السهام الموجهة للبابا شنودة الثالث في مئوية ميلاده..

الخميس 17/أغسطس/2023 - 12:27 م
طباعة
 
اعتدنا على متابعة الحروب الموجهة ضد قداسة البابا شنودة في حياته. أما أن تستمر منذ رحيله عام 2012 ليومنا هذا، فيعني قوة تأثيره وتعليمه الذي تركه ميراثا ثابتا لكل الأجيال! مما أثار حنق وغضب البعض ممن علا صوتهم فجأة بانتقادات ساخرة ومتهكمة.. بهدف استفزاز الأقباط بتأويل وتزييف تاريخه ومواقفه، أقواله، والإدعاء عليه كذبا بما لم يفعل ولم يقل، بل ولم يفكر فيه من الأساس! ومنهم من يحاولون قراءة فترة رئاسته للكنيسة برؤية سلبية يغيب عنها المنطق والمصداقية، متنكرين لدوره الأبوي كراع صالح أمين على شعبه!
تجيء تلك الحروب المتجددة، في ظل احتفالات الكنيسة الأرثوذكسية بمرور 100 عام على مولده (3 أغسطس 1923 -2023! تذكارا لدوره وتبجيلا لمكانته كرجل وطني، ساهم في تأكيد انتماء الأقباط لبلدهم، وترسيخ قيمة دورهم كرمانة ميزان هذا الوطن – مثلما قال الأستاذ محمد حسنين هيكل! كما ساهم في تتويج الكنيسة الأرثوذكسية المصرية كرائدة روحية للكنيسة بالعالم حينما لُقِب ببابا العرب ومعلم الأجيال! وغيرها من الإسهامات والإنجازات التي قام بها قداسته عبر تاريخه الطويل.. لا تكفي تلك السطور لحصرها والحديث عنها!
مؤامرات الأشرار

