قبضة الملالي تستغل الفراغ الامريكي بالعراق
الإثنين 29/أغسطس/2022 - 01:45 م
طباعة
روبير الفارس
تفاخر الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حديث له مع صحيفة "واشنطن بوست" بأن الشرق الأوسط أصبح "أكثر استقراراً وأماناً" مما كان عليه عندما تسلم السلطة من سلفه دونالد ترامب. ومن بين الأمثلة التي ذكرها كان العراق، حيث تراجع عدد الهجمات الصاروخية ضد الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين. وفي حين أنه محق من حيث انخفاض عدد الهجمات التي تستهدف الأمريكيين، إلّا أن هذا المقياس وحده لا يكفي لدعم ادعائه باستقرار المنطقة. فوفقاً لكافة المقاييس الأخرى تقريباً، إن العراق أقل استقراراً اليوم مما كان عليه في يناير 2021 - كما أن التهديدات المحدقة بالمصالح الأمريكية فيه قد تفاقمت.وكشف تقرير كتبه " ديفيد شينكر "مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الادني
إن الحلفاء السياسيين لإيران في العراق اليد العليا – حاليا - وأن الديمقراطية الهشة في البلاد مهددة أكثر من أي وقت مضى، وللمرة الأولى منذ عقدٍ من الزمن، يظهر احتمال اندلاع أعمال عنف حتى بين الجماعات الشيعية.
لكن كان من الممكن أن يكون الوضع مختلفاً. فقد كان مقتدى الصدر الفائز الأكبر في الانتخابات النيابية التي جرت في أكتوبر الماضي، وهو رجل دين شيعي شعبوي دعا خلال حملته الانتخابية إلى بناء عراق [حر] لا تهيمن عليه لا واشنطن ولا طهران. وقد فاز تحالف الصدر بالأكثرية من مجموع عدد المقاعد البالغ 329 مقعداً في مجلس النواب، ليهزم بذلك الأحزاب الإسلامية الشيعية المدعومة من إيران والتي تمثل الأذرع السياسية لميليشيات «قوات الحشد الشعبي».وقال ديفيد إن الصدر ليس الدواء الشافي. ففي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أصبح "جيش المهدي" الذي أسسه الصدر من أشد المعارضين للوجود الأمريكي في العراق، وكاد رجل الدين أن يُقتل على يد القوات الأمريكية. إلا أن الصدر أظهر نفسه مؤخراً بمظهر القومي، ومحارب الفساد، وناقد الأنشطة العسكرية التي تنفذها «قوات الحشد الشعبي» في العراق ضد الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين.
ويقيناً، أننا لا نعلم ما إذا كان رجل الدين صاحب المواقف المتقلبة سيختار في النهاية نظاماً دينياً على الطراز الإيراني، وينصّب نفسه مرشداً أعلى عند وصوله إلى سدة الحكم. ففي أعقاب الانتخابات على الأقل، كان الصدر مستعداً لتشكيل تحالف حكومي ذو أغلبية من الشيعة ويشمل السنّة والأكراد ويستثني الأحزاب المدعومة من إيران. ولربما كان هو وحلفاؤه من النواب قادرين على بسط السيادة العراقية ومحاربة الفساد، الذي هو هدف رئيسي للحركة الاحتجاجية الضخمة التي عمت البلاد عام 2019.
غير أن تلك الحكومة لم تبصر النور قط. فقد عمد حلفاء إيران إلى تأخير تشكيلها، إذ أفادت بعض التقارير أن الجماعات التابعة لـ «قوات الحشد الشعبي» مثل «عصائب أهل الحق» و«كتائب سيد الشهداء» و«كتائب حزب الله» هددت بإسقاط الحكومة، وحاولت اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وأمطرت الأكراد بالصواريخ والهجمات بالطائرات المسيّرة، كما قصفت منزل رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي. ومن المسلّم به أن الصدر وشركائه الأكراد لم يغتنموا اللحظة، لكنهم كانوا على الأقل يحرزون تقدماً بطيئاً.
