استغلال التنظيمات الإرهابيّة للعناصر الإجراميّة في تنفيذ خططها.. إفريقيا نموذجا

الإثنين 19/أكتوبر/2020 - 07:51 ص
طباعة استغلال التنظيمات حسام الحداد
 
يواصل مرصد الأزهر لمكافحة التطرف سلسلة مقالاته التي تعالج التداخل بين الجريمة والإرهاب، والتي تسبّبت في وضع متأزم للعالم جرّاء العديد من الأسباب، والتي من بينها العمليَّات الإرهابيَّة التي تُرتكب باسم الدّينِ، وما يصحبها من ردود فعلٍ على الجانب الآخر تصعد التوتر. وقد تعرضت الحلقة الأولى من هذه السلسة إلى قارة آسيا وبعض النماذج من استغلال ما يسمى "تماسيح" التنظيمات الإرهابيّة للعناصر الإجراميّة، ونحن الآن سننتقل إلى معالجة هذه الظاهرة في قارة إفريقيا.
بداية، نؤكد أن الفكرة لا تتوقف عند حدودٍ معيَّنةٍ، وعليه فإن فكرة "خلايا التماسيح" برزت في تنظيم "القاعدة" قبل الكشف عنها رسميًّا في الصحيفة البريطانيّة عندما استهدفت حركة "الشَّباب" الصوماليَّة أحد المجمَّعات الحيويَّة في كينيا في هجومٍ وصف بأنه نقلة نوعيَّة في تكتيك تلك الحركة الإرهابيَّة الموالية لـ "القاعدة".
تلك النقلة النوعيَّة تحدَّث عنها تقرير أعدَّه كلٌّ من "MATT BRYDEN"، و"PREMDEEP BAHRA" ونشر في يوليه 2019 على موقع “Combating Terrorism Center” تحت عنوان "الثالوث الإرهابي لشرق إفريقيا: هجوم فندق دوسيت والتطور التاريخي للتهديد الإرهابي".
جديرٌ بالذّكر أنَّ الهجوم الإرهابيّ الذي نفَّذته حركة "الشَّباب الصوماليَّة" استهدف مجمَّع مكاتب في حيّ "Westlands" في العاصمة الكينيَّة "نيروبي" والذي يضمُّ فندق دوسيت Dusit في 15 يناير 2019؛ حيث قُتل خلال الحصار اللَّيليّ 21 شخصًا، وأُصيب 28 آخرون في هجومٍ وصف بأنه تطوُّرٌ نوعيّ في هجمات الحركة الإرهابيَّة رغم ضربها لكينيا عدَّة مراتٍ في السّابق.
ويعود هذا التطوُّر النوعيُّ في تكتيك الحركة إلى اعتمادها على عناصر كينيّين من أصلٍ غير صوماليّ لتنفيذ الهجوم بما في ذلك انتحاريٌ من مدينة "مومباسا" الساحليَّة الكينيَّة، في حين كانت تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على صوماليّين لتنفيذ عمليَّاتها الإرهابيَّة داخل الصومال وخارجه قبل هذا الهجوم، ومن هنا جاء التطوُّر النوعيُّ في هجمات الحركة الإرهابيَّة.  
ووفق التقرير فإن ما ميَّز هجوم "دوسيت" عن غيره من هجماتٍ إرهابيَّةٍ أنه شكَّل أوَّل عمليَّةٍ انتحاريَّةٍ ناجحةٍ للحركة، تمَّ التخطيط لها وقيادتها وتنفيذها بشكلٍ أساسيٍّ من قِبل كينيّين الأصل، وهو ما أشار إلى دخول التهديد الإرهابيّ في شرق إفريقيا والقرن الإفريقيّ مرحلة جديدة أكثر خطورة.
ويمكن القول إن شرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقيّ تعدُّ حواضن تفريخٍ مهمةٍ للتنظيمات المتطرّفة؛ لأنها تمدُّها بالعناصر الإرهابيَّة الفاعلة بينما يوفر تنظيمي "القاعدة" و"داعش" الغطاء الأيديولوجيَّ لها والجاذبيَّة العالميَّة، وهو ما تسعى حركة "الشباب" لتحقيقه أي التوسُّع عالميًّا.
