عودة الى الموقع عودة رئيسية الملف
النواة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين
قبل أن يصل إلى عامه الثانى والعشرين بسته أشهر، كان المدرس الشاب حسن البنا قد أسس جماعة الإخوان المسلمين فى مدينة الإسماعيلية .
نظرة سريعة على من شاركوه فى بناء النواة الأولى، تكشف عن طبيعة الأساس الاجتماعى والاقتصادى والثقافى للجماعة الوليدة. نجار وحلاق ومكوجى وسائق وجناينى وعجلاتى، من القاع الاجتماعى والاقتصادى فى الحياة المصرية، وبحصيلة علمية وثقافية محدودة، بدأت الرحلة التى يقودها شاب حالم بقدر ما هو عملى .
كان البنا ذا ثقافة دينية تتناسب مع اهتماماته ومستوى تحصيله العلمى فى دار العلوم، لكن المعروف عنه أنه كان زاهداً فى النشاط الثقافى وتأليف الكتب، فغايته الحقيقية هى أن يجتمع حوله الأنصار المؤمنون بالفكرة، دون نظر إلى الثقافة المتعمقة أو العلم الدينى الكبير.
وعندما سُئل حسن البنا: لماذا لا يؤلف كتباًٍ؟، أجاب بأن مهمته هى تأليف الرجال والقذف بهم فى البلاد لإحيائها، فالرجل منهم كتاب حى ينتقل إلى الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما فى قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل.
بدأت مجموعة الإسماعيلية نشاطها باتخاذ مقر لها، لا يزيد عن حجرة واحدة مؤجرة، وقاموا فيها بالتدريب على إلقاء الخطب والمواعظ، إلى جانب حفظ القرآن الكريم وتلاوته.
ومع ازدياد أعداد المحيطين بالبنا، شرعت الجماعة فى بناء أول مسجد لها، وكان جمع التبرعات هو السبيل الوحيد المتاح.
التبرع المشبوه
بوابة الحركات الاسلامية
أكبر التبرعات، وأكثرها إثارة للجدل، جاء من شركة قناة السويس .
خمسمائة جنيه مصرى، وفقا لقيمة العملة ومستويات الأسعار خلال المرحلة التاريخية، يعد بمثابة ثروة هائلة.
وهنا يظهر سؤالان متداخلان متكاملان: لماذا اتجه حسن البنا إلى الشركة الأجنبية ذات السمعة السيئة فى أوساط المصريين؟ ، ولماذا قبلت الشركة فكرة أن تتبرع بسخاء لجماعة جديدة مجهولة بلا تأثير؟! .
أثار التبرع حفيظة كثير من سكان مدينة الإسماعيلية، وتساءلوا فى استنكار له ما يبرره: كيف نؤدى شعائر الصلاة فى مسجد تبرع الخواجات الأجانب لبنائه؟!
كان الدفاع الذى قدمه البنا شكليا، وقوامه أن مال الشركة هو مال المصريين! . منطق قد يبرر أى وكل شئ، لكنه – فى الوقت نفسه – لا يبرر شيئاً على الإطلاق ! .
تكون البناء الجديد من مسجد ومدرستين: إحداهما للبنين والأخرى للبنات، واكتمل للجماعة إطارها القانونى .
وخلال الفترة التى قضاها حسن البنا فى مدينة الإسماعيلية، حتى قرب نهاية سنه 1932، تم تأسيس عدد من الشعب والفروع خارجها، فى شبراخيت والمحمودية وأبو صوير وبورسعيد والبحر الصغير والسويس والبلاح .
أختار البنا أن يطلق على المدرستين اللتين أسسهما اسمين إسلاميين يعبران بوضوح عن توجه الجماعة : "معهد حراء الإسلامى" لمدرسة البنين، و"مدرسة أمهات المؤمنين" لمدرسة البنات .
وإذا كان اختيار مثل هذه الأسماء ينبئ مبكراً عن إيمان حسن البنا بأهمية الشعارات والعلامات الإسلامية لاكتساب الشعبية والجماهيرية، فإن النشأة قد شهدت أيضاً ميلاد تيار من العداء المستريب فى حقيقة نوايا الجماعة وطبيعة أهدافها، فقد تناثرت الإشاعات التى تشكك وتطعن، كما توالت الشكاوى الكيدية المقدمة ضد البنا بشكل شخصى.
ثمة إجماع على أن البداية كانت ذات طابع وعظى تربوى تهذيبي أخلاقى، ولم يكن الشأن السياسى مطروحا خلال سنوات العمل فى الإسماعيلية، على الرغم من خطورة وسخونة الأحداث السياسية التى شهدتها مصر .
لقد بدأ حسن البنا نشاطه فى الإسماعيلية، التى كانت تقطنها جاليات أوربية متنوعة، تحيا حياتها الخاصة المخالفة للأنماط الإسلامية، وسرعان ما اجتذب إلى صفه جموع أبسط طبقات الشعب والحرفيين والطلاب، ومما جذب الكثيرين إلى دعوته أنه كان يبشر بمنطق جديد يستلهم التفسير الأصولى للإسلام، ويرفض المؤثرات الغربية جملة وتفصيلاً.
ولقد ساعدت شخصية البنا، فضلا عن أوضاع مصر الموضوعية العامة، على سرعة انتشار دعوته، التى مست وترا حساسا لدى قسط كبير من الكتل الجماهيرية .
الأغلب الأعم من هذه الكتلة ينتمى إلى حزب الوفد، لكنهم لم يجدوا تعارضا بين ولائهم السياسي للحزب الشعبى الكبير، وبين اقتناعهم بالمبادئ والأفكار الدينية لحسن البنا، الذى تعمد تجاهل المسائل السياسية، ولم تتطرق أنشطته إلى ما كان يحدث فى مصر بين عامى 1928 و 1932.
فما الذى كان يحدث فى مصر ؟!
الحياة السياسية في مصر بين1928 :1932
مصطفى النحاس باشا
مصطفى النحاس باشا
بعد وفاة الزعيم سعد زغلول فى أغسطس سنه 1927، تم انتخاب مصطفى النحاس رئيساً للوفد .
فى مارس 1928، تولى النحاس رئاسة وزارة ائتلافية، لكن تحالف الملك فؤاد مع الأحرار الدستوريين أفشل الائتلاف وأسقط الوزارة، لتبدأ مرحلة حكم محمد محمود.
كان قراره الأول هو تأجيل انعقاد البرلمان، ذى الأغلبية الوفدية، لمدة شهر. وقبل نهاية فترة التأجيل، استصدر مرسوما بحل البرلمان بمجلسيه وتعطيل المواد التى تكفل استمرار الحياة الدستورية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
حكم محمد محمود باليد الحديدية، فقد أعاد قانون المطبوعات الذى يجيز تعطيل وإلغاء الصحف، وأهدر الحريات الفردية، ومنع اجتماعات المعارضة، وحرم الموظفين والطلاب فى العمل السياسي.
كانت حجة محمد محمود، لتبرير سياسته التعسفية، أن النظام البرلمانى فى ظل حكم الأغلبية الوفدية لم يحقق مصالح الشعب، لكن سياسته لم تستطع الصمود طويلاً، واضطر إلى تقديم استقالته فى أكتوبر 1929، وجاء عدلى يكن ليجرى انتخابات جديدة، ولم تستمر الحياة النيابية إلا سبعة أشهر، وبعد فشل محادثات النحاس – هندرسون، استقالت الوزارة الوفدية، وجاء إسماعيل صدقى، لتبدأ مرحلة الحكم الديكتاتورى من يونيو 1930 إلى ديسمبر 1935.

