د نجيب جورج عوض : "المسيحية الاموية "يكشف تشكّل هوية مسيحيو سوريا وفلسطين في مطلع الإسلام

الثلاثاء 02/يوليو/2024 - 01:57 م
طباعة د نجيب جورج عوض : حوار روبير الفارس
 

- لاتوجد معطيات تاريخية نصوصية أو سياقية أو سواها تثبت الادعاء بمسيحية الأمويين
-من الخطا قراءة العلاقات المسيحية الإسلامية في العصر الأموي علي اساس  صراع لاهوتي
روبير الفارس
بروفسور دكتور نجيب جورج عوض (Prof. Dr. Phil.; Dr. Theol. Habil.)  أستاذ جامعي وباحث أكاديمي ومترجم (عربي-إنكليزي-عربي) وشاعر سوري المنشأ، أمريكي الجنسية. متخصص في الفكر الديني وعلم الكلام الإسلامي-المسيحي في العصر الإسلامي المبكر والعصر الحديث وفي دراسات الشرق الأوسط البيحقلية. بروفسور عوض يحمل درجتي دكتوراه فلسفة. الدكتوراه الأولى في علم اللاهوت العقائدي/الفلسفي من الكلية الملكية في جامعة لندن، بريطانيا (2007)، ودرجة دكتوراه بروفسور فلسفة تأهيلية ثانية في علم الكلام المسيحي-الإٍسلامي في العصر الإسلامي المبكر من جامعة ماربورغ، ألمانيا (2014).
حتى نهاية يونيو 2021، كان يتبوأ منصب بروفسور علم اللاهوت والفكر المسيحي المشرقي ومدير برنامج دكتوراه الدراسات الإسلامية والعلاقات المسيحية-الإسلامية في كلية هارتفرد للدراسات الدينية والبين-دينية في ولاية كونكتكت، الولايات المتحدة الأمريكية. يقيم حالياً في مدينة فيينا في النمسا ويعمل كباحث مشارك في مركز دراسات اللاهوت المقارن والشؤون الاجتماعية في جامعة بون ألمانيا وباحث مشارك في قسم الدراسات اللاهوتية والدينية في جامعة تشارلز، براغ، جمهورية التشيك. قدم عدد مميز من المؤلفات  بالعربية :
1- "قصة الآلام في إنجيل متى: دراسة نقدية تاريخية روائية", (الـقاهرة، دار الثـقافة, 2003).
2- " طقوس حافية" (ديوان شعر) (دمشق: دار كنعان, 2003)
3- "الله, الإنسان والشر: دراسة لاهوتية-وجودية" (بيروت: دار قدمس للدراسات والنشر, 2005)
4- على شفتي قبلة لن أحصل عليها (ديوان شعر) (بيروت: الغاوون، 2009)
5- لا أحمل اسم أحد الملائكة (ديوان شعر) (بيروت: دار أثر، 2012)
6- الخريف من معارفي (ديوان شعر) (روما/بيروت: دار المتوسط، 2016)
7- مابعد الحداثة ومستقبل الخطاب الديني في الغرب، (الرباط/دبي: مؤمنون بلا حدود، 2017)
8- أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى: دراسات في الثقافة، والدين والسياسية (عمان/بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020)
9- موت الميتافيزيقيا بين اللاهوت والفلسفة: دراسة مقارنة (بيروت: مؤمنون بلا حدود، 2022)

- المؤلفات بالانجليزية:
1- God without Face? On the Personal Individuation of the Holy Spirit, Mohr Eibeck, 2011.
2- And Freedom Became a Public-Square: Political, Sociological and Religious Overviews on the Arab Christians and the Arabic Spring, LIT Verlag, 2012
3- Persons in Relation: An Essay on the Trinity and Ontology, Fortress Press, 2014
4- Orthodoxy in Arabic Terms: A Study of Theodore Abū Qurrah’s Trinitarian and Christological Doctrines in an Islamic Context, De Gruyter, 2015
5- Umayyad Christianity: John of Damascus as a Contextual Example of Identity Formation in Early Islam, Piscataway, NJ: Gorgias Press, 2018.
6- After-Mission Beyond Evangelicalism: The Indigenous ‘Injiliyyun’ in the Arab-Muslim Context of Syria-Lebanon, Leiden: & Boston: Brill, 2020.
