كانت مرحلة الحرب العالمية، وبخاصة بعد حادث فبراير 1942، هى البداية الحقيقية للاتصال بين الإخوان المسلمين وضباط الجيش المصرى، الذين أعلنوا عن سخطهم واستيائهم من الإهانة التى لحقت بالملك فاروق عندما حاصرت الدبابات الانجليزية قصر عابدين، وأجبرته على تعيين مطصفى النحاس رئيسا للوزراء.
نشط الإخوان فى تجنيد ضباط الجيش وضمهم إلى صفوف الجماعة، مع ترتيب لقاءات سرية مع حسن البنا. ومع تعدد الروايات واختلافها، فإن الإجماع قائم على ارتباط جمال عبد الناصر بجماعة الإخوان، من خلال الضابط الإخوانى عبد المنعم عبد الرؤوف، أو عن طريق الشيخ أحمد حسن الباقورى. وخلال مرحلة الارتباط هذه، أسهم عبد الناصر فى تدريب أعداد كبيرة من العناصر الإخوانية.
ولا يقتصر الأمر على جمال عبد الناصر وحده، فثمة صلات أخرى مع عدد غير قليل من اضلباط، منهم خالد محى الدين وعبد اللطيف البغدادى وكمال الدين حسين وحسين الشافعى. وإذا كان العداء للوفد والحركة الشيوعية قد جمع بين الإخوان والقصر، فإن الرغبة المشتركة فى مقاومة الاحتلال الانجليزي هى التى وثقت الروابط بين الضباط الوطنيين وجماعة الإخوان.
ولم يكن هؤلاء الضباط الوطنيون يخفون إعجابهم بما تتسم به الجماعة من انضباط يقترب من الروح العسكرية التى تربوا عليها. وكان النظام الخاص هو المكان الأكثر ملاءمة لهؤلاء الضباط ما يحكم تخصصهم العسكرى وانضباطهم والتزامهم بالسرية، حيث يتم القسم والبيعة فى غرفة مظلمة، ويظهر المسدس والمصحف لتأكيد الولاء ، ثم يتولى الشيخ سيد سابق مسئولية تلقين الدروس فى اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
ما الذى حال دون المزيد من التطور الايجابى فى العلاقة بين الضباط وجماعة الإخوان؟ ولماذا تراجع الكثيرون منهم عن حماسهم القديم، وبحثوا عن ملاذ سياسى وفكرى أخر، قبل أن يتشكل تنظيمهم الخاص المستقل ؟!
ربما تكون بداية التراجع فى العام 1946، حيث اندفع الإخوان فى تأييد حكومة إسماعيل صدقى الرجعية الديكتاتورية التى لا تحظى بثقة الشعب والضباط الوطنيين، وحيث بدأ الإخوان فى ممارسة العنف والقيام بعمليات إرهابية جزئية، كما أن عاملا ثالث لا يمكن إهماله يتمثل فى الصدمة الأخلاقية للضباط نتيجة الاتهامات الموجهة ضد عبد الحكيم عابدين، صهر المرشد، وتأييد البنا غير المبرر له .
لقد أدرك عبد الناصر أن الطريق الإخوانى لا يلائم طموحه، ولذلك سعى إلى تحويل ولاء الضباط إلى التنظيم الذى شرع فى تأسيسه دون ارتباط بقوى أخرى :“,”الضباط الحرا“,”. ولا يفى هذا أن نفوذ الإخوان قد انتهى وتبخر، لكن المؤكد أنه تراجع ولم يعد يواصل الصعود .
لم يكن الوفد، حتى إقالته فى أكتوبر سنه 1944، يرى فى الإخوان إلا جماعة دينية محدودة التأثير على الصعيد السياسيى، أم المرشد حسن البنا فشاب طموح يحلم بمقعد فى البرلمان، ولا يعدو احتواء هذا اشلاب وترويضه بالأمر العسير.
وفى المقابلن كان البنا يرى فى الوفد منافسا هو الأخطر فى اشلارع السياسي، ذلك أنه الحزب الذى ورث الثورة الشعبية التى قادها زعيم الوفد الأول سعد زغلول، ثم انتقل ميراث الزعامة والشعبية إلى خليفته مصطفى النحاس.
اتسمت العلاقة بالتجانس والتنسيق خلال الحرب، وإذا كان الوفد قد ربح صمت الإخوان وتجنب المشاكل التى قد يشيرونها فى أجواء لا تحتمل القلاقل، فإن الإخوان كانوا الطرف الأكثر إفادة من الصفقة الضمنية مع حكومة الوفد، فانتشروا فى القاهرو وكثير من الأقاليم، وتمتعوا بحماية الحكومة الوفدية ودعمها.
اختلفت الحسابات والمعايير بعد نهاية الحرب، واندفع الإخوان إلى الارتماء فى أحضان السراى وحكومات الأقلية، وهو ما يفى بالضرورة الابتعاد عن الوفد ومناصبته العداء. وإذا كان الوفد قد اتخذ موقف المعارضات من حكومتى النقراشى وصدقى، فإن الإخوان قد أيدوا الحكومتين، وباركوا السياسة القمعية التى انتهجها إسماعيل صدقى، وطالت بعض قيادات ورموز الوفد.
