كان الإخوان، بتوجيه حسن البنا، يبحثون عن دعم ملكى لمواجهة شعبية الوفد وسيطرته على الشارع السياسى، وكان الملك ومستشاره يبحثون عن كل القوى التى تنادى الوفد وتستطيع أن تهدد قوته وتشق صفوفه.
العداء للوفد هو المشترك الأكبر الذى جمع بين الإخوان والقصر الملكى، لكن أزمة الإخوان فى تصورهم أن العلاقة ندية متكافئة، ولم يكن الملك ورجاله يرون فيهم إلا أداة لتخويف الوفد.
ولقد استمر تأييد الإخوان للقصر والملك حتى سقط النظام كله، ومن ناحيته، أسدى الملك ورجاله خدمات جليلة للبنا وجماعته، لكن التحالف لم يكن مبدأياً أو قائماً على أسس تصلح للبقاء، ولم يكن إلا تعبيراً عن الاتفاق حول ضرورة العمل من أجل إضعاف الوفد.
كان منطقياً أن يكون التوتر هو السائد الحاكم فى علاقة الإخوان المسلمين مع الوفد، فالأمر فى حقيقته صراع بين مدرستين مختلفتين واتجاهين متناقضين.
منذ البدء، نشأ الوفد تجمعا وطنيا أكثر منه حزبا سياسيا، واعتبر الوفديون أنفسهم وارثى ثورة 1919 بكل مبادئها وشعاراتها. وفى المقابل، كان الإخوان يتخذون موقفاً متحفظا من الثورة الشعبية الوطنية البعيدة عن التوجه الإسلامى، وكان طموحهم فى السيطرة على الشارع، وبخاصة الفئات الدنيا منه، يصطدم بقوة الوفد وسيطرته شبه المطلقة على من ينشغلون بالعمل الوطنى والسياسي.
البدايات الأولى للإخوان لا تنم عن عداء صريح للوفد، لكن موقفهم اتسم بالسلبية عندما خاض الوفد معركته ضد ديكتاتورية محمد محمود وصدقى، وارتقى الأمر إلى درجة العداء العلنى الصريح فى منتصف الثلاثينيات .
كانت بداية هجوم الإخوان على الوفد فى عام 1935، عندما أبدى الزعيم مصطفى النحاس إعجابه بالزعيم التركى مصطفى كمال أتاتورك، وراى فيه عبقريا يفهم المعنى الحقيقى للدولة الحديثة، التى تستطيع أن تعيش وتنمو فى ظل المتغيرات الدولية.
هاجم البنا أتاتورك والنحاس معاً، و اتهم الوفد بأنه لم يحقق شيئاً من آمال المسلمين عبر حكوماته المتتالية.
واللافت للنظر هنا، استخدام البنا لكلمة "المسلمين" وليس "المصريين"، ذلك أن برنامج الوفد لا يشير من قريب أو بعيد إلى الدفاع عن مصالح المسلمين، والتركيز كله على المصريين دون نظر إلى دياناتهم .
وتكرر الهجوم على الوفد وزعيمه بعد توقيع معاهدة سنه 1936، وقال الإخوان إنها معاهدة مشئومة تخدع المصريين.
واتهم الإخوان حزب الوفد بمعارضته تطبيق الشريعة الإسلامية، وانحازوا فى كل الصراعات بين الوفد والملك إلى مصلحة السراى، وهو ما دفع بعض الصحف الوفدية إلى التحذير من مخاطر صعود الإخوان، وأثارت من جديد قضية الفصل بين الدين والدولة.
وقد استمر الإخوان فى معاداة الوفد والانحياز إلى السراى، وبخاصة أن كثيراً من الرؤى الملكية تتوافق مع الفكر الإخوانى، وبخاصة فيما يتعلق بالموقف السلبى من الدستور والحكم البرلمانى والنظام الحزبى. ولم يتورع البنا عن الهجوم على الزعيم سعد زغلول، وثورة 1919 بالتبعية، ورأى فيه زعيماً حيث لا زعيم!
تكونت جماعة مصر الفتاة عام 1933 فى مجموعة شباب جامعى، وكان تأسيسها تعبيراً عن اعتقاد قطاع من الشباب بأن مصر فى حاجة إلى زعامة جديدة شابة تقود الإصلاح، بعد أن أحسوا بخيبة الأمل إزاء النظام الدستورى الذى لا يحترم، وتتعدد انتهاكاته.
تأسست الجماعة بزعامة أحمد حسين، ولم يكن قد تجاوز العشرين إلا بقليل، وكان من أبرز المؤسسين معه نائب الرئيس مصطفى الوكيل، وسكرتير الجماعة فتحى رضوان.