هذا الطموح ترجمه هجوم نيروبي الذي تضمَّن أوَّل هجوم انتحاريّ ينفذه كيني الأصل من حركة "الشباب" ضدَّ وطنه، فالأوضاع الدّاخليَّة في الصّومال شكَّلت بيئة خصبة لحركة "الشباب" للعمل دون قيودٍ لسنواتٍ طويلةٍ تحت راية تنظيم "القاعدة" مما سمح لها بإضفاء الطابع العالميّ على عمليَّاتها، وهو ما سهل من مهمَّة جذبها لعناصر جددٍ من الدول المحيطة بها، وإنشاء خلايا جديدة تتمتع بنفس مقومات "خلايا التماسيح" التي تحدَّثت عنها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانيَّة لتنفيذ هجماتٍ أكثر فتكًا؛ لذا فقد تجمَّعت العوامل معًا وشكَّلت ما أسماه بـ "الثالوث الإرهابيّ" الذي ظهر خطورته جليًّا في هجوم نيروبي مطلع عام 2019 .
إلا أن هذا الطموح للتمدُّد عالميًّا ليس وليد اللَّحظة؛ بل عملت الحركة جاهدة على تحقيقه بتشجيع من "تنظيم القاعدة"، برز هذا في مقطع فيديو تمَّ تسجيله قبل وقتٍ قصيرٍ من مغادرة أحد المفجرين الانتحاريّين لهجوم كمبالا للصُّومال، ذلك الهجوم الإرهابيَّ الذي استهدف موقعين في كمبالا بأوغندا، والذي يعد أول هجوم إرهابي كبير تشنه الحركة خارج الصومال في يوليو 2010؛ حيث حذَّر الانتحاري من خطط الحركة لتوسيع نطاق "قتالها" إلى دولٍ أخرى في شرق إفريقيا.
وقد لاحظ فريق مراقبةٍ تابع للأمم المتحدة في ذلك الوقت، أن التخطيط لهجمات "كمبالا" وتنظيمها يشير إلى أن حركة "الشباب" لا تمتلك الإرادة والقدرة فقط على تنفيذ مثل هذه الهجمات، بل إنها تؤدّي إلى ظهور جيلٍ جديدٍ من المقاتلين من شرق إفريقيا، وأن تلك المجموعات تمثل تحدّيًا أمنيًّا جديدًا للمنطقة والمجتمع الدَّوليّ الأوسع، وهو ما نستطيع أن نطلق عليهم اسم (خلايا التماسيح) أيضًا.
وعلى الرَّغم أن السَّنوات التي أعقبت تفجيرات أوغندا شهدت هجماتٍ نفذها صوماليون الأصل فقط، في إشارةٍ إلى تراجع قدرة الحركة على الدَّفع بعناصر من دول شرق إفريقيا، لتنفيذ هجماتٍ إرهابيَّةٍ في بلدانهم إلا أن هؤلاء المقاتلين من دول شرق إفريقيا اكتسبوا المهارات والخبرات داخل أرض الصومال، وهو ما يمكن توظيفه في نهاية المطاف في بلدانهم وأماكن أخرى من المنطقة بل والعالم.  
تكلَّل ذلك بالفعل في عام 2016 حيث تلقَّى عددٌ كافٍ من عناصر حركة "الهجرة الكينيَّة" تدريباتٍ من حركة "الشباب" في الصّومال ممَّا مكَّن عناصرها من شنّ هجماتٍ داخل كينيا بشكلٍ أكثر استقلاليَّة وفعاليَّة. هذه العناصر المدرَّبة جيدًا تجمَّعت في مايو 2016 في أحد المنازل الآمنة في "كوماروك" بنيروبي؛ لمناقشة خططٍ لعمليّات مهمَّة ضدَّ وطنهم كينيا وكان من بين الحاضرين ثلاثة ممَّن شاركوا في هجوم "دوسيت" مطلع 2019 ـــ ذلك الهجوم الذي سبق أن ذكرنا أنه شكَّل نقلة نوعيَّة في تكتيك عمليّات حركة الشباب الصوماليَّة ـــ ومن بين الثلاثة "ماهر رزيكي" المفجّر الانتحاريُّ الوحيد في الهجوم، والذي عاد بعد الاجتماع للصّومال للتحضير لدوره في العمليَّة. 