.   
–  وله أبحاث لاهوتية ودينية أكاديمية منشورة باللغة الإنجليزية في مجلات علمية أكاديمية مختصة ومحكمة في أمريكا وكندا وألمانيا وبريطانيا وهولندا والبرازيل وإيطاليا.
- كما نشر العديد من المقالات  العلمية الفلسفية والثـقافية والسياسية والقصائد الشعرية في العديد من الجرائد والدوريات والمجلات الألكترونية الثـقافية والبحثية العربية المحكمة.

ومؤخرا صدر له كتاب " المسيحية الاموية يوحنا الدمشقي كمثال سياقي لتشكل الهوية مطلع الاسلام " و الكتاب ليس سرداً تاريخياً عن حياة يوحنا الدمشقي الذى يعد من اشهر الشخصيات المسيحية في هذه الفترة . وإنما هو دراسة عن حياة المسيحيين المشرقيين في العصر الأموي (661-750)، وينظر الكتاب في الدين واللاهوت من سياق ثقافي عام. فهو يرى أن الدين في الحضارة العربية الإسلامية لم ينفصل عن السياق الثقافي، ولم يُعامل على أنه خطاباً أيديولوجياً عقائدياً أو فقهياً، بل كان الشأن الديني جزءاً لا يتجزأ من المعرفة الثقافية عند الناس بمختلف مذاهبهم وطوائفهم. فالكتاب هو عملية تشكّل الهوية التي شهدها مسيحيو سوريا وفلسطين في مطلع الإسلام.وحوله دار هذا الحوار
في البداية مالمقصود بالمسيحية الاموية ؟
مصطلح "مسيحية أموية" هو العنوان الذي اخترته، وأصريت عليه، لكتابي الذي صدر عام 2018 بالإنكليزية عن دار جورجياس بريس في الولايات المتحدة الأمريكية (Gorgias Press, USA). اقترح علي الناشر الأجنبي أن يكون العنوان شيئاً من قبيل "المسيحيون في العصر الأموي" أو "المسيحيون في ظلال الخلافة الأموية". ولكنني رفضت هذا. أولاً، أنا لا اتحدث في كتابي عن وجود المسيحيين في العصر الأموي وكأنهم جماعة قائمة بذاتها منعزلة عن محيطها الدولتي والمجتمعي العام وتعيش مع الفضاء المسلم الذي تمثله الأموية علاقة تماسية وتضادية وكأنهم جماعة منطوية على نفسها ولا تنتمي لسياقها الحياتي التاريخي. هناك باحثون استشراقيون غربيون عديدون يتحدثون عن المسيحية في العالم والتاريخ الإسلاميين بهذه الطريقة في العالم الأكاديمي، مما يعطي انطباع بأن المسيحيين عاشوا أزمة هوية وانتماء في قلب وطنهم الأم. ثانياً، أنا لا أتحدث هنا عن "أموية مسيحية"، بل عن "مسيحية أموية". هناك مستشرقين من بدايات القرن الماضي (مثل هنري لاميس، مثلاً) الذين مالوا لاقتراح أن الأمويين كانوا مسيحيين في فكرهم وممارساتهم وعقليتهم وحتى ميولهم. أنا لا أحاول في كتابي أن أثبت هذا الدعاء بمسيحية الأمويين، فليس لدينا اي معطيات تاريخية نصوصية أو سياقية أو سواها تثبت لنا هذا الأمر. أنا أسعى في كتابي كي أشارك القارئ نتائج بحثي في شؤون ومسارات تشكيل-الهوية والوجود التي عاش فيها المسيحيون في منطقة سوريا-فلسطين عشية تأسيس الحكم الأموي في تلك المنطقة. ما توصلت إليه بعد بحث عملي دقيق ومضني وشامل استغرق أربعة سنوات هو أن المسيحيين في المنطقة المذكورة اختاروا الانتماء إلى الفضاء الحضاري والثقافي والاجتماعي الجديد الذي اقترن بالخلافة الأموية (خاصة فترة حكم الأسرية السفيانية لمعاوية بن أبي سفيان وذريته)، وأنهم اعتبروا أنفسهم صناعٌ مشاركون في بناء وتأسيس الحضارة والقوة الجديدة في المنطقة وقد كانوا جزءاً عميقاً وفاعلاً وحاضراً ومشاركاً فيها. لهذا، نستطيع علمياً أن نتحدث عن مسيحيين انتموا إلى، بل وشاركوا في صناعة، الهوية العربية الأموية في القرنين السابع والثامن للميلاد/الأول والثاني للهجرة.