وليس مثل جماعة مصر الفتاة، فى تاريخ مصر السياسي، من حيث تقلباتها السياسية وتحولاتها الفكرية، وقد تنقلت من الإيمان بالفكرة العربية، إلى الترويج للإمبراطورية المصرية، وصولاً إلى التبشير بالفاشية، قبل أن تصل – بعد سنوات أخرى – إلى الاشتراكية.
كان العداء للوفد من ثوابت الجماعة، وحول هذه النقطة التقت مع القصر والإخوان وأحزاب الأقلية الأخرى، لكن علاقة الجماعة مع الإخوان لم تخل من المنافسة والصراع. لم يكن البنا يرى فى شباب مصر الفتاة إلا مجموعة من غير الناضجين، ولم يكن أحمد حسين يرى فى البنا إلا رجلاً طامحا إلى السلطة.
لقد بدأت مصر الفتاة وهى أقرب إلى جماعة الإخوان، حيث الخطاب الدينى والشعارات الإسلامية وغلبة الروح الفردية فى الزعامة والنزعة الفاشية المعادية للديمقراطية، لكن الفارق الجوهرى بينهما يكمن فى التقلبات العديدة لجماعة أحمد حسين، وغلبة الروح القومية على توجهه العام. ومن ناحية أخرى، فقد كان الصدام متوقعا لتصارع الجماعتين على جمهور واحد، فكل انتصار لأيهما يعنى هزيمة ضمنية للآخر .
فى المرحلة الأولى من تاريخ الجماعة، كان معظم نشاطها ينصب حول الإصلاح الدينى والاجتماعى، لكن التطور فى نشاط الجماعة ودخولها العراك السياسي كان يحتم عليها أن تدلى برأيها فى قضية الاحتلال. كان رأى الجماعة فى الاحتلال البريطانى فى مصر أنه السبب الرئيسي فى تدهور مظاهر المعيشة فى كافة المجالات، وأن سياسة الإنجليز تنبع من كره دفين للإسلام والحضارة الإسلامية، وترى الجماعة أن مقاومة الاحتلال جزء من الجهاد، وأن الاستعمار "كالكفر ملة واحد وشر واحد" وكانوا يربطون بين الاحتلال البريطانى فى مصر وبين الاستعمار فى العالم الإسلامى على مختلف أشكاله وجنسياته ودعوا إلى توحيد الجهود "فالاستعمار الانجليزى فى مصر والسودان والعراق وشرق الأردن، والإيطالى فى ليبيا، والاستعمار الفرنسى والأسبانى فى تونس والجزائر ومراكش، والهولندى فى أندونيسيا، كل ذلك لون واحد من العذاب نزل بساحة المسلمين فاستذلهم بعد عزة، وأضعفهم بعد قوة، وافقرهم بعد غنى، وجهلهم بعد علم، وأمرضهم بعد صحة، ودنسهم بعد طهر وعفة.
وفى المؤتمر الخامس الذى عقد عام 1938 حذر حسن البنا الوفود الإسلامية فى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن من مكر إنجلترا وخداعها، وأشار إلى إجرام الطليان فى طرابلس، وفرنسا فى المغرب، ووجه كلامه إلى الإخوان بهذا الصدد فقال أيها الإخوان: هذا كلامى يدمى القلوب ويفتت الأكباد وحسبى هذه الفواجع فى هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال، فالموت خير من هذه الحياة، حياة العبودية والرق والاستغلال وأنتم إن فعلتم ذلك، وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله .
وفى أعقاب توقيع معاهدة 1936، التى اعتبرت فيها الأحزاب الموقعة على المعاهدة أن الإنجليز حلفاء أو أصدقاء، دعت الجماعة إلى تصحيح ذلك المفهوم لدى جماهير المصريين واعتبارهم أعداء ومحتلين وأن لا سبيل لإخراجهم إلا السلاح.
مثل كل جماعة سياسية، مهما تتنوع وتتبدل الشعارات، فإن الإخوان المسلمين عرفوا ظاهرة الانشقاق.
كان الانشقاق الأول محدوداً وجزئياً، ولم تكن الجماعة قد اشتد عودها بعد. نشب الاختلاف حول من يحل مكان البنا فى الإسماعيلية، فى أجازة صيف 1932، ولجأ المنشقون إلى إبلاغ النائب العام بشأن مخالفات مالية، كما روجوا حوله الشائعات عند ناظر المدرسة التى انتقل ليعمل فيها. وانتهى الأمر باعتداء مجموعة من مؤيدى البنا بالضرب على خصومه!.
