إقصاء الآخر صناعة التكفير في عالم العقائد
اسم الكتاب: إقصاء الآخر
صناعة التكفير في عالم العقائد
المؤلف: د.أحمد محمد سالم
دار النشر: الهيئة العامة لقصور
الثقافة
مقدمة:
إن أية معالجة حقيقية لقضية
العنف أو الإرهاب ذات الأصول الدينية لا يمكن أن تكون بحثًا حقيقيًا دون دراسة
الجذور التاريخية لنشأة وتكوين هذه الممارسات لسلبية عبر تاريخنا الحضاري
والثقافي، وذلك لأن كل ممارسة تتسم بالعنف تقوم بالأساس على إطار من الاعتقاد
النظري الخاطئ، فالعنف يبدأ من الفكرة والمعتقد قبل أن ينتقل إلى الممارسة
والسلوك، وخاصة إذا كان هذا العنف يستند في أساسه إلى عقائد إيمانية ودينية.
وتحاول هذه الدراسة أن تبحث
في الأسس النظرية للعنف، وهي صناعة الإقصاء، أو تأسيس ما يمكن أن نسميه مجازًا
بالعقلية الإقصائية في ثقافتنا. إن العنف، والإقصاء والتكفير في حياتنا الراهنة هو
امتداد لعنف وإقصاء وتكفير في تاريخنا القديم، ومن هنا كانت العودة إلى تراثنا
القديم للبحث في جذور الأزمة الراهنة ضرورية، وتبدو أهمية دراسة الجذور التاريخية
بغية استكشاف بنية العنف في هذا السياق التاريخي.
وتركز الدراسة في المقام
الأول على بيان قضية (إقصاء الآخر: طريق العنف.. قراءة في مدونات الفرق والملل
والنحل لأهل السنة)، وتحاول الدراسة أن تجيب على مجموعة من التساؤلات المهمة
والملحة تطرح نفسها: ما الإقصاء؟ كيف تمت صناعة الإقصاء في مدونات الملل والنحل
لأهل السنة؟ وما طرق ووسائل الإقصاء في تلك المدونات؟ وكيف انتقل الإقصاء إلى
ممارسة للعنف في الواقع؟ إنها أسئلة كثيرة تظهر كيف رسخت مدونات الفرق والملل والنحل
لأهل السنة لمنطق الإقصاء والتكفير، والذي أدى بدوره إلى ممارسة العنف في حياتنا
قديمًا وحديثًا، وذلك لأن هذه الكتب والمدونات هي التي تبث الوعي الإقصائي، والفكر
الاستبعادي للآخر في ثقافتنا. إن صناعة الإقصاء والعنف تبدأ من الفكر النظري
غالبًا لتنتقل بعد ذلك إلى ممارسة له في الواقع.
ومعنى الإقصاء من الناحية
اللغوية: الإبعاد، وفي لسان العرب مادة "قصا" نجد: أن قصا عنه، وقصوا،
وقصا، وقصاء، وقصي: بعد، وقصا المكان قصوًا: بعد، وقصوت من القوم، تباعدت،
والقاصي، والقاصية، والقصى، والقصية من الناس والمواضع: المتنحي البعيد، وأقصى
الرجل يقصيه باعده، وفي الحديث: أن الشيطان ذئب الإنسان يأخذ القاضية والشاذة،
والقاصية: المنفردة عن القطيع البعيد، ويريد أن الشيطان يتسلط على الخارج من
الجماعة وأهل السنة، وجاء في القرآن (فحملته فانتبذت به مكانًا قصيًا) (مريم: 22)
أي مكان بعيدًا وأيضًا (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا
المرسلين) (يس: 20) أي أبعد مكان من المدينة، فمعنى الإقصاء من الناحية اللغوية
هو: البعد والإبعاد والاستبعاد.
