داعش وسردية المظلومية.. انتقائية تفضح التناقض

الجمعة 20/ديسمبر/2024 - 12:21 ص
طباعة داعش وسردية المظلومية.. حسام الحداد
 
تُعَدُّ افتتاحية في العدد الأخير 474 من صحيفة "النبأ" التي يصدرها تنظيم "داعش" نموذجًا بارزًا لاستراتيجية التنظيم الإعلامية القائمة على التلاعب بالأحداث وتوظيف المعاناة الإنسانية لتعزيز أيديولوجيته. الافتتاحية تحمل مزيجًا من السرد التاريخي المشحون، الاتهامات المباشرة، ومحاولات تأطير الوقائع بما يخدم أجندة التنظيم، مع التركيز على استغلال الأحداث في السجون السورية، مثل صيدنايا والهول وغويران، لتعزيز صورة المظلومية وتبرير العنف.

تحليل المضمون والسياق
اللغة والشحن العاطفي
استخدمت الافتتاحية لغة مشحونة مليئة بالمفردات العاطفية والدينية، مثل "النصيرية الكافرة"، "المجاهدين الأبرار"، "المؤمنات الصابرات"، وهي مفردات تهدف إلى تقسيم العالم إلى معسكرين متضادين: معسكر "الإيمان" (داعش وأتباعه) ومعسكر "الكفر" (كل من يخالف التنظيم). هذا النمط اللغوي لا يخاطب العقول، بل يستهدف تعبئة المشاعر واستثارة الغضب ضد الخصوم.
استغلال الأحداث الإنسانية
ركزت الافتتاحية على إبراز معاناة المعتقلين في صيدنايا وغويران والهول، مع اتهام الإعلام العالمي بالتواطؤ والنفاق. هذا النهج يعكس استراتيجية التنظيم في تحويل المآسي الإنسانية إلى أداة دعاية لتبرير أفعاله، مع تجاهل المسؤولية المباشرة للتنظيم عن كثير من المآسي التي يدعي الدفاع عنها. على سبيل المثال، يتناسى التنظيم مسؤوليته عن تدمير المجتمعات المحلية، تشريد السكان، واستهداف الأبرياء.
التشكيك في مصداقية الخصوم
وجهت الافتتاحية سهام النقد إلى الإعلام الدولي والإقليمي، متهمة إياه بازدواجية المعايير. تطرقت إلى تحول مواقف بعض وسائل الإعلام تجاه الثورة السورية وسجون النظام، متهمة إياها بالتآمر والانتقائية. في حين أن انتقاد ازدواجية الإعلام قد يكون منطقيًا في سياق معين، إلا أن التنظيم يستخدمه هنا لتبرئة نفسه من أي دور سلبي في المشهد.
التلاعب بالمفاهيم الشرعية
اعتمدت الافتتاحية على توظيف نصوص شرعية لتبرير مواقفها، مثل الحديث عن حكم المرتدين والطواغيت، مع تجاهل أي قراءة فقهية تخالف تأويلات التنظيم. هذه الانتقائية تهدف إلى إعطاء شرعية دينية لأعمال التنظيم العنيفة وإقصاء كل من يعارض رؤيته.

التناقضات في السرد
ازدواجية المظلومية
يتبنى تنظيم "داعش" خطابًا يعكس ازدواجية واضحة في التعامل مع مفهوم المظلومية. ففي افتتاحيته، يسلط الضوء على معاناة المعتقلين في سجون مثل صيدنايا وغويران، مستخدمًا هذه المآسي لتصوير نفسه كمدافع عن المظلومين. ومع ذلك، يغفل تمامًا الجرائم المماثلة التي ارتكبها في سجونه الخاصة، مثل الإعدامات الجماعية بحق الأسرى، سبي النساء، واحتجاز المدنيين بتهم ملفقة. هذه الجرائم لا تقل بشاعة عن الانتهاكات التي يدينها التنظيم، لكنها تختفي من خطابه الإعلامي الذي يعتمد على استغلال المأساة بشكل انتقائي يخدم أجندته.
ينتقد التنظيم ازدواجية الإعلام الدولي، متهمًا إياه بالنفاق والتواطؤ في تغطية معاناة المعتقلين. ومع ذلك، يستخدم التنظيم الإعلام ذاته كأداة لترويج دعايته، معتمدًا على الصور الصادمة والقصص المأساوية لاستقطاب أتباع جدد. هذه المفارقة تكشف عن تناقض واضح في استراتيجيته؛ فهو يهاجم الوسائل الإعلامية التي يتهمها بالتزييف، بينما يستغلها لتحقيق غاياته، مما يضعف مصداقية خطابه أمام الجمهور الأوسع.