إسماعيل صدقى ..
إسماعيل صدقي
إسماعيل صدقي
السياسى المصرى الداهية، الذى عاش بين عامى 1875 و 1950، ولعب أخطر الأدوار فى الحياة السياسية المصرية. كان ذا عقلية متميزة وكفاءة عالية، لكنه ينظر بكثير من التعالى والاحتقار لمفهوم الحكم الشعبى، ويناصب الوفد عداء لا تهاون فيه أو اعتدال.
بعد توليه الوزارة، أصدر قرارا بتأجيل انعقاد البرلمان، ثم فض الدورة البرلمانية، وصولا إلى إلغاء دستور 1923، وتشكيل حزب جديد يحمل اسم "الشعب"، أصدر جريدة باسمه، وسعى إلى اكتساب الأنصار والمؤيدين بالتهديد والإغواء .
أجرى انتخابات مزورة، بعد أن أصدر دستوراً جديداً يتسم بالأحكام الرجعية التى تمثل ردة عن الدستور القديم، فقد كان غير قابل للتعديل لمدة عشر سنوات، ويقيد حق مجلس النواب فى سحب الثقة من الحكومة، ويعطى سلطات واسعة للحكومة فى غيبة البرلمان، ونص على حق تعطيل الصحف، كما منح الملك سلطات واسعة.
تحالف حزبا الوفد والأحرار الدستوريين لمقاومة صدقى، الذى استقال فى سبتمبر 1933، ليخلفه فى الحكم عبد الفتاح يحي ثم توفيق نسيم، واصطدمت الوزارة الأخيرة بالطلاب فى نوفمبر 1935، عقب تصريح وزير الخارجية البريطانية "هور" ، الذى عارض فيه عودة دستور 1923.
قرب نهاية 1935، وبعد معارك طويلة امتدت لسنوات، كانت ملامح الخريطة تتغير، ومصر تتهيأ لمرحلة جديدة، كما كان العالم كله مشحونا باحداث جسام، تهيئ لاشتعال الحرب العالمية الثانية، بعد صعود هتلر فى ألمانيا، وموسولينى فى إيطاليا، وارتفاع التوتر الإقليمي والعالمى إلى درجة غير مسبوقة.

التأسيس الفعلي للجماعة
بوابة الحركات الاسلامية
فى أكتوبر سنه 1932، انتقل حسن البنا من مدينة الإسماعيلية إلى القاهرة، ليزاول عمله كمدرس بمدرسة عباس بالسبتية، وكان ذلك إيذانا بدخول الجماعة مرحلة جديدة.
كانت مصر تغلى عندما انتقل البنا إلى العاصمة، وترزح تحت نير حكم استبدادى ديكتاتورى، واستمر السخط ثلاث سنوات بعد انتقاله.
هل اتخذ البنا والإخوان موقفا سياسياً إيجابيا يتوافق مع تطلع الشعب إلى الحرية والديمقراطية؟
هل اتخذ البنا والإخوان موقفا سياسياً مقاوماً للحكم الاستبدادى الذى يمثله صدقى وحزبه؟
فى مذكراته، يستعيد البنا سنوات التأسيس الأولى، ويشير إلى هموم الأمة وأمراضها والعلاج الذى يفكر فيه: ويفيض بنا التآثر إلى ما وصلنا إليه، وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا فى مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة، والخليعون هاجعون يتسكعون بين المقاهى ويترددون على أندية الفساد.
لا كلمة واحدة عن إلغاء الدستور والتسلط والحكم الديكتاتورى، ولا إدانة عابرة لرموز مثل محمد محمود وصدقى. المشكلة كلها، مشكلة الأمة التى ينشغل بها البنا، هى التردد على القهاوى وأندية الفساد!.
لم تكن القاهرة التى انتقل إليها البنا تشبه مدينة الإسماعيلية التى جاء منها، والفارق بينهما هو الفارق بين العاصمة والمدن الإقليمية الصغيرة.
إذا كان البنا قد حقق نجاحاً سريعاً فى الإسماعيلية، فإن النجاح السريع المماثل فى القاهرة ليس متاحاً، وكان عليه أن يتحلى بالكثير من الصبر والدأب، وما يرويه البنا نفسه يدل على ذلك الإحساس الذى سيطر عليه، إحساس الانتقال من مكان محدد محدود يسهل التحرك فيه، إلى مكان متسع مزدحم متعدد التوجهات.
يروى حسن البنا أن أحد الإخوان جاء من الإسماعيلية إلى القاهرة لزيارته، فلما نزل من القطار فى محطة مصر سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين، وهو يظن أنه يسأل عن أحد معالم القاهرة، فاعتقدوا أنه شخص ساذج، وقالوا له: اتجه من هذا الطريق، ثم إسأل هناك، فاتجه ثم سأل .. وهكذا . حتى قابل حسن البنا صدفة، وقد جاوز المركز العام بمسافة، فأخذه ورجع به .
الضحك هو رد فعل حسن البنا على القصة التى يرويها، وقد أدرك بذكائه أن الدعوة التى يتزعمها، وكان ذلك بعد وصوله إلى القاهرة بثلاث سنوات، لازالت مجهولة حتى عند جيرانه قرب المركز العام.
كان البنا مثابراً فى القيام بواجباته اليوميةنحو مركز الإخوان، فهو يزوره فى الصباح ليوصى القائمين عليه بتنفيذ بعض الأعمال، ثم يعاود المرور عليه فى الفترة المسائية ليلتقى مع الزوار والأعضاء، ويلقى المحاضرات والدروس. وفى فصل الصيف، كان يخصص جزءاً كبيراً من وقته لزيارة القرى والتجمعات السكانية القريبة من القاهرة.