توترت العلاقة بين الوفد وافخوان، وتبادلا الهجوم الحاد، ووصل الصراع إلى ذروته فى يوليو 1946، فى ميدنة بور سعيد، المعروفة لولائها التقليدى للوفد. تحول الصدام بين الوفديين والإخوان إلى العنف، وألقى أنصار الإخوان ثلاث قنابل، مما أسفر عن مقتل أحد الوفديين وإصابة الشعرات، وهو ما أدى إلى تجمع الوفديين فى ثورة غضب مضاد، وأشعلوا النار فى دار الإخوان والنادى الرياضى، وحوصر المرشد العام حسن البنا، حتى أفلت بصعوبة.
وقرب نهاية أغسطس 1946، نشرت صحيفة “,”صوت المة“,” الوفدية هجوما عنيفا ضد الإخوان ومرشدهم، وقالت إن البنا يتعرض لهتافات معادية أثناء زياراته للأقاليم، ويصفه المتظاهرون بأنه صنيعة الانجليز، وأطلقت الصحيفة عليه اسم الشيخ حسن راسبوتين، فى إشارة إلى المشعوذ الروسى الشهير.
وقد اعتمدت الحملة الوفدية ضد الإخوان على عداء الجماعة للديمقراطية واعتمادها على تشكيلات شبه عسكرية. وعلى الرغم من محاولات التوفيق بين الوفد الجماعة، فقد استمر العداء، وقالت صوت الأمة إن البنا حكومى أكثر من الحكوميين، ونقراشى أكثر من النقراشيين.
ولقد كشف البنا عن السر الحقيقى فى عداء الجماعة للوفد، فقد كتب فى مايو 1947، فى جريدة الإخوان، يستنكر الهجوم الوفدى على جماعته، ويرى أن الوفد على جماعته، ويرى أن الوفد يعيش بعقلية قديمة، متصورا أنه الأمة، وأن الأمة هى الوفد. وهاجم البنا موقف الحزب من إسماعيل صدقى، قبل أن يصل إلى جوهر الخلاف، وهو تمسك الوفد بالنظام السياسى والاجتماعى الغربى الممسوخ المشوه، بينما يراهن الإخوان على اختيار الأمة للوضع الربانى السليم.
شهد اليسار المصرى، بعد الحرب العالمية الثانية، ازدهارا واسعا على المستويين النظرى والحركى، وقد وجدت البرامج والشعارات التى طرحها الشيوعيون، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، صدى ملموسا عند الطبقات الفقيرة وشرائح من الطبقة الوسطى.
ومع ازدياد نشاط المنظمات اليسارية، السرية غالبا، تولت جوالة الإخوان مهمة تعقب أعضاء هذه التنظيمات والإبلاغ عنها، ووصل الأمر بالبنا إلى التصريح بان أحد اهداف جمع الإخوان للسلاح هو التصدى للخطر الذى يمثله الشيوعيون، وكان التحالف مع الغرب مقبولا عند المرشد شريطة التنسيق فى مواجهة الأخطار الشيوعية التى تهدد المنطقة .
وعندما بدأ إسماعيل صدقى، سنه 1946، حملته الشهيرة ضد القوى الوطنية والتقدمية، واعتقل المئات من المثقفين والطلبة والعمال، وأغلق عشرات الصحف والمجلات المعبرة عن مختلف الاتجاهات، سارع الإخوان بتأييد حملته القمعية المعادية للحريات، ونشرت الصحيفة الإخوانية الرسمية أن الظروفتحتم ذلك الإجراء، لأن سلامة المجتمع وحرية الأمة تفوق كل شئ!
لقد سعى الإخوان دائماً إلى استثمار الشبح الشيوعى، فى إطار من التهويل والمبالغة، لاحتواء الملك وإرهابه من الخطر الذى تمثله الشيوعية، وطالب حسن البنا، فى لقاء دمعه مع بعض أعضاء السفارة الأمريكية، بتكوين مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكيين لمكافحة الشيوعية.
وفى يوليو 1946، نشرت مجلة “,”الإخوان المسلمون“,” مقالا مهما عنوانه “,”الإخوان المسلمون فى مصر بين الوفد والشيوعية“,”، وكشفت المجلة عن مرتكزات العداء الإخوانى للشيوعية: إنهم ياتمرون باوامر موسكو والإخوان يأتمرون باوامر الله، والشيعيون دعاة إلحاد وكفر وفساد أخلاقى أما الإخوان فدعاة إيمان وعقيدة دينية وسمو اخلاقى .
ولقد تجسد الصراع بين الإخوان والشيوعيين فى مجال الحركتين الطلابية والعمالية، وحقق الشيوعيون نجاحا وسط العمال يفوق ما حققه الإخوان، وهو ما يمكن تبريره فى إطار الوعى بالشعارات الاجتماعية والاقتصادية التى رددها الشيوعيون، فى مواجهة الإطار الفضفاضى غير المحدد للشعارات والمبادئ الإخوانية.
ولم يختلف الأمر كثيراً فى الجامعة، حيث انتشر النشاط الشيوعى فى الأوساط الطلابية ، وأسهموا بدور بارز فى لجنة العمال والطلبة التى قاومت ديكتاتورية صدقى، فى الوقت الذى تحالف فيه الإخاون مع الحكومة غير الشعبية، وخرجت مظاهرات طلبة الإخوان فى الجامعة لتشيد بصدقى، وتردد الآيات القرآنية التى تحض على طاعته! .
ومن الناحية الفكرية، فقد رأى الإخوان أن التعاليم الإسلامية تغنى عن المبادئ الاشتراكية المستوردون، لكنهم لم يتطرقوا إلى مناقشة تفصيلية لطبيعة الرؤى الاشتراكية التى تتمثل فى الإسلام كما يفهمونه.