وقد لعب "الإطار التنسيقي" المدعوم من إيران آنذاك - أي خصوم الصدر من الشيعة - بطاقته الرابحة. فلمنع الصدر والأكراد والسنّة الذين فازوا بأغلبية مقاعد مجلس النواب من اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، استغلت المعارضة المدعومة من إيران نفوذها على الجسم القضائي الفاسد لتغيير قواعد اللعبة. وللمرة الأولى حكمت "المحكمة الاتحادية العليا" بأن الأغلبية البسيطة لم تعد تكفي لتشكيل الحكومة، وأصبحت الأغلبية المطلقة من ثلثيْ النواب شرطاً لذلك. وبعد أن عجزت كتلة الصدر المؤلفة من 73 نائباً عن بلوغ هذه العتبة، قدّمت استقالةً جماعية في يونيو، وتمّت إعادة تخصيص مقاعدها للأحزاب المتحالفة مع إيران.
فمَن الذي خطط لهذا الانقلاب القضائي؟ إنه نوري المالكي الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2006 و 2014 والذي اشتهر بفساده الهائل ونزعته الطائفية الخبيثة، اللذين ساهما بشكلٍ كبير في بروز تنظيم «داعش». ففي يناير 2021، أفادت بعض التقارير أنه أفلت بصعوبة من عقوبات إدارة ترامب. وبصفته صانع الملوك، يتحكم المالكي مجدداً بزمام الأمور.وتجدر الملاحظة أن الصدر والمالكي يتنافسان على زعامة الطائفة الشيعية في العراق منذ عام 2008 على الأقل، عندما هاجمت القوات الحكومية بقيادة المالكي «جيش المهدي» الذي أسسه الصدر وهزمته في "معركة البصرة". ونظراً إلى هذا التاريخ الحافل بالعدائية، رد الصدر على تسمية "الإطار التنسيقي" في 25 يوليو لحليف المالكي محمد شياع السوداني لمنصب رئيس الوزراء بالإيعاز إلى مناصريهلاحتلال مجلس النواب ومنع التصويت لانتخاب رئيس حكومة، وهذا ما فعلوه على النحو المطلوب. وبدا كما لو أن الصدر حذا حذو المتمردين الذين اقتحموا الكونجرس في 6 يناير 2021 في واشنطن.واليوم، لم يعد الصدريون في مجلس النواب، لكنهم لا يزالون حاضرين في "المنطقة الدولية" ("المنطقة الخضراء") في الجهة المقابلة لمجلس النواب، لمنع انتخاب السوداني. ومن ناحية أخرى، يدعو الصدر إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة بموجب قانون انتخابي معدّل - وهي مطالب يعارضها "الإطار التنسيقي" المدعوم من إيران. ومع استمرار المأزق، تتصاعد التوترات في أوساط الشيعة في العراق. وبصرف النظر عن كيفية الخروج من هذا المأزق، من المرجح أن يزداد نفوذ إيران في بغداد، مما يثبط عزيمة الناخبين العراقيين الذين صوتوا بأغلبية ساحقة لصالح التغيير في أكتوبر الماضي.
ويقيناً، ليس من الواضح ما إذا كان بإمكان واشنطن منع حدوث ذلك. فعلى أي حال، لا يبدو أن الإدارة الأمريكية بذلت جهوداً متضافرة لإحباط هذا السيناريو. فخلال الأشهر التسعة تقريباً الفاصلة بين الانتخابات وانسحاب النواب الصدريين، تُظهر السجلات العامة أن كبار المسؤولين الأمريكيين في وزارة الخارجية و"مجلس الأمن القومي" لم يزوروا العراق سوى مرتين،وفي المقابل، زار قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إسماعيل قاآني وغيره من كبار المسؤولين الإيرانيين العراق ما لا يقل عن 10 مرات خلال الأشهر الأخيرة لتهديد شركائهم المحليين وخصومهم، وخداعهم، وإقناعهم بكيفية تشكيل الحكومة المقبلة. وفي حين لا يشكل عدد الزيارات وحده مقياساً كافياً لمدى اهتمام الولايات المتحدة، إلّا أن التباين يشير إلى أن واشنطن انتهجت مقاربة عدم التدخل. فلم تستخدم الإدارة الأمريكية نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي لحماية عمليةٍ تحاربها طهران.