يقول عمر التلمسانى فى كتابه "ذكريات .. لا مذكرات" :

عمر التلمساني
عمر التلمساني
"ذهبت مع الإمام الشهيد مرة إلى طنطا بدعوة من أحد وجهائها لافتتاح مسحد، وقضينا ليلة طيبة مليئة بأعمال الخير والدعوة إلى الله.
وفى الصباح ذهبنا جميعاً إلى محطة طنطا لنأخذ القطار إلى القاهرة، وصلينا الفجر على رصيف المحطة.
ووصلنا القاهرة، وذهب كل منا إلى منزله ليستكمل راحته، ولكن الإمام الشهيد ذهب إلى مدرسته بالسبتية ليلقى دروس الحصة الأولى" .
رحلة شاقة من القاهرة إلى طنطا، والعودة السريعة دون راحة، والتوجه إلى المدرسة للقيام بأعماله الوظيفية، ثم استكمال نشاطه مع الإخوان. طاقة على العمل، وتكتمل الأهمية بسمات الشخصية التى تتقن التعامل مع البشر وتتجنب إغضابهم. كان البنا يسعى، ما وسعه الجهد، إلى احتواء الخصوم، ولم يكن الأمر يتطلب منه إلا سعة الحيلة واللجوء إلى سلاح المجاملة وإظهار الاهتمام والاحترام. حكايته مع بعض شيوخ الأزهر تستحق أن تروى، لاكتشاف أسلوبه فى تهدئة الخواطر.
مما يحكى عن حسن البنا أنه عقد اجتماعاً مهماً مع بعض الإخوان والضيوف، وأصدر أمراً بتأجيل أى مقابلة حتى ينتهى الاجتماع.
وفى أثناء الاجتماع، جاء شيخان أزهريان يريدان الدخول لمقابلته، فقيل لهما إن المرشد مشغول ولا يستطيع مقابلة أحد 
واحتج الشيخان على ما قيل لهما، وعلت أصواتهما، فخرج البنا من الاجتماع ليحتوى الموقف. احتوى الشيخين الثائرين بكلمات المجاملة، وعاتب من حال دون دخولهما إليه، متناسياً أنه من أصدر الأمر بذلك، وأصر أن يشربا معه الشاى ولا يغادران المكان إلا وقد رضيا.
سلوكه دليل عملى على أنه لا يهمل الأشياء الصغيرة التى قد تؤثر على مسار الدعوة، والمنطلق فى حركته هو الاحتواء واللجوء إلى الحيلة قبل الصدام واللجوء إلى المواجهة .
هل كان حسن البنا يسعى لتكوين جماعة دينية أم سياسية ؟! ينبئ الظاهر أنه لم يكن يهتم بالسياسة وصراعاتها، فمشكلة الأمة عنده تكمن فى الانحلال والفساد، وليس فى التسلط والاستبداد والطغيان.
لم تكن الأهداف التى حددها البنا، خلال سنوات العمل التأسيسى فى الإسماعيلية، إلا جملة من الدعاوى والأفكار الدينية الوعظية، تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتنادى بالعودة إلى العقيدة الصحيحة، وتجنب الرذائل والموبقات، والاهتمام بالتدين والعبادة وتربية النفس.
أهداف تتسم بالعمومية وتبتعد عن الموقف السياسى، وكان حسن البنا حريصا على إبراز جماعة الإخوان على اعتبار أنها جمعية دعوية، شعارها الحكمة والموعظة الحسنة، وغايتها بث المشاعر والأحاسيس الدينية، ومثل هذا التوجه لا يمثل تهديداً للعاملين فى السياسة، ولذلك غابت الأنظار عنه، ولم يجد فيه إسماعيل صدقى عدواً معارضاً، ولم يجد فيه مقاومو صدقى خطورة تستوجب الاهتمام.
وهكذا استثمر البنا مناخ التوتر والصراع ليحقق مزيدا من التقدم والازدهار. يمكن اعتبار فترة الإسماعيلية مرحلة التأسيس واختبار التربة والتأقلم مع المناخ، واستطاع الإخوان خلال هذه السنوات أن يكونوا عددا من الشعب فى شرق الدلتا، لكن عام 1933، الذى شهد انعقاد المؤتمر الأول للإخوان المسلمين بالإسماعيلية، هو بمثابة الطور الثانى فى رحلة الجماعة التنظيمية وإطارها الحركى.

مكتب الإرشاد
بوابة الحركات الاسلامية
قبل ذلك، لم يكن للجماعة تركيب بنائى بالمعنى الاصطلاحى المعروف، فقد كانت الشعب فى الأقاليم تتلقى تعليماتها من المركز الرئيسى، وبتحديد أكثر من حسن البنا شخصياً.
تكونت هيئة مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين، لأول مرة، بناء على قرار مجلس الشورى العام، الذى انعقد بالإسماعيلية فى شكل المؤتمر الأول للإخوان المسلمين بالقطر المصرى، يوم الخميس الثانى والعشرين من صفر سنه 1352 هجرية، 1933 ميلادية، وكان المؤتمر يمثل 15 فرعاً.
ومع تنامى الجماعة وزيادة عضويتها ونشاطها، يمكن رصد بداية المرحلة الثالثة فى تاريخ البناء التنظيمي للحركة، الذى اتخذ شكلاً هرميا، يتربع على قمته المرشد العام، ويليه مكتب الإرشاد العام، فالمكاتب الإدارية، والمناطق والأقسام والشعب، وتقسم الشعب إلى أسر، والأسرة الواحدة إلى مجموعة أفراد لهم نقيب.
وكان المؤتمر الثالث، فى 1935، تجسيدا لهذه الأطر التنظيمية، وأدى إلى استكمال التشكيلات التنظيمية على النحو التالى:
-       فضيلة الأستاذ المرشد .
-       مكتب الإرشاد .
-       مجلس الشورى العام.
-       نواب المناطق والأقسام .
-       نواب الفروع.
-       مجالس الشورى المركزية.
-       مؤتمرات المناطق .
-       مندوبو المكتب.
-       فرق الرحلات.
-       فرق الأخوات.
أما عن المؤتمر العام الرابع، الذى انعقد فى عام 1936، فلم ينشغل كثيراً بالأوضاع التنظيمية والحركية، وغلبت عليه النزعة الاحتفالية، ترحيباً بصعود الملك فاروق إلى العرش، واستعراض للقوة النسبية التى وصلت إليها الجماعة.

متى صعد فاروق إلى العرش؟ ، وما المناخ الذى صعد فيه ؟!

الملك فاروق
الملك فاروق
انتشرت الدعاية النازية والفاشية فى مصر خلال حقبة الثلاثينيات، وانهمر سيل من الكتب التى تمجد إيطاليا وألمانيا، وتمتدح الزعيمين الصاعدين فى أوربا: هتلر وموسولينى. ومن هذه الكتب:
-       أدولف هتلر زعيم الاشتراكية الوطنية، لأحمد محمد السادات.
-       بين الأسد الأفريقى والنمر الإيطالى، لمحمد لطفى جمعة.
-       الإمبراطورية الإيطالية، لرياض جيد .
-       موسولينى، لفتحى رضوان.
-       ألمانيا اليوم، لثابت ثابت.
-       هتلر، لمحمد صبيح .وفضلاً عن هذه الكتب، فقد ازدادت نسبة الاستماع إلى المحطات الإذاعية الألمانية الموجهة باللغة العربية .