وعقب هذه الاجتماعات حاولت الحركة تنفيذ عدَّة عمليّاتٍ إرهابيَّةٍ داخل كينيا، إلا أن الشرطة تمكَّنت من إجهاضها، مثل اعتراضها لسيَّارة دفعٍ رباعيّ تمَّ تحويلها إلى سيارةٍ مفخَّخة بها قرابة 100 كيلو من المتفجّرات بالقرب من "إيسيولو" في فبراير 2018.
وبناءً على تقرير "الثالوث الإرهابيّ لشرق إفريقيا: هجوم فندق دوسيت والتطوُّر التاريخيّ للتهديد الإرهابيّ" فإنه رغم إحباط هذه الهجمات في 2018 كان يجب على أجهزة الأمن الكينيَّة التنبُّه إلى تمكَّن حركة "الشباب" من التوغُّل في الداخل الكينيّ من خلال الخلايا المحليَّة التي استطاعت التطوّر والاستعداد لمثل هذه الهجمات. فبعد 10 أشْهُر من إحباط الشُّرطة الكينيَّة لتلك الهجمات في 2018، استطاعت عناصر كينيَّة الأصل تابعة لحركة الشَّباب الصوماليَّة تنفيذ الهجوم على المجمَّع، الذي يضمُّ فندق "دوست" في العاصمة نيروبي، وبعد تمكَّن الشرطة من القضاء على الإرهابيّين، وإنقاذ أكثر من 700 شخص، تم تسمية العديد من هؤلاء الإرهابيّين من بينهم "سالم جيشونج" الملقَّب بـ "فاروق" من "نيري" وسط كينيا. وفي وقتٍ سابقٍ قدّرت دراسة مموَّلة من الوكالة الأمريكيَّة للتنمية الدوليَّة عام 2018، بأنه منذ عام 2013 تمَّ تجنيد حوالي 200 شابًّا في حركة الشباب من المقاطعة التي تقع فيها "إيسيولو" حيث ينشط المجندون التابعون للحركة في الأحياء الفقيرة لتجنيد الجميع بغضِّ النظر عن العِرْقِ.
أما ثالث مهاجمي "دوست" الذي ذكرت الشرطة اسمه فهو "ماهر رزيكي"، صاحب تاريخ من العنف والتطرُّف، والذي هرب إلى الصّومال بعد صدور مذكّرة توقيف بحقه. وقبل يومين فقط من هجوم "دوست" عاد "رزيكي" إلى كينيا من منطقة "جيدو" الصوماليَّة عبر "إيلواك" في مقاطعة "مانديرا" ثم إلى "تاكابا" بالقرب من "مويالي" مستقلًا حافلة إلى نيروبي للقاء "فاروق" لتلقّي التعليمات الخاصَّة بدوره في العمليَّة الإرهابيَّة.
وبناءً على تحرُّكات "رزيكي" يبرز للجميع أهمية مراقبة الشخصيَّات صاحبة التاريخ في التطرُّف والعنف، وتتبُّع تحرُّكاتها جيدًا خاصَّة مع تكرار العديد من العمليَّات الإرهابيَّة على يد أشخاصٍ لديهم سجلٍّ إجراميٍّ متطرّف، وأهمية مراقبة الحدود خاصَّة إذا كان يتواجد على أطرافها جماعة نشطة مثل "الشباب الصوماليَّة" التي سبق أن هدَّدت باستهداف كينيا وغيرها من دول المنطقة.
وبالنَّظر إلى العمليَّات الإرهابيَّة التي تنفذها الحركة بين الوقت والآخر يتأكَّد لنا قدرتها على شنّ المزيد في المستقبل بالاعتماد على "خلايا التماسيح"، التي لن تحمل الجنسيَّة الصوماليَّة بل ستكون من دول شرق إفريقيا؛ لتجنب تعطيل مهمتهم أو كشفهم من قِبَلِ الأجهزة الأمنيَّة اعتمادًا على شبكة الرَّوابط المتداخلة مع العناصر الإجراميَّة ممَّن يعملون في الظّلّ ويلبّون احتياجات تلك العناصر الإرهابيَّة من وثائق هويَّة مزوَّرةٍ لتيسير تحرُّكاتهم، وأسلحةٍ ومتفجراتٍ لتنفيذ عمليَّاتهم الإرهابيَّة بعيدًا عن أعين الأمن.