ومفهوم الإقصاء من الناحية
الاصطلاحية لا يبعد في تعريفه عن الدلالة اللغوية له، فمصطلح الإقصاء Exclusion نجده
مرادفًا لمصطلح Social Closure أو الانغلاق الاجتماعي،
والانغلاق يأتي غالبًا لاعتقاد مجموعة معينة لها معايير ومعتقدات وقيم خاصة متميزة
عن غيرها، وهي في الأغلب تتجه لاستبعاد الآخرين المغايرين لهذه المعايير والقيم
والمعتقدات.
وعلى ذلك فالإقصاء من
الناحية الاصطلاحية يعني "قوة جماعة واحدة على منع الجماعة الأخرى من الحصول
على المكافأة أو فرص الحياة الإيجابية، وذلك في ضوء المعايير التي تسعى الجماعة
الأولى لتبريرها، ومن ثم فالإقصاء هو حشد القوة لاستبعاد أو حرمان الآخرين من
الامتيازات والمكافآت". ولهذا: فالإقصاء هو أحد نتائج ممارسات العقل، أو
الرأي، أو الفكر أو العقيدة المغلقة، تلك التوجهات التي تعتقد أن تفكيرها أو رأيها
أو معتقدها هو وحده الذي يملك الصدق المطلق، والحق المطلق، وأن ما عداها على ضلال
مطلق، وخطأ مطلق، هنا فقط يتحقق مفهوم الإقصاء.
وحين يكون مفهوم الإقصاء ذا
أبعاد دينية يكون أكثر حدة، لأن أصحاب المعتقدات الدينية يضفون طابع القداسة على
أفكارهم ومعتقداتهم، وبالتالي يتخذ الإقصاء طابع الحدة والعنف حين يتم تبريره
بنصوص مقدسة من الكتاب والسنة، فالإقصاء إذن هو نتاجًا لكل فكر أحادي دوجماطيقي، ويصدر
عن عقل لا يرى الحقيقة إلا من جانب واحد، هو الجانب الذي يعتقد فيه، وهو الذي يملك
الصدق المطلق، وأي اتجاه آخر يكون على باطل مطلق.
وإذا كان البحث يعني بمفهوم
إقصاء الآخر، فإن الآخر- الذي يعنيه البحث في مدونات الملل والنحل لأهل السنة- هو
الآخر المشارك لأهل السنة في الملة، والمغاير لها في المذهب، وهي المذاهب
الإسلامية من الخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة، ولا يعني البحث في الآخر بموقف
مدونات الملل والمنحل لأهل السنة من الآخر المغاير لنا في الملة مثل اليهود
والنصارى والمجوس وغيرهم من الملل المغايرة للإسلام، فذلك قد يكون موضوعًا لدراسة
أخرى.
وأما مدونات الفرق والملل
والنحل عند أهل السنة فإننا نعني بها الكتب التي أرخت للمذاهب والفرق الإسلامية،
وعرضت أيضًا لمذهبها، ومعظمها كتابات لأعلام المذهب الأشعري، وآراء متناثرة لأهل
الحديث أو السلف في كتبهم، ثم كتاب ابن حزم عن "الفصل في الأهواء والملل
والنحل"، وأما أهل السنة فإننا نعني بهم أتباع السلف، والأشاعرة الماتريدية،
وأهل الظاهر، وذلك على الرغم مما بينهم من نزاع حول من يملك الحق في الحديث باسم
أهل السنة.
وحين تسعى الدراسة لتقديم
قراءة نقدية لبعض الجوانب في تراثنا الثقافي، فليس الهدف من ذلك مجرد إدانة لجزء
من تراثنا، ولكن الهدف هو ممارسة نوع من النقد الذاتي لذا التراث، وبيان مدى تحمله
لبعض المثالب في حياتنا الراهنة، مثلما يحمل هذا التراث نفسه جوانب إيجابية دافعة
للتقدم في حياتنا الراهنة، وذلك باعتبار أن لتراثنا الثقافي والحضاري دوره الرائد
في إمكانية حدوث أي نهضة في حياتنا الراهنة.