 
ولماذا اخترت هذه الفترة تحديدا للكتابة عنها ؟
يمثل القرنان السابع والثامن للميلاد/الأول والثاني للهجرة مرحلة تاريخية محورية وانعطافة عميقة التأثير في تاريخ منطقة الشرق الأوسط القديم. هي مرحلة تبدلات بنيوية وجوهرية عميقة جداً في نسيج حياة وسياق تلك المنطقة السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والحضاري، والديني، والوجودي وسواها. وقد شهدت تلك المرحلة فترة خلق مسارات تشكيل هوية جديدة ومحورية في تاريخ تلك المنطقة. وأنا في أبحاثي العلمية البين-حقلية (الدراسات التي تجسر ما بين الحقول العلمية المعرفية المختلفة والتي تتيح لحقل علمي ما أن يستفيد من منهجيات البحث التي تستخدمها الحقول العلمية الأخرى) أهتم كثيراً بمسألة دراسة العلاقة والتفاعل التطالعي ما بين الفكر الديني ومسارات تشكل الهوية القائمة على وعي-الذات ووعي-الآخر والمغايرة والتلاقح وسواها. أحاول أن أدرس كيف أثر الفكر والوعي الديني وتأثر أيضاً بالفكر والوعي المتعلقة بفهم الذات إنسانياً واجتماعياً وانثربولوجياً وثقافياً، وخاصة في مراحل تاريخ الإسلام المبكر أو العهد العتيق المتأخر، حيث نشهد تلاقي وتفاعل وتلاقح متعدد أديان ما بين الإسلام والمسيحية واليهودية. وقد أردت أن أكتب عن هذه المرحلة الأموية منذ عام 2014، أي بعد أن أنهيت دراستي وتأليفي لكتابي الأقدم عن علم الكلام المسيحي العربي في العصر العباسي المبكر (القرن التاسع للميلاد/الثالث للهجرة) وعن نصوص عالم الكلام المعتزلي المسيحي ثاودوروس أبو قرة (السوري الملكاني الأرثوذكسي الخلقيدوني من مدينة حران)، أول نصوص علم كلام مسيحي معتزلي مكتوبة بالعربية للحوار مع علم الكلام الإسلامي (صدرت تلك الدراسة ككتاب بالانجليزية في ألمانيا عام 2014). في اثناء دراستي تلك، لاحظت الصلة العميقة ما بين أبو قرة ويوحنا الدمشقي وما بين رحلة تشكيل الهوية التي عبرها المسيحيين في العصر العباسي وتلك الرحلة التي قاموا بها في العصر الأموي. فأردت أن اقارن بينهما وأن أرى كيف تبدلت مسارات تشكيل الهوية والفكر الديني المذكورة ما بين الزمنين والخلافتين. ولهذا، انا أعتقد أن من يقرأ كتابي عن يوحنا الدمشقي والمسيحية الأموية ينبغي أيضاً أن يقرأ كتابي عن ثاودوروس أبي قرة والمسيحية العباسية في كتابي لعام 2014، فهما يشكلان فصلين من مجلدين بطريقةٍ من الطرق.

ماهي الافكار الرئيسية لكتابك واهدافه ؟
يقدم كتابي، المسيحية الأموية، أطروحة واحدة بأذرعٍ متعددة، ألخص مضامينها كما يلي:
- من الخطأ الفادح قراءة العلاقات المسيحية الإسلامية في العصر الأموي، خاصة القسم الأول للخلافة السفيانية منه، على أنه صراع عقائدي ولاهوتي بين أديان، بل يجب قراءته على أنه مسار تحولٍ بنيوي وانعطافة عميقة عاشها كل من المسيحيين والمسلمين في سوريا-فلسطين ضمن مسار صراعات تشكيل هوية ثقافية وحضارية وسياسية وسوسيولوجية.  