لماذا نجحت الدعاية الفاشية والنازية فى التأثير على قلوب وعقول المصريين؟! الإجابة

ينطلق العامل الوطنى من فكرة أن عدو عدوى هو صديقى بالضرورة، ولأن دول المحور، ألمانيا وإيطاليا، تعادى بريطانيا، فإنها مرشحة لصداقة المصريين. ويعبر عبد الرحمن باشا عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، عن هذا المعنى فى قوله: إننى لا أخجل من أن يكون لى ميولاً ألمانية، لأن الألمان لم يكونوا فى يوم من الأيام أعداء بلادى، لكن الذين يخجلنى حقاً أن يُقال إن لى ميولا إنجليزية.
أما العامل الدينى فيرتبط بالاشاعات الكثيرة التى راجت عن اعتناق بعض زعماء ألمانيا وإيطاليا للإسلام.
بدأت الأفكار القومية فى الانتشار بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية، وتصاعد الإحساس بالمخاطر الاستعمارية فى ظل غياب الرابطة التى تجمع بين الشعوب العربية، وخاصة بعد تزايد التهديد الصهيونى لفلسطين.كانت الفكرة العربية بديلاً للرابطة الشرقية، ورداً على النزعة الفرعونية، ومقاومة لمن يدعون إلى القومية المصرية.
وربما يعود الفضل الأول والأكبر فى انتشار الفكرة القومية إلى حزب الوفد، فقد عاد سكرتيره العام مكرم عبيد من جولة عربية، عام 1931، تضمنت زيارته لسوريا ولبنان وفلسطين، ليعبر عن الانتماء المشترك. وفى أعقاب توقيع معاهدة 1936، أبدى زعيم الوفد مصطفى النحاس اهتماماً ملموسا بالقضية الفسلطينية، وطرحها على مائدة التفاوض مع الإنجليز أثناء المفاوضات حول المسألة المصرية. واللافت للانتباه، أن أول مجال مارست فيه مصر استقلالها الخارجى، بعد توقيع المعاهدة، كان القضية الفلسطينية، فقد وقف وزير الخارجية الوفدى واصف بطرس باشا، فى عصبة الأمم، معارضا لمشروع التقسيم البريطانى.
كانت حركة الإخوان المسلمين أقرب إلى رد الفعل العنيف ضد الفشل الأيديولوجى الذى مُنى به قادة المثقفين، أيا كانت اتجاهاتهم، وضد الفشل السياسى والاجتماعى للنظام الليبرالى فى مصر.
قامت باعتبارها حركة سياسية دينية، تستلهم التفسير الأصولى للإسلام لمواجهة المسائل الاجتماعية والسياسية، ولم تأخذ بالأساليب الحديثة للتنظيم السياسى.
لم يكن البنا يعترف بالأفكار الوطنية والقومية، وأكد على ضرورة قيام الجامعة الإسلامية والخلافة، ذاهبا إلى أن دولة ومجتمعا يقومان على القرآن والسنة، يستطيعان أن يضعا حداً لكل أمراض المجتمع، فى الوقت الذى لم تكن لديه هو وأتباعه أية فكرة واضحة عن المشكلات المعقدة التى تواجه مجتمعا حديثاً، وبالتالى كانوا على استعداد لاعتبار كل من يعترض على برنامجهم عدوا للإسلام.
لم تكن ساحة الثلاثينات فى مصر خالية لهم، فقد ازدحمت بالأحزاب التقليدية، الوفد وخصومه، وظهرت حركات وأفكار جديدة، مبشر بالأفكار القومية والفاشية والاشتراكية، لكن الغلبة كانت للإخوان.

ما السر فى تفوقهم ؟!
الإجابة تستدعى وقفة قصيرة تتأمل هذه الاتجاهات وأفكارها وأسلوب عملها فى الشارع المصرى.
المنطلق الذى يحدد موقف الإخوان المسلمين من الأحزاب، ينبع أساسا من تشبث البنا وجماعته بالعودة إلى نظام الخلافة، على اعتبار أنه رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وشعيرة يجب على المسلمين التفكير فى أمرها والاهتمام بشأنها.
الخلافة لا تتسع بطبيعة الحال للأحزاب والحق فى الاختلاف، ذلك أن الخليفة هو الحاكم الذى يجسد تعاليم الإسلام ويعبر عن مبادئه، فكيف يمكن الاختلاف معه دون تورط فى خلاف مع الدين؟
ومن ناحية أخرى، يرى الإخوان أن الحزبية وليدة الحضارة الغربية ونظمها المادية الوضعية، وأن المسلمين فى غنى عن تقليد الظاهرة الوافدة، ففى تراثهم، يفنيهم عن تقليد الآخرين، وفى دستورهم الإلهى الشامل ما يكفيهم.
إن الحزبية عند حسن البنا مؤثمة شائنة، ورذيلة ينبغى التبرؤ منها، فهى مجرد أداة للتنافر والتقسيم والكيد والانتصار للمناهج الوضعية.
مثل هذا التصور المضاد للديمقراطية، يجعل من التحالف مع القصر، والعداء للوفد، أمراً منطقياً ومبراً.
ماذا عن العلاقة بين الإخوان المسلمين والقوتين الأكثر فاعلية فى الحياة السياسية المصرية: القصر الملكى وحزب الوفد؟!
الجماعة والملك
الملك فؤاد الاول
الملك فؤاد الاول
كان الملك أحمد فؤاد حريصاً على إحكام قبضته على مؤسسة الأزهر، ليس لأنه صالح تقى، وإنما لرغبته فى استثمار الرصيد الشعبى الكبير، الذى يمثله الدين، فى صراعاته السياسية، من أجل السيطرة الكاملة على الدولة.
وقد بدأ حسن البنا دعوته وعينه على القصر الملكى، وكانت رسالته الضمنية، عبر سلوكه الذى يتجنب السياسة من ناحية، ويعادى الوفد من ناحية أخرى، أنه عون للعرش والجالس عليه، وليس قوة محسوبة ضده .
لم يكن الملك فؤاد ذا سلوك دينى ملتزم، لكن الإخوان بالغوا فى مدحه والثناء على تدينه، وتجلى ذلك بوضوح فى المراثى العديدة التى أعقبت موته، حيث أشاروا بشكل صريح إلى أنه حامى الإسلام ورافع رايته، ونشرت صحيفة الإخوان مقالات عديدة تدعو فيها فاروق إلى التمسك بالتقاليد الإسلامية لأبيه، وتصف الملك الشاب الجديد بسمو النفس وعلو الهمة، وتضفى عليه سمات المربى والأستاذ والمثل الأعلى.
وقد كتب حسن البنا فى التاسع من فبراير سنه 1937، قبل يومين فى احتفال فاروق بعيد ميلاده السابع عشر، مقالاً يحمل عنوان "حامى المصحف" ، ويقول فيه إن ثلاثمائة مليون مسلم فى العالم تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذى يبايعهم على أن يكون حامياً للمصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنوداً للمصحف.

