع قبل أكثر من عشرة قرون، وهي ذاتها التي تحكم اليوم رؤيةَ المسلم للمسلم، ورؤية المسلم لغير المسلم، وبخاصة في المجتمعات التقليدية التي يُشَكّل الخطاب الديني بوصلة الاتجاه فيها. وتوجيه الرؤية هنا قد لا يكون دائمًا معبرًا عنه بالتعبيرات التراثية ذاتها، بل قد يأخذ شكلًا معاصرًا، وقد يكون مُتَضَمَّنًا في السلوكيات، أي مُعَبّرًا عنه بلسان الحال؛ لا بلسان المقال.
إن هذا التراث الديني القروسطي الافتراقي الذي لم تمسّه يد الإصلاح الديني الحقيقي بعد؛ كان سيبقى رهينَ دوائر خاصة جدًّا؛ لولا أن مناهج التعليم تكفّلت بتعميمه على أوسع نطاق. فمثلًا، ما كان يقوله الحنبلي عن المعتزلي، أو المعتزلي عن الحنبلي، وما يقوله السني عن الشيعي أو الشيعي عن السني، وما قاله سدنة التقليد الأثري عن الفلاسفة، أو حتى ما قاله فقهاء كل مذهب عن المذهب الآخر، في القرن الثالث الهجري، كان سيبقى رهين المجلدات التي يعلوها الغبار في المكتبات، ولن يطّلع عليها إلا بعض المهتمين. وبالتالي، سيكون تأثيرها ضعيفًا جدًّا، والأهم أنها ستكون مدانة اجتماعيًّا عندما تظهر للسطح في بعض الأحيان؛ لأنها ستكون خروجًا على المألوف الاجتماعي. لكن مناهج التعليم أسّستها في سياق المشروعية الدينية التي تحكم على كل من خالفها بالكفر أو بالضلال أو بالابتداع؛ فأصبحت هي المألوف الاجتماعي!
وتسال المحمود قائلا هل التقدم مرهون بغربلة المدونة الدينية؟ واجاب بلا شك، لا تقدّم دونما تغيير جوهري في مجمل التصورات العامة/ الكلية. وبما أن الذي يُشَكِّل مجملَ هذه التصورات في عالمنا العربي هو الدين بشكل حاسم، وبما أن سائر التصورات الأخرى الموروثة لا تنفك عن مسار جدلية الديني مع التاريخي، فإن أي تغيير لا بد أن يمرّ من خلال إجراء متغيرات نوعية وجذرية على الخطاب الديني.
إن النهضة الأوربية الحديثة لم تكن لتكون؛ لولا حركة الإصلاح الديني. صحيح أن هناك من يرى أن هذا الإصلاح ليس وليد لحظته، بل هو نتيجة لحركة نهضوية سابقة عليه، ولكن هذا جانب من الحقيقة وليس الحقيقة كلها. أقصد أن هذا صحيح إلى حد كبير، ولكن ثمة جدلية/ تفاعلية في الموضوع؛ إذ بقدر ما كان الإصلاح الديني البروتستانتي نتيجة لحركة نهضوية سابقة قادت إليه؛ بقدر ما هو سببٌ لتطور هذه النهضة لاحقًا. وبدونه لم تكن النهضة لتأخذ مسارها التطوري الباذخ الذي فتح الآفاق على عصر التنوير العظيم.
فيما يخصنا؛ ثمة مُقدّمات نهضوية عربية بلا شك. وهذه بدورها تدفع منذ عقود نحو اجتراح إصلاح ديني حقيقي؛ يكون نقطة انطلاق لتقدم تنويري/ حداثي، يقطع مع مواضعات الأسلاف. لكن، هذا الإصلاح الديني الحقيقي الذي هو شرط التقدم لا يزال مفقودًا، لا يزال قيد البحث عنه، لا يزال كثيرون يُحاولون الالتفاف عليه بـ«الإصلاح التوفيقي» الذي يمنح القديم فرصة الحضور في الراهن باسم الجديد. وهذا ما يسمح لواقعة التخلّف بالاستمرار، بل أن تكتسب حيوية جديدة تمنحها القدرة على تعطيب كل محاولات التقدم؛ وباسم التقدم في كثير من الأحيان.