ويبدأ الفكر الإقصائي من
خلال توظيف المقدس من أجل إضفاء الحق والصدق على موقف جماعة بعينها في مواجهة بقية
الأحزاب والجماعات والفرق المغايرة لها، ومن هنا كان الصراع بين الفرق على توظيف
السنة النبوية، أو حتى الوضع فيها من أجل إضفاء طابع القداسة على موقفها.
أولاً: الإقصاء توظيف
السنة:
إن الاعتقاد بامتلاك
الحقيقة المطلقة في مسائل الفكر والاعتقاد هي البداية الفعلية لقضية إقصاء الآخر،
ويبرر أصحاب المعتقدات المغلقة أنهم أصحاب الحق والهداية بناء على توظيف المقدس في
تبرير موقفهم، ومن ثم سعت معظم أقطاب الفرق الإسلامية سواء أهل السنة، أو الشيعة،
أو الخوارج، أو المرجئة، أو المعتزلة إلى الاستشهاد بالسنة في تعضيد وتدعيم كون
الحق في معتقد فرقتهم دون غيرها، ويعتبر أهل السنة هم أهم فرقة وظفت السنة في
تبرير صدق موقفها، وتدعيمًا لعقيدتها في مواجهة أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى.
ولعل أهم الأحاديث التي
وظفت إيديولوجيًا في قضية الإقصاء بين المذاهب الإسلامية، هو حديث (الفرقة
الناحية)، وقد ورد هذا الحديث بأربع صيغ مختلفة:
1- عن أبي هريرة
قال رسول الله "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على
اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".
2- أن بني إسرائيل
افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في
النار إلا واحدة وهي الجماعة.
3- ليأتين على
أمني ما أتى على بني إسرائيل، تفرق بنو إسرائيل على اثنين وسبعين ملة، وستفترق
أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، تزيد عليها ملة واحدة، كلهم في النار إلا ملة واحدة
قالوا: "يا رسول الله وما الملة التي تتغلب؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي.
4- وفي الرواية
الرابعة: يضيف المجوس بالصيغة التي يتسلسل فيها انقسام الأمم بالشكل التالي:
المجوس على سبعين فرقة، واليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنين وسبعين
فرقة، بينما ستفترق أمة الإسلام على ثلاث وسبعين فرقة الناجية واحدة والباقون
هلكى: قيل وما الناجية: قال أهل السنة والجماعة، قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: ما
أنا علية اليوم وأصحابي.
والملاحظ أن معظم صيغ
الحديث تقر أمرًا مهمًا وهو حدوث الفرقة والاختلاف، ورأي البعض أن الصيغة الأولى
الصحيحة، وهي التي تتكلم فقط عن الفرقة والاختلاف دون تحديد للفرقة الناجية، ولكن
الحديث انتقل في الصيغ التالية ليقرر أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية،
وهو ما يعني أن كل الفرق الباقية هلكى، وهم أهل البدع ولضلال.
ولقد لعب هذا الحديث دورًا
بارزًا في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة، فكان لهذا الحديث دوره البارز
في ترسيخ الإقصاء للآخر لدى أهل السنة في مواجهتهم للفرق الإسلامية المخالفة لهم،
والعجيب أن الأشعري (ت 324 هـ) في كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) لم
يستشهد بهذا الحديث، وقام فقط بعرض آراء الفرق الإسلامية دون تكفير لها كما فعل
غيره، وقد نبرر السبب في ذلك بأن انتقال الأشعري من صفوف المعتزلة إلى الدفاع عن
عقيدة أهل السنة وفقًا للطريقة الأشعرية التي أرسى دعائمها، بأنه لم يكن سهلاً
عليه أن يكفر فرقة كان على مذهبها في الماضي القريب وهي المعتزلة، ولكنه بعد ذلك
كان يتكلم في بقية كتبه بأن موقفه من العقيدة هو امتداد لأهل الحديث.