ويمضى البنا فى مقاله ليؤكد أن الإخوان هم أخلص جنود الملك.
وعندما تولى فاروق عرش مصر بشكل رسمى، ظهرت أصوات تطالب أن يكون التتويج فى حفل دينى، يقام فى القلعة، ويقلده شيخ الأزهر، أستاذ فاروق الشيخ المراغى، سيف جده محمد على، وأن يؤم الملك الناس إثر التتويج على اعتبار أنه الإمام الذى تصدر باسمه أحكام الشريعة.
وقد قاوم مصطفى النحاس، زعيم الوفد ورئيس الوزراء، تلك الدعوة ذات الصبغة الدينية، وراى فيها إقحاماً للدين فيما ليس من شئونه، وإيجاد سلطة دينية خاصة بجانب السلطة المدنية. كما رفض النحاس فكرة أن يتلقى الملك بعض سلطته من غير البرلمان، واشتم فى الأمر رائحة مؤامرة لتعطيل مؤتمر إلغاء الامتيازات الأجنبية.
كان الإخوان وزعيمهم البنا فى محبذى تتويج الملك فى إطار دينى، وعندما انتصر النحاس وفرض إرادته، قام جوالة الإخوان المسلمين باستعراض ضخم لتأييد الملك، وتكرر الأمر فى المظاهرات الإخوانية التى خرجت تهتف للملك عند اختلافه مع النحاس، وأطلق المتظاهرون على الملك لقب "أمير المؤمنين" .
البنا والوفد
سعد باشا زغلول
سعد باشا زغلول
كان الإخوان، بتوجيه حسن البنا، يبحثون عن دعم ملكى لمواجهة شعبية الوفد وسيطرته على الشارع السياسى، وكان الملك ومستشاره يبحثون عن كل القوى التى تنادى الوفد وتستطيع أن تهدد قوته وتشق صفوفه.
العداء للوفد هو المشترك الأكبر الذى جمع بين الإخوان والقصر الملكى، لكن أزمة الإخوان فى تصورهم أن العلاقة ندية متكافئة، ولم يكن الملك ورجاله يرون فيهم إلا أداة لتخويف الوفد.
ولقد استمر تأييد الإخوان للقصر والملك حتى سقط النظام كله، ومن ناحيته، أسدى الملك ورجاله خدمات جليلة للبنا وجماعته، لكن التحالف لم يكن مبدأياً أو قائماً على أسس تصلح للبقاء، ولم يكن إلا تعبيراً عن الاتفاق حول ضرورة العمل من أجل إضعاف الوفد.
كان منطقياً أن يكون التوتر هو السائد الحاكم فى علاقة الإخوان المسلمين مع الوفد، فالأمر فى حقيقته صراع بين مدرستين مختلفتين واتجاهين متناقضين.
منذ البدء، نشأ الوفد تجمعا وطنيا أكثر منه حزبا سياسيا، واعتبر الوفديون أنفسهم وارثى ثورة 1919 بكل مبادئها وشعاراتها. وفى المقابل، كان الإخوان يتخذون موقفاً متحفظا من الثورة الشعبية الوطنية البعيدة عن التوجه الإسلامى، وكان طموحهم فى السيطرة على الشارع، وبخاصة الفئات الدنيا منه، يصطدم بقوة الوفد وسيطرته شبه المطلقة على من ينشغلون بالعمل الوطنى والسياسي.
البدايات الأولى للإخوان لا تنم عن عداء صريح للوفد، لكن موقفهم اتسم بالسلبية عندما خاض الوفد معركته ضد ديكتاتورية محمد محمود وصدقى، وارتقى الأمر إلى درجة العداء العلنى الصريح فى منتصف الثلاثينيات .
كانت بداية هجوم الإخوان على الوفد فى عام 1935، عندما أبدى الزعيم مصطفى النحاس إعجابه بالزعيم التركى مصطفى كمال أتاتورك، وراى فيه عبقريا يفهم المعنى الحقيقى للدولة الحديثة، التى تستطيع أن تعيش وتنمو فى ظل المتغيرات الدولية.
هاجم البنا أتاتورك والنحاس معاً، و اتهم الوفد بأنه لم يحقق شيئاً من آمال المسلمين عبر حكوماته المتتالية.
واللافت للنظر هنا، استخدام البنا لكلمة "المسلمين" وليس "المصريين"، ذلك أن برنامج الوفد لا يشير من قريب أو بعيد إلى الدفاع عن مصالح المسلمين، والتركيز كله على المصريين دون نظر إلى دياناتهم .
وتكرر الهجوم على الوفد وزعيمه بعد توقيع معاهدة سنه 1936، وقال الإخوان إنها معاهدة مشئومة تخدع المصريين.
واتهم الإخوان حزب الوفد بمعارضته تطبيق الشريعة الإسلامية، وانحازوا فى كل الصراعات بين الوفد والملك إلى مصلحة السراى، وهو ما دفع بعض الصحف الوفدية إلى التحذير من مخاطر صعود الإخوان، وأثارت من جديد قضية الفصل بين الدين والدولة.
وقد استمر الإخوان فى معاداة الوفد والانحياز إلى السراى، وبخاصة أن كثيراً من الرؤى الملكية تتوافق مع الفكر الإخوانى، وبخاصة فيما يتعلق بالموقف السلبى من الدستور والحكم البرلمانى والنظام الحزبى. ولم يتورع البنا عن الهجوم على الزعيم سعد زغلول، وثورة 1919 بالتبعية، ورأى فيه زعيماً حيث لا زعيم!
تكونت جماعة مصر الفتاة عام 1933 فى مجموعة شباب جامعى، وكان تأسيسها تعبيراً عن اعتقاد قطاع من الشباب بأن مصر فى حاجة إلى زعامة جديدة شابة تقود الإصلاح، بعد أن أحسوا بخيبة الأمل إزاء النظام الدستورى الذى لا يحترم، وتتعدد انتهاكاته.
تأسست الجماعة بزعامة أحمد حسين، ولم يكن قد تجاوز العشرين إلا بقليل، وكان من أبرز المؤسسين معه نائب الرئيس مصطفى الوكيل، وسكرتير الجماعة فتحى رضوان.
وليس مثل جماعة مصر الفتاة، فى تاريخ مصر السياسي، من حيث تقلباتها السياسية وتحولاتها الفكرية، وقد تنقلت من الإيمان بالفكرة العربية، إلى الترويج للإمبراطورية المصرية، وصولاً إلى التبشير بالفاشية، قبل أن تصل – بعد سنوات أخرى – إلى الاشتراكية.
كان العداء للوفد من ثوابت الجماعة، وحول هذه النقطة التقت مع القصر والإخوان وأحزاب الأقلية الأخرى، لكن علاقة الجماعة مع الإخوان لم تخل من المنافسة والصراع. لم يكن البنا يرى فى شباب مصر الفتاة إلا مجموعة من غير الناضجين، ولم يكن أحمد حسين يرى فى البنا إلا رجلاً طامحا إلى السلطة.
لقد بدأت مصر الفتاة وهى أقرب إلى جماعة الإخوان، حيث الخطاب الدينى والشعارات الإسلامية وغلبة الروح الفردية فى الزعامة والنزعة الفاشية المعادية للديمقراطية، لكن الفارق الجوهرى بينهما يكمن فى التقلبات العديدة لجماعة أحمد حسين، وغلبة الروح القومية على توجهه العام. ومن ناحية أخرى، فقد كان الصدام متوقعا لتصارع الجماعتين على جمهور واحد، فكل انتصار لأيهما يعنى هزيمة ضمنية للآخر .