- لم يكن الإسلام الأموي لحظة إعلان انتهاء وزوال التراثات والحضارات الدينية والثقافية التي أتت قبله (الساسانية في الشرق والجنوب، والبيزنطية في الشمال والغرب)، بل كانت الحضارة العربية الأموية الطفل أو المولود الأخير للعصور العتيقة المتأخرة (Late Antiquity) والذي لم يضع نهاية هذه العصور، بل احتضنها وتابع إبراز وتتويج أفضل إسهاماتها.
- لم يكن المسيحيون الأرثوذكس الملكانيون (أهل سوريا وفلسطين) موجودين جسدياً في أرض الخلافة الأموية ولكنهم مأخوذين فكراً وعاطفةً وقلباً وروحاً وولاءً لبيزنطة في القسطنطينية. بل كانوا قلباً وقالباً وروحاً وعقلاً وخياراً وانتماءاً من صلب الأمبراطورية الأموية الناشئة وأحد الخالقين لهويتها.
- إن نظرية انتماء يوحنا الدمشقي (اللاهوتي المهم جداً في تاريخ المسيحية) للفكر البيزنطي لمجرد أنه تحدث اليونانية وكتب بها، والتي انتشرت لعقود طويلة جدأً في العالم الأكاديمي الاستشراقي غرباً وشرقاً، هي نظرية خاطئة وغير دقيقة تاريخياً. فيوحنا منصور الدمشقي ابن سرجون ابن منصور الرومي، كان سورياً من أهل المنطقة وقد انتمى للهوية الأموية وكان من أنباءها الثقاة، وقد عمل في بلاط أكثر ممن خليفة أموي وكان مشرقياً من الموالي بسحنةٍ داكنةٍ يلبس عمامة ويتهمه البيزنطيون بأنه "ذو عقل سارائي (أي مسلم)). وحتى حين انصرف للرهبنة والعمل الروحي واللاهوتي في آواخر أيامه، فهو كان يكتب نصوصه لمخاطبة أهله المسيحيين الأمويين في سوريا-فلسطين وليس لمخاطبة مسيحيي بيزنطة والقسطنطينية.
-إن افضل منهجية لدراسة المسيحيين في العصر الأموي (وحتى العباسي) الإسلامي المبكر وكيفية تطويرهم لمساراة هويتهم السوسيولوجية والثقافية والدينية واللاهوتية لا تقوم على استخلاص معطياتٍ عن هذه الأمور من خلال الاكتفاء بقراءة ما نجده في النصوص الباقية من ذاك العصر. إن المنهجية الصحيحة تكمن في قراءة تلك النصوص والانطلاق في جمع المعطيات المذكورة من السياقات والمعطيات السياقية بحيقث نتبع خط "من السياق باتجاه النص" وليس العكس.   
كيف شارك المسيحيين في صناعة حضارة الإمبراطورية الأموية؟
شاركوا من خلال عملهم في جهاز حكم الخلافة ومؤسسات الإدارة فيها. فكانوا من مستشاري الخليفة ووزراءه ومدراء بيت المال والعاملين ككتاب له وللأمراء الحاكمين في الأقاليم. وكانوا يعيشون كمواطنين من أهل الخلافة وليس كرعايا غرباء يحظون بالحماية. أي أنهم لم يكونوا يعيشون وقتها حالة "أهل الذمة". هذه الحالة الأخيرة ظهرت على الساحة في النصف الثاني من العصر العباسي وخاصة عصر الخليفة المتوكل وما بعده... في العصر الأموي، لم يكن المسيحيون أهل ذمة، بل مواطنون كاملوا الوجود والحقوق مثل غيرهم من أهل الخلافة...
هل تاثرت بكتاب " حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة"لمايكل فليب بن.؟
أنا مطلع على دراسات مايكل فيليب بن، ولكنني لم استعن بكتابه المذكور, فهو، برأيي المتواضع، ليس من أفضل الدراسات التي قام بها. الكتاب الذي اعتمدت عليه في كتابي، والذي ستجدني أذكره في قائمة المراجع المستخدمة آخر الكتاب، هو كتابه القيم، تصوُّر الإسلام: المسيحيون السريان والعالم الإسلامي المبكر (Envisioning Islam: Syriac Christians and the Early Muslim World)، والذي صدر أيضاً عام 2015.  لا أعرف لماذا أختار المترجمون العرب ترجمة كتابه الذي ذكرته أنت وليس كتابه الذي أذكره هنا. ولكن، العمل الترجمي في العالم العربي لا يتبع، بحسب مراقبتي، أي قواعد علمية ومنهجية واضحة في انتقاء ما يترجم وما لا يترجم.