الانشقاق الثانى، الذى وقع سنه 1939، كان الأكثر خطورة، لأنه ترتب على العلاقة المتميزة التى جمعت بين البنا والسياسي المصرى الموالى للملك والمعادى للوفد على باشا ماهر.
انفصل المنشقون وكونوا "جمعية شباب سيدنا محمد" ، وتمثلت اعتراضاتهم حول أسلوب إنفاق الأموال التى تم جمعها لدعم أحزاب العرب فى فلسطين، والتحالف مع على ماهر، والمطالبة باستخدام القوة لردع المخالفين فى الرأى.
تلازمت نشأة فرق الرحلات، وهى نفسها فرق الجوالة، مع نشأة أول شعبة للإخوان المسلمين بالإسماعيلية وكان الهدف من نشأتها هو نشر التدريب الرياضى والتمهيد للدعوة إلى الجهاد فى سبيل الله بحجة أن الاستعمار حرص على إضعاف هذه الفريضة فى نفوس المسلمين .
وقد ألف حسن البنا بالإسماعيلية أول فرقة للرحلات وكان يزاول تدريبها بنفسه على بعض التمرينات الرياضية التى كانت تزاول فى المدارس، وبعد انتقال مركز الإخوان إلى القاهرة عين مكتب الإرشاد مدرباً بمكافأة ليتفرغ لتنظيم هذه الفرق وبفضل ممارسة التدريبات الرياضية والأنشطة الاجتماعية فقد نمت هذه الفرق بصورة منتظمة حتى كان المؤتمر الثالث عام 1935والذى اهتم بالتنظيم فوضع قواعد للعمل التنظيمي ومن هذه القواعد تنظيم تشكيلات الجوالة، وبعد المؤتمر الثالث تكثفت الجهود للتوسع فى إنشاء فرق الرحلات (الجوالة) فزاد عددها واعتبرت تنظيماً وهيكلا مستقلا تابعا للمركز العام مباشرة. ومما أشعل الحماسة للتوسع فى تكوين هذه الفرق ما كان يشاهد فى شوارع القاهرة من استعراض الوفد لفرق القمصان الزرقاء واستعراض مصر الفتاة لفرق القمصان الخضراء، وكان لابد للإخوان هم أيضاً من فرق، لردع خصومها. وفى عام 1936 استطاع الإخوان حشد ما يقرب من عشرين الفا من جوالتهم فى استعراض للقوة احتفالاً من جانبهم بمناسبة اعتلاء الملك العرش.
ومع انعقاد المؤتمر الخامس 1938، والذى حدد الطبيعة الشاملة للجماعة، دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقية صوتية ومنظمة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية، هذه الأفكار جعلت من فرق الجوالة، وهى فرق رياضة اجتماعية، دوراً رئيساً لتطبيق هذه الطبيعة الشاملة.
ويقدر نجاح الجماعة فى زيادة عدد فرق الجوالة بقدر ما تقترب من خطوة التنفيذ الأخيرة، ولقد ربط البنا بين هذه الأعداد وبين خطوة التنفيذ .
وفى اهتمام خاص بفرق الجوالة، اختير لها أخلص شباب الجماعة، كما عين لها قائد عاماً سنة 1939 وهو الصاغ محمود لبيب وتكون لها مجلس قيادة من سبع أشخاص واهتمت القيادة بصقل الأعضاء وتدريبهم وتعويدهم الطاعة التامة، ولقد أفادت التحالفات السياسية مع القصر والحكومة الأقلية بالحفاظ على تشكيلات الإخوان المسلمين على الرغم من أن حكومات الأقلية ألغت القمصان الخضراء والزرقاء .
فى خريف 1937، وإلى جانب الجوالة، تم إنشاء كتائب (انصار الله)، والكتائب عبارة عن مجموعة تضم كل منها أربعين عضواً من الأعضاء النشطين كما بدأ البنا فى تكوين ثلاث كتائب: الأولى من العمال والثانية من الطلبة والثالثة من الموظفين والتجار، وكانت كل كتيبة تلتقى على حدة فى ليلة محددة، وتمارس أكبر قدر ممكن من صلوات الفرد والجماعة والتسبح وتلاوة القرآن وتفسيره وأقل قدر من النوم، والهدف الأخير من هذه التربية كان جوهره الالتزام المطلوب من العضو والذى يتلخص فى ثلاث كلمات : العمل والطاعة والصمت، ويبدو أن الجوالة والكتائب كانت مرحلة يستخلص فيها البنا من هذين التشكيلين أخلص الخلصاء وانقى الأنبياء والأكثر طواعية من أعضائهما لتكوين تنظيم عسكرى جديد يكون أكثر انضباطاً وهو ما عرف بالجهاز الخاص.