فى المرحلة الأولى من تاريخ الجماعة، كان معظم نشاطها ينصب حول الإصلاح الدينى والاجتماعى، لكن التطور فى نشاط الجماعة ودخولها العراك السياسي كان يحتم عليها أن تدلى برأيها فى قضية الاحتلال. كان رأى الجماعة فى الاحتلال البريطانى فى مصر أنه السبب الرئيسي فى تدهور مظاهر المعيشة فى كافة المجالات، وأن سياسة الإنجليز تنبع من كره دفين للإسلام والحضارة الإسلامية، وترى الجماعة أن مقاومة الاحتلال جزء من الجهاد، وأن الاستعمار "كالكفر ملة واحد وشر واحد" وكانوا يربطون بين الاحتلال البريطانى فى مصر وبين الاستعمار فى العالم الإسلامى على مختلف أشكاله وجنسياته ودعوا إلى توحيد الجهود "فالاستعمار الانجليزى فى مصر والسودان والعراق وشرق الأردن، والإيطالى فى ليبيا، والاستعمار الفرنسى والأسبانى فى تونس والجزائر ومراكش، والهولندى فى أندونيسيا، كل ذلك لون واحد من العذاب نزل بساحة المسلمين فاستذلهم بعد عزة، وأضعفهم بعد قوة، وافقرهم بعد غنى، وجهلهم بعد علم، وأمرضهم بعد صحة، ودنسهم بعد طهر وعفة.
وفى المؤتمر الخامس الذى عقد عام 1938 حذر حسن البنا الوفود الإسلامية فى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن من مكر إنجلترا وخداعها، وأشار إلى إجرام الطليان فى طرابلس، وفرنسا فى المغرب، ووجه كلامه إلى الإخوان بهذا الصدد فقال أيها الإخوان: هذا كلامى يدمى القلوب ويفتت الأكباد وحسبى هذه الفواجع فى هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال، فالموت خير من هذه الحياة، حياة العبودية والرق والاستغلال وأنتم إن فعلتم ذلك، وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله .
وفى أعقاب توقيع معاهدة 1936، التى اعتبرت فيها الأحزاب الموقعة على المعاهدة أن الإنجليز حلفاء أو أصدقاء، دعت الجماعة إلى تصحيح ذلك المفهوم لدى جماهير المصريين واعتبارهم أعداء ومحتلين وأن لا سبيل لإخراجهم إلا السلاح.
مثل كل جماعة سياسية، مهما تتنوع وتتبدل الشعارات، فإن الإخوان المسلمين عرفوا ظاهرة الانشقاق.
كان الانشقاق الأول محدوداً وجزئياً، ولم تكن الجماعة قد اشتد عودها بعد. نشب الاختلاف حول من يحل مكان البنا فى الإسماعيلية، فى أجازة صيف 1932، ولجأ المنشقون إلى إبلاغ النائب العام بشأن مخالفات مالية، كما روجوا حوله الشائعات عند ناظر المدرسة التى انتقل ليعمل فيها. وانتهى الأمر باعتداء مجموعة من مؤيدى البنا بالضرب على خصومه!.
الانشقاق الثانى، الذى وقع سنه 1939، كان الأكثر خطورة، لأنه ترتب على العلاقة المتميزة التى جمعت بين البنا والسياسي المصرى الموالى للملك والمعادى للوفد على باشا ماهر.
انفصل المنشقون وكونوا "جمعية شباب سيدنا محمد" ، وتمثلت اعتراضاتهم حول أسلوب إنفاق الأموال التى تم جمعها لدعم أحزاب العرب فى فلسطين، والتحالف مع على ماهر، والمطالبة باستخدام القوة لردع المخالفين فى الرأى.
تلازمت نشأة فرق الرحلات، وهى نفسها فرق الجوالة، مع نشأة أول شعبة للإخوان المسلمين بالإسماعيلية وكان الهدف من نشأتها هو نشر التدريب الرياضى والتمهيد للدعوة إلى الجهاد فى سبيل الله بحجة أن الاستعمار حرص على إضعاف هذه الفريضة فى نفوس المسلمين .
وقد ألف حسن البنا بالإسماعيلية أول فرقة للرحلات وكان يزاول تدريبها بنفسه على بعض التمرينات الرياضية التى كانت تزاول فى المدارس، وبعد انتقال مركز الإخوان إلى القاهرة عين مكتب الإرشاد مدرباً بمكافأة ليتفرغ لتنظيم هذه الفرق وبفضل ممارسة التدريبات الرياضية والأنشطة الاجتماعية فقد نمت هذه الفرق بصورة منتظمة حتى كان المؤتمر الثالث عام 1935والذى اهتم بالتنظيم فوضع قواعد للعمل التنظيمي ومن هذه القواعد تنظيم تشكيلات الجوالة، وبعد المؤتمر الثالث تكثفت الجهود للتوسع فى إنشاء فرق الرحلات (الجوالة) فزاد عددها واعتبرت تنظيماً وهيكلا مستقلا تابعا للمركز العام مباشرة. ومما أشعل الحماسة للتوسع فى تكوين هذه الفرق ما كان يشاهد فى شوارع القاهرة من استعراض الوفد لفرق القمصان الزرقاء واستعراض مصر الفتاة لفرق القمصان الخضراء، وكان لابد للإخوان هم أيضاً من فرق، لردع خصومها. وفى عام 1936 استطاع الإخوان حشد ما يقرب من عشرين الفا من جوالتهم فى استعراض للقوة احتفالاً من جانبهم بمناسبة اعتلاء الملك العرش.
ومع انعقاد المؤتمر الخامس 1938، والذى حدد الطبيعة الشاملة للجماعة، دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقية صوتية ومنظمة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية، هذه الأفكار جعلت من فرق الجوالة، وهى فرق رياضة اجتماعية، دوراً رئيساً لتطبيق هذه الطبيعة الشاملة.
ويقدر نجاح الجماعة فى زيادة عدد فرق الجوالة بقدر ما تقترب من خطوة التنفيذ الأخيرة، ولقد ربط البنا بين هذه الأعداد وبين خطوة التنفيذ .
وفى اهتمام خاص بفرق الجوالة، اختير لها أخلص شباب الجماعة، كما عين لها قائد عاماً سنة 1939 وهو الصاغ محمود لبيب وتكون لها مجلس قيادة من سبع أشخاص واهتمت القيادة بصقل الأعضاء وتدريبهم وتعويدهم الطاعة التامة، ولقد أفادت التحالفات السياسية مع القصر والحكومة الأقلية بالحفاظ على تشكيلات الإخوان المسلمين على الرغم من أن حكومات الأقلية ألغت القمصان الخضراء والزرقاء .
فى خريف 1937، وإلى جانب الجوالة، تم إنشاء كتائب (انصار الله)، والكتائب عبارة عن مجموعة تضم كل منها أربعين عضواً من الأعضاء النشطين كما بدأ البنا فى تكوين ثلاث كتائب: الأولى من العمال والثانية من الطلبة والثالثة من الموظفين والتجار، وكانت كل كتيبة تلتقى على حدة فى ليلة محددة، وتمارس أكبر قدر ممكن من صلوات الفرد والجماعة والتسبح وتلاوة القرآن وتفسيره وأقل قدر من النوم، والهدف الأخير من هذه التربية كان جوهره الالتزام المطلوب من العضو والذى يتلخص فى ثلاث كلمات : العمل والطاعة والصمت، ويبدو أن الجوالة والكتائب كانت مرحلة يستخلص فيها البنا من هذين التشكيلين أخلص الخلصاء وانقى الأنبياء والأكثر طواعية من أعضائهما لتكوين تنظيم عسكرى جديد يكون أكثر انضباطاً وهو ما عرف بالجهاز الخاص.