الكتابة عن يوحنا الدمشقي امر شائكا ؟ فمن اي جانب تناولته وهل تمثل كتاباته عن الاسلام مناظرات جدلية ام حوار اديان مبكر ؟ وماهو تقيمك له ؟
الكتابة عن أي شخصية تاريخية عموماً ليس بالأمر السهل، خاصة وأن الباحث يحتاج أن يجمع معطيات علمية أقرب للموثوقة (التاريخ يتعامل مع الأرجحيات وليس الحتميات) من مصادر ومراجع تاريخية قليلة ومتنوعة ومتعددة الطبائع ويعصب التعامل معها. عادة ما يقارب الباحثون في الدراسات اللاهوتية والبيزنطية شخصية يوحنا الدمشقي مقاربات تتمركز حول مؤلفاته ومضامينها اللاهوتية والروحية وأدوارها الكنسية في تاريخ المسيحية البيزنطية والأرثوذكسية. أما في كتابي، فقد تجنبت التحليل والتفسير اللاهوتي والديني الصرف، واخترت أن اقارب يوحنا الدمشقي ونصوص معينة من أرثه الذي بقي بين أيدينا مقاربة بيحقلية (interdisciplinary) وباستخدام مناهج البحث العلمي والتفكير المعرفي المستقاة من حقول العلوم الاجتماعية، خاصة حقول البحث في مسائل تشكيل الهوية وعلاقة الفكر والمخيال الديني بالوجود السوسيولوجي والانثربولوجي والثقافي والتثاقفي.
أما فيما يتعلق بكتابات يوحنا الدمشقي الباقية بين أيدينا، فهي تختلف بطبيعتها عن النصوص اللاهوتية والعقلانية الصرفة التي نسميها نصوص علم الكلام المسيحي العربي، والتي بدأت بالظهور والانتشار في مطلع العصر العباسي (النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد/الثاني للهجرة وصولاً إلى القرن الحادي عشر للميلاد/الخامس للهجرة ومابعده) وقد امتازت بسويتها اللاهوتية والفلسفية والفكرية العالية والعميقة والتي تعاطت مع الفكر الديني الإسلامي وشرحت العقائد المسيحية الجوهرية للمسلمين بإسهاب وعقلانية وتفاعل حواري وتطالعي عميقين جداً. لدينا في إرث يوحنا الدمشقي نص مشهور ورسمي يتحدث فيه عن المسلمين وإيمانهم ويسميه "حول الإسماعيليين" وهو الفصل رقم 100/101 من كتاب له عنوانه في الهرطقات، والذي يمثل المجلد الثالث من عمل يوحنا الفكري الثلاثي الأجزاء المسمى، ينبوع المعرفة. هذا هو النص الوحيد المثبت تاريخياً بأن يوحنا الدمشقي كتبه عن الإسلام، وأنا احلل هذا النص وأفسر الكثير من عناصره وأفكهها من مقاربة سياقية بين-حقلية. برأيي الخاص، لا يمثل هذا النص لا مناظرة جدلية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا حوار أديان مبكر فعلياً. النص أقرب للمقدمة التعريفية الهجائية اللاذعة التي تفكك ما عرفه يوحنا والمسيحيون الأمويون عن الإسلام كأيمان وكممارسة دينية وعن نبيه محمد وما كان يتداول شعبياً عن معتقدات المسلمين وأرائهم حول معتقدات المسيحيين. غلا أن النص لا يحتوي، كما ابين في كتابي، خطاباً لاهوتياً متكاملاً وتحليلاً عقائدياً أو دينياً فكرياً صريحاً ومسهباً للفكر العقائدي الإسلامي. هو أقرب للنص المكتوب كي يتم تداوله سرياً ضمن حلقة ضيقة من أصدقاء وزملاء يوحنا الرهبان في دير مار سابا، وقد وجد طريقه إلى النشر ضمن مجلد في الهرطقات بعد وفاة يوحنا وبعمل من أحد تلاميذه. هذه هي قناعتي على الأقل.