واستند أبو المظفر
الإسفراييني (ت 471 هـ) إلى حديث الفرقة الناجية في كتابه (التبصير ي الدين وبيان
الفرقة الناجية عن فرق الهالكين) ويقول: "بأن الله حقق في افتراق هذه الأمة،
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة
منها ناجية، والباقون في النار، ويقر بأن الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة،
ويلاحظ أن الإسفراييني يستخدم في عنوان كتابه حديث الفرقة الناجية، ويرى أن ثمة
فرقة ناجية، وفرقًا أخرى هلكى.
ومما سبق نلاحظ أن حديث
"الفرقة الناجية" كان هو الأداة الطيعة لدى أعلام السلف والأشاعرة
لإقصاء المذاهب الإسلامية المغايرة، والحكم عليها بأنها هالكة في النار، ولكن مع
ذلك فإن ثمة قراءة أو رواية مغايرة لأحد أعلام الأشاعرة، وهو الإمام الغزالي (ت
505 هـ) حيث نجده يورد حديث "الفرقة الناجية" مقلوبًا فيقول: "إن
هؤلاء المزايدون بقوله عيه الصلاة والسلام ستفترق أمتي بضعًا وسبعين فرقة كلهم ي
الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة" هذا لفظ الحديث في بعض الروايات، وظاهر الحديث
يدل على أنه أراد به الزنادقة من أمته" وتلك الرواية تكشف عن التسامح، واتساع
رقعة الرحمة بين مختلف المذاهب الإسلامية، وموقف الغزال هذا لا نجد له نظيرًا بين
أعلام أهل السنة.
وإذا كان الغزالي يقدم
رواية مغايرة للحديث، فإن ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) رأس المذهب الظاهري يشكك في
هذا الحديث، أحاديث أخرى تقدح في القدرية والمرجئة فيقول بأن من "ذكروا
حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "القدرية والمرجئة مجوس هذه
الأمة"، وحديثًا آخر "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في النار
حاشا واحدة فهي في الجنة"، قال ابن حزم: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق
الإسناد".
ومن ثم فإن حديث
"الفرقة الناجية" قد أرسى تقليدًا إقصائيًا في مدونات الفرق والملل
والنحل لدى الأشاعرة خصوصًا، وفي كتب العقائد عند السلف أيضًا، وأسهم في إقصاء الحق
عن الفرق الأخرى، وبيان بطلان تفسيرها ومواقفها العقدية، وأن أهل السنة فقط هم أهل
الحق، وهذا ما دعا باحثًا معاصرًا إلى القول: بأن استناد الأشاعرة على هذا الحديث،
وما يحوم حول تاريخ تدوينه، وتنه، وسنده، ومضمونه، وفيه من الزيادات شيء كبير لابد
أن ينسحب على رغبة الأشاعرة في الاستئثار بالنجاة دون غيرهم، واعتقادهم أنهم
"أهل الحق" لا يشاركهم في ذلك غيرهم من الفرق المخالفة، فهل وجد أهل
السنة ضالتهم في ذلك الحديث المنسوب للنبي ليكون هو السيف المسلط على عقول
المسلمين أولاً، ورقابهم ثانيًا، إذا خالفوا تفسير أحد ممن وصف نفسه بأنه من أهل
السنة والجماعة بحجة أنهم هم الفرقة الناجية فقط.