حصاد الدعوة
حسن البن
حسن البن
أول مكتب إرشاد للإخوان المسلمين جدير بالتأمل والتحليل، فقد تكون من أحد عشر عضوا، هم :
حسن البنا المرشد العام
الشيخ مصطفى محمد الطير نائب القاهرة الإدارى والمدرس بالمعهد الأزهرى .
الشيخ عبد الحفيظ فرغلى المدرس بالمعهد الأزهرى ومن علماء الفقه.
الشيخ حامد عسكرية نائب شبرا خيت وواعظها ومن علماء الأزهر (منتدباً).
الشيخ عفيفى الشافعى عطوه نائب الأربعين بالسويس ومأذونها الشرعى (منتدباً)
الأستاذ أحمد أفندى السكرى نائب المحمودية ومن أعيانها بالمدرسة الابتدائية بها (عضوا منتدبا) .
الأستاذ خالد عبد اللطيف أفندى أحد نواب الجمالية ومن أعيانها (عضواً منتدباً) .
الأستاذ محمد أفندى فتح الله درويش بمكتب المالية بالقاهرة.
الأستاذ عبد الرحمن أفندى الساعاتى بهندسة الوبورات بالسكة الحديد بالقاهرة
الأستاذ محمد أسعد الحكيم أفندى بهندسة الوبورات بالسكة الحديد بالقاهرة.
الأستاذ محمد أفندى حلمى نور الدين مفتش رى الجيزة بالقاهرة.
الملاحظ على التشكيل أنه يضم واحدا من خريجى دار العلوم، هو حسن البنا نفسه، وأربعة من خريجى الأزهر، وواحد من الأعيان ملاك الأراضى، وخمسة من الموظفين.
يختلف التشكيل عما كان عليه الأمر فى الإسماعيلية قبل عدة سنوات، فلا يوجد نجارون أو حلاقون أو مكوجية أو سائقون أو جناينية أو عجلاتية. المشترك الراسخ فى المرحلتين هو سيطرة الوجوه الجديدة، غير المعروفة بنشاطها السياسى أو الفكرى.
حسن البنا وحده هو الزعيم، وهو القادر على السيطرة والتوجيه، وعلى أن يكون المرشد والقائد وصاحب الكلمة المسموعة.
عن حصاد الدعوة والحركة، التى قامت بها الجماعة بين عامى 1928و 1938، أصدر الإخوان المسلمون بيانا يوضح نشأة الجماعة وغايتها ونظامها والأعمال التى قامت بها وأحوالها المالية وصلتها بغيرها من الجمعيات وحصرا كاملا بشعب الإخوان ودوائرهم وأسماء مندوبى المناطق ونواب الشعب. صدر البيان فى يونيو 1937، ونشر بجريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية تحت عنوان "بيان موجز للإخوان المسلمين" .
انتشرت شعب وفروع الإخوان فى سبعة عشر منطقة داخل مصر : فى أحياء مختلفة من القاهرة، وفى الإسكندرية ومدن القناة والعريش وسيناء والقليوبية والمنوفية والغربية والدقهلية والشرقية والبحيرة والجيزة وبنى سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا وأسوان.
ونجح الإخوان فى الوصول إلى بعض مناطق من العالم الإسلامى : السودان، الحجاز، سوريا، فلسطين، لبنان، المغرب الأقصى، البحرين، الصومال، الهند.
قد يكون الفضل فى الانتشار والتوسع مرتبطا بمجموعة من العوامل الموضوعية العامة المحيطة، لكن الجانب الأكبر للنجاح يعود إلى ميراث حسن البنا وجهده المنظم وما يتسم به من دأب ونشاط، وما أكثر الحكايات التى تبرهن على ذلك.
كان المؤتمر العام الخامس للإخوان المسلمين، فى يناير 1939، هو الأهم والأضخم فى تاريخ الجماعة، وتزامن مع الاحتفال بمرور عشر سنوات على تأسيسها.
اهتم المؤتمر بتنظيم الشأن الداخلى للجماعة، وحدد البنا للأعضاء نطاق حركتهم، وصاغ الشعار العام الذى تمسكت به الجماعة عبر تاريخها كله: الحركة دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، ومنظمة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
كان المؤتمر مؤشراً واضح الدلالة على أن الجماعة قد اشتدت وقويت واستقلت، وأنها تتعامل بقدر من الندية والشعور بالقوة مع الأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة، فضلاً عن القصر الملكى ورجاله من مستشارى الملك.
ولقد سجل حسن البنا، فى "مذكرات الدعوة والداعية" أهم الأهداف والأنشطة التى يسعى الإخوان جاهدين إلى تحقيقها :
-       المحاضرات والدروس فى مقر الجماعة وفى المساجد .
-       إصدار القانون الأساسى للإخوان واللائحة الداخلية .
-       إصدار عددين من رسالة المرشد العام .
-       إصدار مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية .
-       إصدار مجلة النذير.
-       إنشاء الشعب فى القاهرة والأقاليم.
-       تكوين التشكيلات الكشفية والرياضية .
-       الاهتمام بنشر الدعوة فى المدارس والجامعات .
-       تشجيع التعليم الدينى ومقاومة التبشير.
-       الدعوة إلى المنهاج الإسلامى ومهاجمة الحكومات المقصرة إسلامياً.
-       مناصرة القضايا الإسلامية والوطنية.