تقييمي الشخصي ليوحنا وإرثه هو أننا أمام شخصية أنموذجية عميقة ومؤثرة ومتعددة الأوجه وغنية الدلالات من حيث شخصيتهِ وسيرة حياته وعلاقته بفضاء الحياة الأموي الذي انتمى إليه وكان أحد صناعه وكذلك من حيث فكرهِ اللاهوتي والديني والمعرفي الذي نجده في ما بقي بين أيدينا من نصوصه، وهي كثيرة. هو شخصية نموذجية كي تحكي لنا عن المراحل والمتغيرات والتبدلات العميقة والثيرة للتفكير التي مرت بها المسيحية الأموية عبر القرن من الزمان تقريباً التي عاشتها الخلافة الأموية. أجد في شخصيته وحياته الكثير من العبر والدروس العميقة عن ما ينبغي أن نستفيد منه وما ينبغي أن نتعلم كيفية تجنبه على حد سواء. وللقارئ لكتابي، فإنني أنصحه وأنصحها بأن يقرأوا الفصل السادس والأخير من الكتاب إن لم يكونوا معنيين بالخوض في تفاصيل التضاعيف التاريخية والفكرية والثقافية والسياسية والدينية العديدة والمعقدة التي يشرحها الكتاب ويفككها في الفصول السابقة للفصل الأخير. ففي الفصل الأخير يجد القارئ زبدة وخلاصة أطروحة مسار تشكيل الهوية الذي نتعلمه من دراسة حياة وشخصية وفكر يوحنا الدمشقي عن المسيحية الأموية عموماً.

استخدمت مصطلح الامبراطورية الاموية فما مدي دقة هذا المصطلح ؟وماهو وضع المسيحيين في هذه الامبراطورية ؟
مصطلح "الإمبراطورية"، أو حتى "المُلك" هي المصطلحات التي نجدها في العديد من المخطوطات الباقية لنصوص كتبها مسيحيي القرنين السادس والسابع للميلاد/الأول والثاني للهجرة ومابعدها عن الحكم الأموي. هناك مخطوطات كثيرة لا تستخدم مصطلح "خليفة" و"خلافة" في طياتها للحديث عن "المحمديين" أو "الإسماعيليين" أو "السارائيين" أو "الطووية" أو "العوربووية" (هكذا يسمى المسلمون في النصوص المسيحية العربية والسريانية)، بل تتحدث عن النبي محمد بصفته "ملك العرب" وتتحدث عن معاوية بن أبي سفيان بصفته "ملك الأمويين". منذ أكثر من عقدين من الزمن، خرج الباحثان باتريسيا كرونة ومارتن هيندز علينا بأطروحةٍ مفادها أن الأمويين هم أول من استخدم مصطلح "خليفة الله" وأطلقوه على أنفسهم وأن هذا هو بداية استخدام مصطلح "خلافة" بمعنى الدولة الدينية العقائدية وبمعنى أن الأمويين أسسوا دولة دينية دوغمائية. أناقش أنا هذا الطرح في أحد أقسام كتابي وأقترح أنه غير دقيق في الحقيقة، فمصطلح "خليفة الله" أو "خليفة المسلمين"، كما تخبرنا النصوص القديمة وأمهات الكتب العتيقة، قد بدأ استخدامه بشكل رسمي وطاغٍ في عصر الخلافة العباسية، والتي أرادت حتماً أن تعطي طابعاً دينياً صريحاً ودوغمائياً للدولة، بحيث نرى تدخل الخلفاء العباسيين في الشؤون الدينية والعقائدية وحتى تورطهم في فرض عقائد بعينها على المسلمين (كما نرى في حالة الخليفة المأمون ومسألة "خلق القرآن" مثلاً). لم يكن هذا الفكر الذي يخلط السياسة بالدين هو الفكر الناظم لمشروع الأمويين، على الأقل خلال حكم الأسرة السفيانية. كان همهم خلق مشروع ثقافي-حضاري يقدم الإٍسلام لا كمنظومة دينية دوغمائية جائت لتفرض القطيعة والنهاية المبرمة لكل ما سبقها من ثقافات وديانات، ولكن كمنظومة ثقافية حضارية تمثل الإكمال والذروة الأخيرة لكافة الثقافات والديانات والحضارات التي ميزت العهد العتيق المتأخر. من هنا، فإن الفكر السفياني طمح لتأسيس "أمبراطورية" و"مملكة" وليس "خلافة" ذات ماهية دينية. في هذا المناخ المذكور، لم يشعر المسيحيون بأي تهديد ولا خطر، بل شعروا أنهم مدعوون لتأسيس هذا المشروع الكبير مع المسلمين يداً بيد، ولهذا يمكن أن نتحدث عن مسيحية أموية. لو كان الفكر الناظم هو منطق "خلافة" لما شعر المسيحيين بهذا ولما كان لهم أي دور في تشكيل المشروع الحضاري الجديد. قصة يوحنا والمسيحيين الأمويين، على الأقل في النصف الأول من العصر الأموي، تخبرنا خلاف ذلك.
