يتسم موقف الإخوان المسلمين من الحرب العالمية الثانية بالدقة والحذر والوعي السياسي، فقد أعلنوا في المذكرة التي رفعوها إلى حكومة علي ماهر، أكتوبر 1939، أنهم لا يؤيدون معاهدة سنة 1936، وما تفرضه على مصر من التزامات، وطالبوا رئيس الوزراء بأن تقتصر إجراءات حكومته على تأمين الحدود المصرية، وعدم التورط في ممارسات تقود البلاد إلى المشاركة الفعلية في الصراع.
ويمكن ترجمة هذا الموقف، باللغة السياسية السائدة في تلك المرحلة، على أنه تعبير عن نظرية تجنيب مصر ويلات الحرب، وهو ما يترجمه حسن البنا في دعوته إلى الحياد والاستعداد، وليس أفضل من هذا الموقف– كما يقول البنا– لأننا مجبرون عليه.
وفي كثير من المصادر الإخوانية والإنجليزية والمحايدة، ما يؤكد أن السفارة البريطانية، في أغسطس 1940، عرضت على جماعة الإخوان مبلغ عشرين ألف جنيه مقابل الدعاية ضد المحور، وجاء هذا العرض في اجتماع ضم الجنرال كلايتون والمستشرق هيورت، ممثلين للجانب الإنجليزي، وأحمد السكري مندوباً عن الإخوان.
اعتمد المنطق الإنجليزي على أن وقوف جماعة الإخوان ضد المحور يتوافق مع التعاليم الإسلامية، التي تقترب من الديمقراطية بقدر تنافرها مع النازية والفاشية.
وإذا كان مؤرخو الإخوان يجدون في رفض البنا للعرض الإنجليزي دليلاً على استقلاليته ونزاهته، فإن خصوم الإخوان يتساءلون بدورهم عن السر في قبول البنا لتبرع شركة قناة السويس، عند بداية تأسيس الحركة، وعن الفارق بين التبرعين!.
الأقرب إلى الدقة والإنصاف أن رفض عرض السفارة كان لأسباب سياسية، فالرأي العام المصري معبأ ضد الإنجليز ومشحون بكراهيتهم، والإخوان أنفسهم لا يرون أن الفكر الديمقراطي أقرب إلى الإسلام من الفاشية والنازية، بل إن حماسهم لهذه الأفكار يبدو واضحاً مقارنة بموقفهم السلبي من الديمقراطية.
وعلى الرغم من رفض البنا والإخوان للتعاون المباشر الصريح مع الإنجليز، وما ترتب على ذلك من اعتقال البنا لفترة قصيرة وإبعاده عن القاهرة، فإن المؤتمر السادس للإخوان، في يناير 1941، حاول توجيه رسالة تهدئة للإنجليز، مع الإيحاء بأن الإخوان يتبنون المسلك الديمقراطي ويبتعدون عن التطرف الذي لا تخفيه جماعات أخرى مثل الحزب الوطني وحركة مصر الفتاة.
أكد المؤتمر أن الإخوان لا يؤمنون بالعمل الانقلابي العنيف، وأن الوسيلة الأساسية لنشر الدعوة هي الإقناع والعمل السلمي، وأن التغيير الذي ينشدونه يعتمد على الطرق البرلمانية الدستورية. ويتجلى ذلك بوضوح في اتخاذ المؤتمر لقرار اشتراك الجماعة في أول انتخابات نيابية قادمة.
لقد حاول المؤتمر أن يضفي على الجماعة سمة الحزب الديمقراطي المؤمن بالنظام البرلماني، وفي الوقت نفسه نشط حسن البنا في تشكيل فرق الجوالة الإخوانية، وقد بلغ عدد أفراد هذه الفرق حوالى 2000 عضو عند انعقاد المؤتمر السادس، فضلاً عن التوسع في الشعب الإخوانية التي وصل عددها، في التاريخ نفسه، إلى 500 شعبة.
في أول سبتمبر 1939، اشتعلت الحرب العالمية الثانية، بعد أن اجتاحت الجيوش الألمانية حدود بولندا – أعلنت إنجلترا وفرنسا الحرب، إثر رفض الألمان لسحب قواتهم من الأراضي البولندية.
كان هدف السياسة البريطانية في مصر أن تخلو الأوضاع من القلاقل التي تسبب المتاعب لقوات الحلفاء، وأن تحول دون تحرك الاتجاهات الموالية للمحور لمناصرة ألمانيا وإيطاليا.