وفى المؤتمر، حدد البنا خصائص دعوة الإخوان فى مجموعة من العناصر، التى تتمثل فى :
1-       البعد عن مواطن الخلاف.
2-       البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان.
3-       البعد عن الهيئات والأحزاب.
4-       التدرج فى الخطوات.
5-       إيثار النواحى العملية على النواحى المظهرية.
6-       تواؤمها مع روح الشباب.
7-       سرعة الانتشار فى المدن والقرى.

ورداً على المتسائلين عن الثورة واستخدام القوة، فقد نفى البنا أن تكون الثورة طريق

(إن وطناً كمصر جرب حظه فى الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون رده وفى هذا تفخر الثورة العرابية وثورة 1919) ثم يقول وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون منطقها ونتائجها.
أما عن القوة فيقول: أما الإخوان فإنهم سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة.
وفى محاولة لتهدئة المتحمسين من الشباب، قال أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم اسمعوها منى كلمة عالية مدوية من فوق هذا المنبر فى مؤتمركم هذا الجامع: " إن طريقكم هذا مرسومه خطواته وموضوعة حدوده ولست مخالفاً هذه الحدود التى اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول وأجل قد تكون طريقاً طويلاً ولكن ليس هناك غيرها إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقطف زهرة قبل أوانها فلست معه فى ذلك بحال" .
كانت شعبة جيبوتى أول انتشار لدعوة الإخوان المسلمين خارج مصر، وقد بدأت بحضور أحد أبناء جيبوتى إلى القاهرة وزيارته لمقر الإخوان، وبعد عودته إلى وطنه أرسل خطابا يعلن فيه عن إنشاء شعبة للإخوان فى جيبوتى، ويطلب من حسن البنا أن يمده بالدروس والمحاضرات اللازمة لإنجاح جهوده فى نشر الدعوة
كان ذلك فى عام 1932، وقد أعلنت جريدة الإخوان الأسبوعية عن الخطوة الجديدة، وقالت إن مكتب الإرشاد قد انتدب الأخ المهذب عبد الله أفندى حسن على نور اليمانى ليكون الصلة بين شعبة جيبوتى والمركز العام.
وجاءت ثورة فلسطين سنه 1936 لتزيد من انتشار الدعوة الإخوانية فى فلسطين وسوريا ولبنان، بعد أن تعمقت الصلة مع مفتى فلسطين وبعض الشخصيات المصرية ذات الاهتمام بالشأن العربى من منظور إسلامى.
إذا كان التبرع الذى حصل عليه الإخوان من شركة قناة السويس عند بدء نشاطهم فى الإسماعيلية، سنه 1928، قد أثار اختلافا وجدلاً لم تنته آثاره حتى الآن، فإن قضية اقتصاديات الإخوان وأساليب تمويل الحركة تمثل أمراً شائكاً . ويتسم بقدر كبير من الغموض وغياب الشفافية والوضوح.
فى الاجتماع الثانى لمجلس شورى الإخوان، فى يناير 1934، اتخذ المجتمعون قراراً بإنشاء مطبعة وتشكلت لذلك الغرض شركة مساهمة تعاونية، بقيمة عشرين قرشاً للسهم. بلغ عدد الأسهم 544 سهماً.
فى 1936، مع ثورة فلسطين، رأت الجماعة أن الوضع مناسب للدعاية لأفكارهم وقد استغلوا هذا الحدث فى جمع التبرعات التى من المفترض أن تذهب إلى فلسطين، لكن التبرعات كانت تذهب إلى دعم نشاط الجماعة وتقوية الشعب المختلفة. ويذكر ميتشل أن كثيراً من الرأسمالين والإقطاعين قدموا تبرعات مالية للجماعة بحجة تشجيعها على محاربة الشيوعيين، والملاحظ أن محلات التبرع كانت تحظى بسرعة لا تتلاءم مع إمكانات الأعضاء ففى عام 1938 فشلت الجماعة فى تنفيذ مشروع سهم الدعوة – الذى اقترحه عبد الحكيم عابدين – وذلك لمواجهة حاجة الدعوة إلى المال، والذى كان يقضى بأن يتبرع العضو بخمس أو عشر إيراده لجماعة الإخوان، وقد كتب صالح عشماوى فى مجلة النذير يعلن أسفه لعدم نجاح هذا المشروع الذى لم يستجب له إلا قلة قليلة وقال "دعونا من نشر الأرقام فهى لا تشرف أما أنت أيها الأخ الكريم عبد الحكيم عابدين فلنطو سوباً "صفحة الرعيل الأول صفحة حمراء صنعة الخجل كتبت بحداد الشخ والبخل .
ومع هذا الاعتراف بالفشل من جانب صالح عشماوى فقد ذكر حسن البنا فى مذكرات الدعوة والداعية أن الإخوان تسابقوا إلى تنفيذ مشروع سهم الدعوة مشكورين!
ومع ذلك لم ينف البنا المساعدات الحكومية فكتب فى مذكراته بعنوان أول مساعدة حكومية للإخوان أن مجلس مديرية الدقهلية بجلسته المنعقدة بتاريخ 14 ربيع الأول سنه 1356 هـ 24 مايو سنه 1937 برئاسة صاحب العزة "أحمد بك فهمى" وكيل المديرية قرر منح شعبة الإخوان المسلمين بالمنصورة إعانة سنوية قدرها مائة وخمسون جنيهاً مصرياً وذكر حسن البنا أن مجلة الإخوان قد نشرت ذلك .
ومن المعروف أن وزارة الشئون الاجتماعية كانت تمنح كثيراً من الشعب إعانات مادية وكانت هيئة الكشافة تمنح الجوالة كثيرا من الامتيازات .
كان اشتعال الحرب العالمية الثانية نقطة تحول، فى تاريخ العالم ومصر والإخوان المسلمين.
العالم قبل الحرب يختلف عن العالم أثناء الحرب، والعالمان يختلفان عن الخريطة الجديدة التى تشكلت بعد نهاية الصراع العالمى الدموى الذى أسفر عن سقوط ملايين الضحايا.
بعد نهاية الحرب اختلفت كل الأوضاع، ولن يتأتى فهم حقيقة التغيير الذى حدث بمعزل عن إدراك طبيعة سنوات الحرب نفسها.
ماذا حدث فى العالم؟
ماذا حدث فى مصر؟
ماذا حدث للإخوان؟! 
يتبع : الحلقة الثالثة