التنقية
وفي الملف كتب الاكاديمى الكويتى د محمد الرميحي يقول المراهنة اليوم هي على كيفية استخدام الإيمان كدافع للتقدم والتنمية مقابل مدرسة أخرى تستخدم بعض مضامينه كوابح ضد التقدم والتنمية. للقيام بذلك يتوجب أن نقرأ التراث قراءة حديثة خارج السياق التفسيري التراثي، أي بالعودة من جديد إلى مقاصد الإسلام الكبرى وهي سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وسوف تظل القراءة ذات المصالح الضيقة حاضرة، إلا أن المعركة الفكرية والثقافية أوجب أن تخاض، من خلال منهجية واقعية.
لا يزال بيننا من المشعوذين من يجعل نفسه زعيمًا ومفسرًا للنصوص ويروج إلى أن مصالحه هي من أصول الدين، ويضرب بعرض الحائط المصالح المرسلة للناس وما يفرضه المنطق والتفسير السليم. يمكن معرفة هذه المدرسة من خلال إسقاطها للزمن؛ فبمجرد طرح أي قضية نجد هؤلاء الأشخاص يسارعون لاستدعاء ما حدث في غابر العصور، بمنهجية أقرب إلى الخرافة.
واضاف الرميحي قائلا ان الأكثر إلحاحًا بجانب تنقية المناهج هو تدريب المدرسين القائمين على التعليم في المدارس؛ فهؤلاء هم حجر الزاوية في إصلاح المفاهيم وتصويب الأخطاء. كما أن منهج الحوار مطلوب في كل درجات التعليم، وفيه ينبغي الاعتراف أن الإنسانية في تطورها قد مرت على الأقل بثلاثة أطوار في التفكير: الطور اللاهوتي وربما الخرافي، والطور الميتافيزيقي المجرد، والطور الذي نعيشه هو الطور العلمي التجريبي الذي أوصل الإنسانية إلى ما هي عليه من تطور، وبفضله أصبح العالم أكثر قربًا وأكثر تسامحًا مع المختلف معه. كما ينبغي التأكيد أن غرض البشرية الأسمى هو إعمار الأرض وتحقيق سعادة الإنسان.من هذا المنطلق يتوجب أن ننظر إلى تنقية الدين مما لحق به من ممارسات كانت سبيلًا فقط للشهوات السياسية والتكسب المصلحي.
محورين
واكد الباحث الكويتى "مشاري الأسود" علي ان مناهج التربية الدينية في بلدان الخليج لم تسهم بطريقة فعالة في تطوير المفهوم الديني للمجتمع، بل كان لها دور سلبي وغير متزن في توضيح العلاقة بين الدين والواقع الاجتماعي، ولم تكن هناك رؤية واضحة لتحديد ملامح هذه العلاقة، وهذا أمر ما زال غير واضح، ويحتاج إلى رؤية جديدة تساهم في خلق حالة من الفهم الواضح للدين بطريقة سليمة.
ويمكن أن يتحقق الإصلاح الديني من خلال إصلاح مناهج التعليم عبر محورين؛ الأول يقوم على توفير خطط واضحة ومتطورة، من أجل تطوير العملية التعليمية كاملة، سواء عبر تغيير المناهج وتحديثها بما يتوافق مع روح العصر الحديث، وتنقيتها من كل ما يدعو إلى التعصب ورفض الآخر، والتكريس لما يدعونا إلى التسامح والتآخي، فضلًا عن التفكير والتأمل وإعمال العقل، وليس التكريس لأن يكون العقل مجرد آلة حفظ وتفريغ، فهذا ما قد يضمن لنا تطويرًا عمليًّا وحقيقيًّا للعملية التعليمية، وتغذية جادة لها بالتعاليم الدينية الصحيحة.
أما المحور الثاني فيقوم على العناية بالمعلم والمتعلم، فهما القطبان الرئيسان في العملية التعلمية، ولا بد أن تقوم الحلقة التي تجمع بينهما على أساس صحيح، حيث الفهم الصحيح لضوابط الدين، ومعرفة قواعده التاريخية وتعاليمه الصحيحة، فأي محاولة خارج العناية بهذين القطبين هي محاولة غير صائبة، ولن تؤتي ثمارها، ولن تضمن لنا عملية تعليمية صحيحة، ولا تطويرًا حقيقيًّا لمفهومنا عن الدين. ومن ثم فلا بد من تدريب المعلم والمتعلم على الفهم الصحيح لضوابط الدين، ومعرفة قواعده وتاريخه وتعاليمه.