بناء على طلب السفارة الإنجليزية، بادرت حكومة علي ماهر بإعلان الأحكام العرفية، وتم تعيين علي ماهر حاكما عسكريا، وفُرضت الرقابة على الصحف والمجلات والمراسلات.
لم يكن علي ماهر، الذي تولى رئاسة الوزارة في الثاني عشر من أغسطس 1939 بعد استقالة وزارة محمد محمود، يحظى بثقة الإنجليز الكاملة. وعلى الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وألمانيا، فقد تم تعيين الفريق عزيز المصري رئيساً لأركان حرب الجيش المصري، وهو المعروف بعدائه للإنجليز وتعاطفه مع الألمان، كما أصبح صالح باشا حرب وزيراً للحربية، فسعى منذ اليوم الأول لإقامة العراقيل في وجه التعاون العسكري بين مصر وبريطانيا، وبادر بإنشاء جيش مرابط، أوكل قيادته إلى وزير الأوقاف عبد الرحمن باشا عزام، الذي كان يبث الحماس الوطني في نفوس الضباط. وقد روى الجنرال ولسون، قائد القوات البريطانية في مصر، أن عزيزا المصري أشاد بالعسكرية الألمانية أمام الضباط المصريين، وقلل من شأن القوات البريطانية. وفي الوقت نفسه، لم يستمر التعاون بين البعثة العسكرية البريطانية وبين القيادة المصرية بصورة مرضية، مما أدى إلى نشوب كثير من المصادمات.
وما لبثت ألمانيا أن أحرزت انتصارات مدوية على الحلفاء، وهو ما دفع بعض الأوساط البرلمانية المصرية إلى المفاداة باتباع سياسة حيادية، والعمل على استغلال الصعوبات التي تواجهها بريطانيا لتعديل معاهدة 1936. وقد أدى ذلك كله إلى تحول في اتجاهات الرأى العام نحو مزيد من العداء للإنجليز من ناحية، والمزيد من التعاطف مع دول المحور من ناحية أخرى. وازداد قلق السفارة البريطانية لشعورها بتشجيع الحكومة والسراي للاتجاهات المناوئة لها، وهو ما دفعها إلى ممارسة المزيد من الضغوط على رئيس الوزراء، فمنح عزيزا المصري إجازة طويلة ثم أحاله إلى الاستيداع. وظلت العلاقة متوترة بين علي ماهر والسلطات البريطانية، حتى انفجرت الأزمة في يونيو 1940، بدخول إيطاليا إلى ساحة الحرب.
اكتفى علي ماهر بأن يطرح للتصويت أمام البرلمان موضوع قطع العلاقات مع إيطاليا، وقرر البرلمان المصري، بناء على اقتراح علي ماهر، أن مصر لن تشارك في الحرب إلا إذا بادرت إيطاليا بغزو الأراضي المصرية، أو إذا تعرضت المدن المصرية لقصف جوي إيطالي، أو أغارت القوات الإيطالية على أهداف عسكرية مصرية. وقد فسرت الدوائر البريطانية سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب، التي اتبعها علي ماهر، بأنها انحياز ضمني إلى جانب ألمانيا وإيطاليا، بل إن تعاطفه مع المحور، الذي قيل إن كل حاشية الملك كانت تشاركه فيه، كان موضعا لهمسات ملحة في دوائر الحلفاء، في الوقت الذي تمكنت فيه جهود الدبلوماسية الفاشية من أن تكسب إلى جانبها، ليس فقط علي ماهر، بل والملك فاروق نفسه، وقطاعات واسعة من الرأي العام، ومعظم الأحزاب السياسية، باستثناء الهيئة السعدية التي يتزعمها السياسيان البارزان أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي.
وهكذا، قاومت حكومة علي ماهر، بتأييد من السراي والرأي العام، كل ضغوط السفارة البريطانية الداعية إلى مزيد من التعاون والتنسيق، وتلقت القوات المصرية المرابطة في الغرب أوامر بعدم إطلاق النار على الجنود الإيطاليين، وطلبت السفارة إلغاء هذا الأمر، الذي أصبح مثاراً لخلاف عميق بين الجانبين، وسرعان ما ازدادت خطورته في الوقت الذي كان فيه علي ماهر يريد إعلان القاهرة مدينة مفتوحة وخالية من القوات البريطانية.
بفعل هذا كله، ازدادت الضغوط البريطانية، وتوترت العلاقة بين الوزارة والسفارة إلى حد خطير، وانتهى الأمر بسقوط وزارة علي ماهر في يونيو 1940.