 
استخدام نماذج تاريخية للتدليل علي العيش المشترك هل هو نوعا من استجداء الماضي خاصة مع المرويات التي تشكك في سرديات التاريخ باستمرار ؟ام محاولة لمعالجة الطائفية والتعصب الراهن ؟
عندنا نحن العرب المشرقيون علاقة خاطئة مع التاريخ والماضي. نحن نمجد الماضي، ولكننا لا ندرسه، نقدس التاريخ الماضي للأسلاف، ولكننا لا نتعلم منه ولا نتحاوز معه ولا نقيمه نقدياً. نحن نهرب إلى الماضي سيكولوجياً ونحتمي به فكرياً لأننا نعجز عن عيش الحاضر والتصالح معه ولا نملك فكر مستقبلي يقوم على أعمالنا ومسؤوليتنا نحن عن حراك الزمن، فالعقل العربي تسليمي تطيري عموماً. وما سؤالك سوى سبر عميق وإدراك ربما لهذا الحال، تعبر حضرتك عنه بطريقتك الخاصة.
علم التاريخ ودراسة وتفكيك الماضي مسائل أخرى نحن لم نتعلمها كفاية ولم نمارسها بحرفية وكفاءة بعد. يقول علم التاريخ لنا بأننا ندرس الماضي كيف نفهم من أين جئنا وكيف آلت أمورنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. ندرس الماضي لا لنستجديه، بل لنتعلم منه ونستقي دروساً وعبراً ومفاتيح تفسيرية تساعدنا على فهم وتفكيك وتقييم الحاضر بغية العبور نحو المستقبل وصناعته بطريقةٍ تجعلنا لا نسقط في حفر الماضي مرة أخرى. من هذه الزاوية الابستمولوجية لطبيعة التفكيك التاريخي، يمكن القول أن التشكيك بسرديات التاريخ هو من صلب سيرورة البحث التاريخي وإحدى مقارباتها المنهجية القواعدية، وليست تهديد للبحث التاريخي ولا تحدٍ له. التشكيك التاريخي هو بداية مسار البحث التاريخي النقدي والتفكيكي والتفسيري للماضي. وإذا كانت نقطة الانطلاق هي التساؤل والتشكيك والتقصي التحقيقي الموضوعي والحيادي، فهذا لا شك سيودي إلى معالجات للعيوب والضعفات والنواقص التي مازلنا نجترها، عن وعي أو لاوعي، من تمسكنا بتاريخ متخيَّل وماضٍ تهيؤي، بما فيه المخيال الماضوي الطوائفي والتعصبي، صنعته ظروفنا وليس عقولنا، اختبئت خلفه سيكولوجياتنا المكلومة والمنكوبة، ولم تشارك في قراءته محاكماتنا العقلية.  