وينبغي أن نشير إلى أن دخول
هذا الحديث إلى مدونات أهل السنة بروايتهم جعله ميدانًا للتفسيرات المتباينة بسبب
الصراع الأيديولوجي بين الفرق والمذاهب الإسلامية، فتعد المعتزلة نفسها هي الفرقة
الناجية، وأهل الحق، ويدعون خصومهم بأسماء مختلفة كالمجبرة، والقدرية، أو المجوة،
والمشبهة، والحشوية. ومن جانب آخر يؤكد ابن المرتضى (840 هـ) أن الزيدية هي الفرقة
الناجية، ومن دان باعتقادهم كالمعتزلة. وعلى النهج نفسه كان الإمام الزيدي أحمد بن
سليمان (ت 566 هـ) في كتابه المخطوط "الحكمة الدرية" أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة
واحدة، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم معتزلة الشيعة وشيعة المعتزلة، وأن
المراد بهم معتزلة بغداد، وفي موضع آخر يؤكد أن الفرقة الناجية هم شيعة المعتزلة،
ومعتزلة الشيعة، وأن المراد بهم الزيدية إذ ثبت أنهم على الحق ومن خالفهم على
الباطل"، ولكن دعوى بعض المعتزلة أو الشيعة بأنهما هما الفرقتان الناجيتان
كان متأخرًا عن التقليد الذي أرسى دعائمه أعلام السلف والأشاعرة بدعوى نجاة أهل السنة.
ولم يقف توظيف أصحاب مدونات
الفرق والملل والنحل لأهل السنة عند حدود توظيف حديث "الفرقة الناجية"
فقد وظفوا كل روايات الأحاديث التي تسهم في إقصاء الفرق الأخرى، فنجد الملطي
يستشهد بحديث يخرج المرجئة والقدرية من الإسلام فيقول: "إن ابن عباس قال: قال
رسول الله "صنفان في الإسلام ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية،
وأن معظم أعلام المرجئة القدرية مثل غيلان الدمشقي، وأبي شمر المرجئ ومحمد بن شبيب
المصري، وهؤلاء داخلون في قول النبي "إن المرجئة والقدرية لعنتا على لسان
سبعين نبيًا".
ويبالغ البغدادي في إقصاء
معظم الفرق الإسلامية بروايات وأحاديث عن الرسول، فيقول البغدادي روي عن النبي
"ذم القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة، وروي عنه ذم المارين وهو الخوارج، وروي
عن أعلام الصحابة ذم القدرية، والمرجئة، والخوارج المارقة"، والبغدادي حين
يعرض ذم الرسول للفرق المغايرة للسنة يؤكد دومًا على خروج الفرقة الناجية من هذه
الفرق.
ويمكن القول إن مدونات أهل
السنة في الفرق والملل والنحل قد وظفت الأحاديث سواء كانت صحيحة أو ضعيفة أو
موضوعة في إقصاء الفرق الإسلامية المغايرة لها سواء كانت شيعة أو مرجئة أو خوارج
أو قدرية أو معتزلة. ولكن من المؤكد أن أهل السنة لم يكونوا هم أول من وظف السنة
لصالح إثبات مواقفهم، بل إن الشيعة هم أول من فعلوا ذلك حينما ذهبوا إلى أن تعيين
الإمامة "بالنص" وحشدوا كل الأحاديث والروايات التي يمكن أن تنص على
أحقية علي بن أبي طالب بخلافة المسلمين، وأن أحق الناس بخلافة المسلمين هم آل
البيت، وحينما كان الشيعة يفعلون ذلك وجدنا مدونات الملل والنحل تلعنهم في ذلك.
فنجد الملطي ينتقد موقف هشام بن الحكم من إمامه علي فيقول: "زعم هشام – لعنه
الله- أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي في حياته بقوله: "من
كنت مولاه فعلي مولاه"، وبقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي" وبقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وبقوله "تقاتل
علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله".
ومن السابق نلاحظ كيف تم
توظيف السنة كأداة لإقصاء الفرق المغايرة لأهل السنة، وتم حشد الأحاديث التي تضفي
طابع القداسة على إقصاء الآخر، ورواية الأحاديث التي تسهم في إقصاء الآخر
واستبعاده، فالاحتكام إلى الحديث هنا يشكل سعيًا من الفرقة التي توظفه لإضفاء طابع
من القداسة على محاولتها نفي الفرق المغايرة، وإقصائها من الوجود، ومحاصرة انتشار
مذاهبها بين الناس.