انتقائية الحقائق
تعكس افتتاحية صحيفة "النبأ" انتقائية واضحة في تسليط الضوء على أحداث معينة، مثل سجون صيدنايا وغويران، لتصوير جرائم الخصوم. في المقابل، تتجاهل تمامًا الانتهاكات التي ارتكبها التنظيم نفسه في مناطق سيطرته، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي، التهجير القسري، والتنكيل بالمدنيين والمجاهدين الذين خالفوه. هذه الانتقائية تهدف إلى بناء سردية مظلومية زائفة، تُخفي حقيقة أن التنظيم كان سببًا رئيسيًا في مآسي العديد من المجتمعات التي يدعي الدفاع عنها.
كما أن التركيز على جرائم الأطراف الأخرى، دون الاعتراف بأفعال التنظيم، يعكس رغبة في تلميع صورته أمام جمهور مستهدف. يبرز التنظيم نفسه كضحية في صراع يصفه بأنه بين "الإيمان" و"الكفر"، بينما الحقيقة على الأرض تكشف أن التنظيم كان طرفًا رئيسيًا في تأجيج النزاعات وارتكاب الانتهاكات. هذا التلاعب بالحقائق لا يخدم سوى غرض دعائي مؤقت، لكنه يفتقر إلى العمق والمصداقية.

أهداف الافتتاحية
تركز افتتاحية صحيفة "النبأ" على تضخيم معاناة المعتقلين في سجون مثل صيدنايا وغويران، لتقديم تنظيم "داعش" كمدافع عن المظلومين والمضطهدين. هذا التوجه الإعلامي يستهدف استقطاب عناصر جديدة وإحياء ولاء الأتباع الحاليين، من خلال تصوير التنظيم كقوة تحارب الظلم والطغيان. إذ يروج التنظيم نفسه كمنظمة دينية تحمل راية العدل في وجه أنظمة قمعية وإعلام متآمر، رغم أنه كان جزءًا من إنتاج العديد من المآسي الإنسانية التي ينتقدها.
رواية المظلومية ليست موجهة فقط للأتباع المباشرين، بل أيضًا إلى قاعدة أوسع من المسلمين الذين قد يتعاطفون مع الضحايا. التنظيم يستغل هذه السردية لتعبئة العواطف وتعزيز صورة الشرعية الأخلاقية المزعومة، مستخدمًا خطابًا دينيًا قويًا يربط بين المظلومية الفردية والواجب الديني في نصرة "المجاهدين". ومع ذلك، فإن هذه الرواية تتناقض مع أفعاله الموثقة ضد المدنيين والأسرى، مما يحد من فعاليتها على المدى الطويل.

إعادة تعريف الصراع
تهدف الافتتاحية إلى تبسيط المشهد السوري وتحويله إلى معركة وجودية بين "الإسلام" الذي يمثله التنظيم، و"الكفر" الذي يُنسب إلى كل من يعارضه. عبر هذا التأطير، يحاول التنظيم طمس التعقيدات السياسية والعرقية والدينية التي تحيط بالصراع، وتجاهل الأطراف المتعددة التي تسعى لتحقيق مصالحها. هذا التأطير يخدم هدف التنظيم في استقطاب الأتباع عبر تقديم رؤية مبسطة تزيل الرمادية وتحول كل خصم إلى عدو مطلق.
التنظيم يستخدم هذا الأسلوب لإعادة توجيه الغضب الشعبي الناتج عن الظلم والانتهاكات نحو الأهداف التي يحددها، متجاهلًا دوره في تعقيد الصراع وارتكاب الفظائع. هذا الخطاب لا يعترف بالجهود المبذولة من قوى أخرى لحل النزاع، بل يصورها كمؤامرات تهدف إلى القضاء على "الإسلام"، مما يعزز سردية التنظيم بوصفه المدافع الأخير عن الدين.

تشويه الخصوم
تركز الافتتاحية على مهاجمة الإعلام الدولي والإقليمي، متهمة إياه بالنفاق والانتقائية في تغطية الأحداث. تُظهر هذه الاستراتيجية رغبة التنظيم في تشويه صورة وسائل الإعلام أمام الجمهور، بهدف تعزيز فكرة أن التنظيم هو المصدر الوحيد "الموثوق" للمعلومات. هذه الهجمات تتزامن مع محاولات مستمرة لتقديم التنظيم كبديل صادق يفضح الحقيقة ويدافع عن حقوق المظلومين، على الرغم من تاريخه المعروف في التلاعب بالمعلومات.
إلى جانب الإعلام، يهاجم التنظيم الحكومات والميليشيات المنافسة، واصفًا إياها بأنها خائنة ومتواطئة مع "الطواغيت". هذه الهجمات تهدف إلى زعزعة الثقة بتلك الجهات وخلق حالة من الشك المستمر حول نواياها وأفعالها. من خلال شيطنة الخصوم، يسعى التنظيم إلى ملء الفراغ المعنوي الذي يتركه انهيار الثقة، مما يمنحه فرصة لتوسيع نفوذه بين الأفراد الذين يشعرون بخيبة أمل من البدائل الأخرى.