هذا ما لفت إليه التقرير الصّادر عن فريق المراقبة التابع للأمم المتحدة في 2018، والذي كشف عن وجود شبكةٍ ثانويَّةٍ من الوسطاء والميسرين غير الصوماليّين، وغير المتطرّفين أيديولوجيًّا ساعدت العناصر الكينيَّة التابعة لحركة الشَّباب الصّوماليَّة في الخدمات اللوجستيَّة ووثائق الهويَّة المزيَّفة وشهادات التأمين المزوَّرة؛ وبالتالي يتأكّد لنا ما أشرنا إليه في المقدّمة عن وجود روابط متداخلةٍ وشديدة التعقيد بين الجريمة والإرهاب، فالتسهيلات اللّوجستيَّة مكَّنت تلك العناصر الإرهابيَّة من النفاذ والتحرُّك بسهولةٍ دون كشف هويَّتها الحقيقيَّة في كينيا.
فهذه العناصر الإجراميَّة التي لا تُحسب على التنظيمات الإرهابيَّة، وبالتالي لا تثير قلق الأجهزة الأمنيَّة في مجال مكافحة الإرهاب يمكنها التحرُّك بالتوازي مع تحرُّكات تلك التنظيمات الإرهابيَّة لتكملة الخطَّة الموضوعة، وهو ما أدركته حركة الشباب وغيرها من تنظيمات إرهابيَّة تعمل على مدّ جسور التعاون مع عناصر على صلةٍ بعالم الجريمة كالسَّرقة وتجارة المخدّرات والتزوير. 
وقد أدَّت تلك الرَّوابط المتداخلة بين الجريمة والإرهاب إلى بروز ظاهرة "الإرهاب الهجين" في إفريقيا؛ حيث تتداخل فيها العديد من الأبعاد القبليَّة والدينيَّة والإجراميَّة.
هذا المزج بين التنظيمات الإرهابيَّة والعناصر الإجراميَّة دفع مجموعة الأزمات الدَّوليَّة لإطلاق مسمَّى "العصابات الدينيَّة" على تلك الظاهرة نتيجة ظهور مجموعاتٍ تجمع بين القتال باسم الدّين والجريمة المنظَّمة داخل شبكاتٍ عابرةٍ للحدود؛ حيث يتمُّ تشكيل اقتصادٍ موازٍ يُعرف باسم "اقتصاد الاحتيال". فالتنظيمات الإرهابيَّة استطاعت تقوية شبكة علاقاتها مع العناصر المتورّطة في تجارة البشر والمخدّرات وتهريب السّلاح؛ بهدف تقوية مواردها الماليَّة والتزوُّد بالسّلاح، وما ساعدها في تدعيم تلك الشَّبكة المتداخلة تحالفاتها مع بعض القبائل المنتشرة في المناطق الصّحراويَّة مثل حركة "بوكو حرام" النَّيجيريَّة.
ووفقًا للإحصاءات الصّادرة عن الوكالة الأوروبيَّة لإدارة التعاون العمليّاتي في الحدود الخارجيَّة للدول الأعضاء بالاتّحاد الأوربيّ "فرونتكس" مطلع 2016، حصل تنظيم "داعش" الإرهابيّ على مبالغ ماليَّة ضخمةٍ مقابل تسهيل عمليّات الهجرة من إفريقيا "جنوب الصَّحراء" إلى أوربَّا. كما نجح في تحويل وجهة عديدٍ من المهاجرين غير الشَّرعيّين من الهجرة إلى أوربَّا للانضمام إلى صفوف مقاتليه.
كل ما سبق يبرهن على خطورة تلك الروابط المتداخلة بين الجريمة والإرهاب، واستغلال التنظيمات الإرهابيّة لتلك التشابكات في دعم صفوفها بالعناصر الجديدة والمال والسلاح، وهذا ما سنبرزه بالتفصيل في الجزء التالي من هذه السلسة من تقرير "التداخل بين الجريمة والإرهاب" حيث سنسلط الضوء على تلك المصالح المتبادلة وتمكَّن "خلايا التماسيح" من تنفيذ عمليَّاتها بفضل هذه الرَّوابط المتشابكة في أوربا لبيان مدى خطورتها وعمقها.

شارك