ولم يكن توظف السنة هو
الأداة الوحيدة لإقصاء الآخر في مدونات الفرق والمملل والنحل لأهل السنة بل كانت
هناك أدوات أخرى فاعلة، وهي توظيف آليات للتشهير والتسفيه لآراء ورموز وأعلام تلك
الفرق، وكذلك رفع سيف التكفير في وجه تلك الفرق كفكر مغاير لأهل السنة، فما عساها
أن تكون أبعاد تلك الأدوات في مدونات الملل والنحل لأهل السنة؟.
ثانيًا: الإقصاء بين
تشهير وتسفيه الآخر وتمجيد الذات:
اعتمدت مدونات الملل والنحل
على آليات للتشهير والتسفيه برموز وشخصيات وأفكار الفرق والمذاهب الإسلامية
المغايرة لهم، وتم عرض آراء هذه الفرق إنما هو فضائح وتشنيعات، ولست آراء في
العقيدة مغايرة لآراء أهل السنة. فيرى البغدادي أن القدرية أو المعتزلة عشرون
فرقة، وحين يعرض آراء كل فرقة مجده يقول "سنذكر فضائح كل فرقة ما يكشف عن
كفرها إن شاء الله"، ويكرر البغدادي، نفس العبارة حيث يتحدث عن فرق الخوارج،
والشيعة والمعتزلة والمرجئة.
ويقدح ابن حزم في آراء
الفرق المغايرة لأهل السنة، وهي الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة، ويعتبر
آراءهم مخالفة لدين الإسلام، وذلك لأن دين الإسلام تفسيره الصحيح فقط قاصر على
تفسير أهل السنة ويقول "قد كتبنا في ديواننًا هذا من فضائح الملل المخالفة
لدين الإسلام الذين في كتبهم من اليهود والمجوس ما لا بقية لهم بعدها، ولا يمتري
أحد وقف عليها، أنهم في ضلال وباطل، ونكتب إن شاء الله على هذه الفرق الأربع من
فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد أنهم في ضلال وباطل، ليكون ذلك زاجرًا لمن أراد
الله توفيقه عن مضامينهم، والتمادي فيهم"، وبالتالي يبدو هدف ابن حزم واضحًا
في التشهير بهذه الفرق، وفضح آرائهم لمنع الناس من الانضمام إليهم، أو ترغيبهم في
الخروج عن عقائد تلك الفرق، ومحاصرة تلك المذاهب المغايرة للسنة.
وقد انتشر في كتب الملل
والنحل السب والشتم للفرق الأخرى في أمور أخلاقية فنجد الملطي يقول "اعلموا
رحمكم الله أن في الرافضة اللواط، والحمق، والزنا، وشرب الخمر، وقذف المؤمنين
والمؤمنات، والزور، والبهت وكل قاذورة ليس لهم شريعة ولا دين. وكأن تلك الممارسات
السالفة ليست في أي مجتمع بشري، وكأن تلك النماذج من الممارسات ليست موجودة لدى
أصحاب المذاهب الإسلامية غير الشيعة، وهي فقط قاصرة على ممارسات الشيعة، ومثل هذه
الكلمات والألفاظ تقال من أجل تشويه وإقصاء المذاهب المخالفة لهم.
ويُشهر الملطي بالطائفة
الإسماعيلية من الشيعة في تشبيههم بممارسات اليهود في الملبس وأنهم "يتحنون
بالحناء، ويلبسون خواتيمهم في أيمانهم، ويشمرون قمصانهم وأدريتهم كما تصنع
اليهود"، ويقدح كذلك ي أحد اعلام الشيعة الإمامية وهو هشام بن الحكم، ويتهمه
بالإلحاد، وأنهم يسعون إلى هدم التوحيد فيقول: "وأصحاب هشام بن الحكم يعرفون
بالهشامية، وهم الرافضة روى فيهم عن رسول الله "أنهم يرفضون الدين وهم
مشتهرون بحب علي فيما يزعمون، وكذب أعداء الله، وأعداء الرسول، وهم أيضًا ملحدون لأن
هشامًا كان ملحدًا ودهريًا، ثم انتقل إلى الثنوية المانية، ثم غلب الإسلام فدخل
كارهًا، وانتحل في التوحيد التشبيه فهدم ركن التوحيد"، تلك هي الصورة
المتداولة لفضح الشيعة وأعلامها، ورميها بالشتم والسب في مدونات الملل والنحل لأهل
السنة، وخلاصتها أنهم "ذوو اديان فاسدة، وعقول مدخولة عديمة الحياة، ونعوذ
بالله من الضلال.