نقد الاستراتيجية الإعلامية للتنظيم
رغم محاولة تنظيم "داعش" استخدام لغة عاطفية قوية في افتتاحياته، إلا أن تاريخه الدموي يعرضه لأزمة مصداقية كبيرة. جرائم التنظيم الموثقة، مثل الإعدامات الجماعية، تدمير الممتلكات، واستهداف المدنيين، تتناقض مع الخطاب الذي يتبناه حول الدفاع عن المظلومين. هذه التناقضات تقلل من تأثير رسائله الدعائية، خاصة عند جمهور واعٍ يبحث عن التماسك بين الأقوال والأفعال.
إضافة إلى ذلك، تتضح ازدواجية التنظيم في توظيفه المظلومية لتبرير أفعاله، بينما يتجاهل مسؤوليته عن العديد من المآسي التي ساهم في صنعها. هذه الازدواجية تُظهر التنظيم كمستغل للمعاناة الإنسانية بدلاً من مدافع حقيقي عنها، مما يجعله عرضة لفقدان التعاطف حتى بين الفئات التي قد تتفق معه أيديولوجيًا في بعض القضايا.

استنزاف الخطاب الديني
يعتمد التنظيم بشكل مفرط على توظيف النصوص الشرعية لتبرير أفعاله السياسية والعسكرية، مما يؤدي إلى تآكل التأثير الإيجابي لهذا الخطاب. الاستخدام المكثف والمتحيز للنصوص دون مراعاة السياقات المتعددة قد يدفع قطاعات واسعة من المسلمين إلى رفض هذه التأويلات، بل وحتى النظر بعين الشك إلى كل من يستخدم الخطاب الديني لتحقيق مكاسب سياسية.
هذا الاستنزاف يجعل التنظيم يبدو وكأنه يُسيء استخدام الدين لأغراض دنيوية، مما يبعد عنه الدعم الشعبي والشرعي. على المدى البعيد، يؤدي ذلك إلى خلق حالة من النفور تجاه كل ما يرتبط بأيديولوجيته، ويجعل من الصعب عليه جذب شرائح جديدة من المتعاطفين الذين قد يرون في تفسيراته تحريفًا واضحًا للمعاني الأصلية للنصوص.

تكرار النمط الدعائي
يعتمد تنظيم "داعش" على نمط دعائي مكرر يعتمد على تقسيم العالم إلى ثنائية "الإيمان والكفر"، وهي استراتيجية تفتقر إلى العمق والتجديد. هذا التكرار يجعل رسائل التنظيم سهلة التنبؤ وضعيفة التأثير، خاصة على الجمهور المستقل أو المتردد، الذي يبحث عن تفسيرات أكثر تعقيدًا وواقعية للوضع السياسي والديني في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، فشل التنظيم في تطوير أساليب جديدة تجذب الانتباه أو تعكس وعيًا بتغير طبيعة جمهوره. الاعتماد المستمر على نفس الثنائيات واللغة الدعائية يفقده القدرة على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والعالمية، ويضعف من فعالية استراتيجيته الإعلامية في استقطاب أتباع جدد أو الحفاظ على ولاء الحاليين.

الخاتمة
تعكس افتتاحية العدد 474 من صحيفة "النبأ" استمرار تنظيم "داعش" في استخدام الدعاية الإعلامية كوسيلة للتجنيد والدفاع عن أيديولوجيته. ومع ذلك، فإن استنادها إلى مغالطات منطقية وتوظيف انتقائي للحقائق والنصوص الشرعية يجعلها عرضة للنقد والتشكيك. على الرغم من قدرتها على استقطاب فئة محددة، فإن هذا النوع من الخطاب يُظهر محدودية التنظيم في التعامل مع التغيرات الكبرى في المشهد السوري والدولي.
تعكس الافتتاحية أيضًا محاولات التنظيم لتوجيه النقاش العام نحو قضايا بعينها، مثل السجون والانتهاكات، بغرض صرف الانتباه عن إخفاقاته العسكرية وفقدانه السيطرة على مناطق واسعة كانت تحت سيطرته سابقًا. هذا التركيز الانتقائي يعكس عجزًا عن تقديم رؤية شاملة أو حلول عملية للأزمات، ما يجعل خطابه أقرب إلى محاولة يائسة للحفاظ على النفوذ عبر استغلال المآسي، بدلًا من تقديم مشروع مستدام يعزز قاعدته الأيديولوجية أو الشعبية.

شارك