هل هناك فائدة حقيقية من هذه الكتابات التاريخية في ظل الهجرة المستمرة لمسيحية الشرق وخاصة من العراق وسوريا ؟
الباحث العلمي والمؤلف ليسا من يحدد فائدة دراساتهم التاريخولوجية من عدمها. مسألة تحديد الفائدة من عدمها متروكة للقارئ والمتعلم اللذان يتعاطيان مع خلاصات وأطروحات الباحث والمؤلف. أنا أقدم دراسة تاريخولوجية وتحليلية بأفضل سوية علمية وأكايمية وبحثية ونقدية وتفكيكية وموضوعية وحيادية أمتلكها، وأترك مسألة تقييم الفائدة من عدمها للقارئين. أما عن مسألة هجرة المسيحيين من المشرق، فهي مسألة خطيرة مؤذية بعمق، ولها أسباب عميقة ومتعددة ومعقدة جداً قد لا تتعلق في الواقع بدراسة التاريخ ولا تكون أحد اسباب صورة معينة سلبية عن الماضي. قد يكون أحد أسباب هذا النزيف البشري المستمر، أحدها فقط وليس سببها الوحيد أبداً، هو جهل المسيحيين اليوم بماضيهم، أو امتلاكهم لسردية خاطئة وغير دقيقة وغير مدروسة بشكل موثوق عن هذا الماضي. الكثير من المسيحيين يهربون من المشرق اليوم لأسباب عديدة أحدها شعورهم بأنهم غرباء في عالم مشرقي إسلامي بغالبيته العظمى ولأنهم يعتقدون أن المسيحيون تحولوا أتوماتياكياً إلى جماعة ذمية ومضطهدة ومقموعة ومهددة منذ اللحظة الأولى لوصول الإسلام إلى المنطقة، في ذاك الماضي البعيد الأسود الذي حدث قبل ما يقارب ألف وخمسمائة عام. أعتقد أن دراسة التاريخ مهمة هنا لأنها تدعو أولئك المسيحيين لعدم تبني تلك السردية السلبية والسوداء بقضدها وقضيضها دون أن تستجوبها وتدرسها وتفندها وتدرس الماضي بشكل هادئ وعميق. إن فعلوا ذلك سيلاحظون أن المسألة ليست مجرد مسألة "أبيض-ضد-أسود" بل إن تاريخ المنطقة يقع في منطقة الرمادي. أعتقد أن المستقبل قد يحمل لنا مشرقاً خالٍ من المسيحيين أو بالكاد يحتوي على جماعة صغيرة جداً منهم، إلا أنه لن يكون مشرقاً خالياً من المسيحية.

ماهو الكتاب الجديد الذى تخطط له؟
بدأت منذ عام 2020 بالعمل على ثلاثة مشاريع بحثية ستتحول إلى ثلاثة كتب باللغة الإنجليزية في المستقبل القريب. المشروع/الكتاب الأول عن اللاهوت العربي-المشرقي المسيحي المعاصر، وقد أنهيت كتابة هذا المؤلف، وسوف يصدر العام القادم عن دار نشر بريطانية في أكسفورد. المشروع/الكتاب الثاني عن العلاقة ما بين الاستشراق ومابعد-الكولونيالية كحقل علمي، وقد أنهيت أيضاً كتابة هذا المؤلف وأنا أبحث له عن ناشر حالياً، وأطمح لنشر الكتاب بنسختين، واحدة باللغة العربية والثانية باللغة والإنجليزية.  أما المشروع/الكتاب الثالث، فهو مشروع كبير مازالت أعمل على مادته البحثية العلمية وآمل أن أنتهي من إنجازه في عام 2025. وهو مشروع بحثي يبغي إثبات أن الفكر المعروف بالفكر المعتزلي لم يكن فكراً خاصاً بفرقة أو ملة إسلامية حصراً في القرن التاسع للميلاد/الثالث للهجرة في السياق العباسي، بل كان فكراً عابراً للأديان والمدارس والملل والنحَل والفرق، بحيث أنه يمكننا الحديث عن اعتزال مسيحي أو معتزلية مسيحية وجدت في القرن المذكور. وإلى جانب تلك المشاريع البحثية الرئيسية الثلاثة، فإنني أعمل أيضاً كباحث مشارك في مشروع علمي بحثي تقيمه جامعة تشارلز في براغ، جمهورية التشيك، حول علاقة الفكر الديني بالهجرة ومسارات فهم الذات، وأنا أكتب له أوراق بحثية حول هذه المسائل تتعلق بالوجود السوري اللاجيء في أوروبا. ناهيك عن أنني أكتب أوراق بحثية متعددة حول مسائل علمية ضمن اختصاصاتي لنشرها في دوريات جامعية علمية محكمة ستصدر باللغتين الإنجليزية والعربية في الشهور والسنة القادمين.
 
د نجيب جورج عوض :

شارك