فلا تدرك الجهات المدفوعة لكسر وحدة الوطن عبر مهاجمة البابا شنودة.. أن الأقباط ليسوا كتلة صماء تتلقى الخطب والرسائل الموجهة بدون إفراز ولا تفكير! وهم الذين نشأوا وعلى تعاليمه لمدة 40 سنة كاملة، تعلموا منه التدقيق وغربلة ما يسمعون! أما بعض الأقباط المتكبرين، فبأنانية، خرجوا يثيرون الدنيا ضده حينما رفض تعديل قانون الأحوال الشخصية، بدون مراعاة لظروف الكنيسة وقتها! وكأنه من الطبيعي ان يسترشد هو بآرائهم وليسوا هم الذين يتبعونه ويسترشدون بتعاليمه!
كذلك بعض الذين يسيئون إليه طلبا للشهرة، وتطبيقا لمبدأ خالف تعرف، أو ممن يدافعون عن مصالح طوائفهم الدينية المختلفة بالإساء إليه.. دونما يعلمون أن غالبية الأقباط لايزالون على وفائهم ومحبتهم لأبوته، يفتقدون حنوه كراع حقيقي، ويشعرون بالفراغ بعده.. وهو الذي اعتاد أن يجيب على تساؤلاتهم، ويشاركهم بالصلاة في أزماتهم، ويبعث الهدوء والطمأنينة في قلوبهم لمواجهة مشاكلهم وضيقاتهم، مشجعا لهم في حروبهم ضد الشيطان ومؤامرات الناس الأشرار التي تضربهم وتخيفهم.. باعتبار هذه المهام أهم ما يميز دور الراعي.
"... هاتسلم الكنيسة للمسيح"
ولكنهم لا يفتقدون تعاليمه.. لأنهم يعلمون أين يجدونها! فبرغم انقضاء إحدى عشرة سنة كاملة منذ انتقال البابا شنودة للسماء، لايزال الكثيرون يلجأون إلى عظاته وكتبه وأشعاره ونبذاته وحواراته وآرائه.. لثقتهم فيما يقول، باعتباره بابا التعليم والدفاع عن الإيمان المسيحي بالفعل والقول. الأسد المرقسي الذي لم يترك مجالا لم يتحدث فيه بطريقة روحانية راقية، مواجها جميع تيارات البدع والهرطقات والأفكار، حتى تنبأ عليه أحد كبار الرهبان قائلا له: انت اللي هاتسلم الكنيسة للمسيح! تلك المقولة التي فسرها البعض بأنه البابا الذي سيفتقد الناس تعليمه بعد انتقاله للسماء!
فليومنا هذا، لم تسجل أجهزة الانترنت والكمپيوتر اقبالا على عظات رجل دين مسيحي أرثوذوكسي معاصر.. مثل البابا شنودة! ببساطة أسلوبه السهل والممتنع معا! الممسوح بموهبة وحكمة الروح القدس في الوعظ والتعليم الصحيح الذي لم يخلُ من العمق والحسم وقوة الحجة والشجاعة. فاستحق لقب معلم الأجيال، وذهبي الفم، وأب الإرشاد والتعليم لمختلف الفئات والأجيال التي ربما لم تره، ولكنها تبحث عنه.. في وقت ندر فيه الإرشاد والتعليم المسيحي المؤثر الأصيل! حتى تعلم الجميع أن في عظات البابا شنودة وتعاليمه تأتي الإجابة والإرشاد على كل سؤال!
ويقدر عدد العظات التي تركها البابا شنودة بحوالي 1500عظة بين الوعظ الروحي والديني والفكري والثقافي والاجتماعي، بالإضافة لما يقرب من 150 كتابا ونبذة مطبوعة... تنوعت جميعها بين شرح وتفسير العقيدة واللاهوتيات وأسفار الكتاب المقدس، والتدريبات لمواجهة الحروب الروحية والحياتية، معطيا هو بذاته المثال الحي لتطبيق ما يعظ به.. فلا ينسى الناس أقواله التي رأوها في أفعاله!
قيثارة داود
وبالإضافة لمواهبه الكاريزماتية الأخرى كالكتابة الصحفية وتأليف الشعر الروحي، والذكاء الاجتماعي، وسرعة البديهة وخفة الروح وكرم العطاء.. لا يمكن تغافل عاطفية وعذوبة صوت البابا شنودة! فأزعم أنه مثلما كانت قيثارة داود النبي تهديء روع شاول وتذهب عنه الروح الرديء.. امتلأ صوت البابا شنودة بالقوة الروحية التي تُطمئِن النفس المضطربة وتُذهِب الخوف عن القلب المرتجف! وقد اعتاد كواعظ محنك أن يطوع ذلك الصوت هبوطا وصعودا، وقوة وضعفا، مطعما وعظه بالقصة والمعلومة والابتسامة، ليُحِدث التأثير المطلوب بالقلب والعقل.. فلا تخرج الكلمة فارغة أبدا من ذاكرة السامعين!
من الطبيعي -إذن- أن يستمر الهجوم على قداسة البابا شنودة، حتى بعد رحيله! فالنخلة المثمرة هي التي يقذفها الناس بالحجارة! ولربما كانت مدة رسامته الطويلة.. بما حملت من مواقف وأحداث سياسية وتغيرات اجتماعية وثقافية.. هي التي شجعت بعض أبنائه على انتقاده، الذي وصل أحيانا لحد الاستباحة والتطاول، والمبالغة والافتتات، وتأويل أقواله وأفكاره.. بل والنبش في ضميره وإدانته، وتصويره كمن يظهر في سلوكه عكس ما يبطن!
حاكموه...
فنصب البعض نفسه قاضيا وحاكما على مواقفه دون العلم بكافة الأمور، ودون سماع القصة من طرفه! فحاكموه على ما كتب وقال قبل الرسامة، وحاكموه على ما لم يفعل بعد الرسامة! وحاكموه على إدارة علاقاته وخلافاته العقائدية مع بعض الشخصيات، وحاكموه على قرارات الحرمانات التي اتخذها، وعلى رسامة الأساقفة الشباب، وعلى دور ابن اخيه في أسقفية الخدمات و..و..و.. دونما يفكر أحد في سماع وجهة نظره! بل حتى لو سمعوا وعرفوا.. لن يتوقفوا عن قذفه بالحجارة! وسيظل البابا شنودة مثيرا لشهية المختلفين معه!
ولا يعني هذا، الإدعاء بأن البابا شنودة لم يكن يخطيء كباقي البشر. فالكتاب المقدس يخبرنا أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطيئة، بل قال أن الجميع أعوزهم مجد الله! وليس خفيا ما كان يتردد عن أسلوب إدارته التقليدي والمتشدد، وكيف كان "ودنيا"، يعطي ثقته العمياء لمن نجحوا في التقرب إليه..و..و..! فأتذكر حينما أجريت مع قداسته حوارا  لمجلة صباح الخير إثر قراره بمعاقبة الأقباط الذين سافروا إلى القدس، وأصر على أن يقدموا اعتذارا مكتوبا عبر صفحات الجرائد، مما أثار ضيقي وتساؤلاتي عن الحكمة وراء هذا الأسلوب! فسألته إذا ما كان يتخذ قراراته بناء على توجيه مباشر من السيد المسيح؟ أم ماذا؟ فقال لي: هناك قرارات أتخذها بناء على الخبرات الشخصية. ولسان حاله يقول لي: أنا بشر!
وقد أثبت الوقت أن قراراه كان سليما، ولكن غيرته المتقدة على الأقباط أظهرته حادا في أسلوب اتخاذ قراره هذا!
محبة الناس له
على أي حال، لسنا بصدد محاكمة البابا شنودة، فالكلمة الأخيرة يكتبها التاريخ، ومجمل أفعال الإنسان هو خير محام عنه! ومع هذا، لا يستطع أحد منع انتقاده كأي شخصية عامة! وإنما كيف ولماذا وبأي هدف؟ هذا هو المهم! خاصة وأن السيد المسيح نفسه شجعنا على عدم الغفلة في التعامل مع رجال الإيمان قائلا: "كل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون” (مت23: 3). فهل كان البابا شنودة يقول ما لا يفعل؟
فما الهدف من افتراء البعض على تاريخه -إذن-؟ ولماذا نفتش في عيوبه؟ لنثبت للناس أنه لا يستحق تلك المحبة والتقدير! بحجة الخوف عليهم من تقديسه أكثر من المسيح – كما يدعي البعض-!
وما الخير من إدانته والهجوم عليه بتسليط الضوء على بعض عيوبه الشخصية؟ وما الحكمة من النبش بالملقاط في تصرفاته وتأويلها؟ طالما لم تؤثر تلك العيوب على دوره كراع للكنيسة! وطالما لم يكن منافقا ويدعِ عكس ما كان يعظ به! ولم يجاهر بعيوبه ولا اعتبرها أمرا عاديا! بل كان شجاعا، ولطيفا وحكيما ومفكرا و...و..! فلماذا نلوم البابا على محبة الناس له؟ وقد رأيناه يمجد الله في مواهبه الكثيرة التي منحها له، أكثر مما لمسنا فيه من العيوب! وقد علمنا البابا نفسه أن نبحث عن الحكمة وراء كل ما نكتب وندقق فيما نقول! واخيرا،  أعجبتني جملة البابا تواضروس  بإحدى عظاته حينما قال: أحبب الجانب الحلو  في الإنسان!

شارك