ويتم التشنيع وفضح الخوارج
من نفس المنطلق بأن "الرسول صلى الله عليه وسلم سماكم مارقة، وأخبر عنهم وذكر
انهم كلاب أهل النار، وذلك من منطلق صورة سائدة لدى أهل السنة بأن الخوارج يستحلون
الأموال والفروج، وأنهم يفسدون في العباد والبلاد، ويقول عن الصليدية إنهم أشد
الخوارج وأقذرهم، وأكثرهم فسادًا.
ومهما كان الخوارج مجتهدين
في الطاعة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وصفوا في دائرة أهل السنة
والسلف بأنهم أنجاس أرجاس، ولا يمكن ان يتطهورها أبدًا ففي إحدى روايات كتاب
"الشريعة" للآجري (360 هـ) يقول: لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن
الخوارج قوم سوء عصاة لله- تعالى – ولرسوله صلى الله عليه وسلم إن صلوا وصاموا
واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ليس بذلك بنافع لهم، لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على
المسلمين، والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس".
ونال المعتزلة أكبر قسط من
التشوية والفضح والتسفيه في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة، وباتت آراء
المعتزلة عند علماء الأشاعرة بمثابة فضائح يستوجب كشفها والرد عليها، ويبدو أن بعض
اعلام الأشاعرة مثل البغدادي الإسفراييني وغيره قد استعانوا بكتاب ابن الراوندي
"فضائح المعتزلة" لتشويه آراء المعتزلة والنيل منهم، فنجد الإسفراييني
والشهرستاني يطلقان على المعتزلة مخانيث الخوار "وسميت المعتزلة بمخانيث
الخوارج"، لأن الخوارج لما حكموا من تأييد عقاب الفاسق سموه كافرًا، وزعمت
المعتزلة أنه موحد مطيع، وفيه إيمان وطاعات كثيرة، وهو مع ذلك مخلد في النار، غنما
لم نسمه مؤمنًا لأن هذا من أسماء المدح، ولا يوصف الفاسق باسم المدح.
وعمدت كتب الملل والنحل
لأهل السنة غلى تشويه رموز المعتزلة والقدح في شخصياتهم واعلامهم، وذلك رغبة في
محاصرة المذهب، وإقصاء الناس عن اتباعه، فنجد البغدادي يعيب على واصل بن عطاء (ت
131) أنه كان ألثغ، وكأن هذا العيب كان بيده فيقول وأما لثغته في الراء فمن
مثالبه، لأنها تمنع من كونه مؤذنًا وإمامًا للقارئين لعجزه عن القول: أشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يقول: الله أكبر، وكان لا يصح منه قراءة
آية فيها الراء، وكفى المعتزلة خزيًا من لا يصلح صلاتهم خلفه".
واستمرارًا لمسلسل تشويه
أعلام المعتزلة والقدح فيهم تورد كتب الملل والنحل أنماط جديدة من القدح ضد ثمامة
بن الأشرس النميري (ت 213 هـ) فيقول البغدادي عن الثمامية هؤلاء أتباع ثمامة بن
الأشرس النميري، وحكى عنه ابن قتيبة في كتابه "مختلف الحديث"، أنه رأى
قومًا يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد الجامع، فقال بعض أتباعه انظر إلى الحمير
والبقر ثم قال: ماذا صنع ذلك العربي بالناس- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-
وذكر الجاحظ أن المأمون رأى يومًا في الطريق سكرانًا، فقال: يا ثمامة، قال أي
الله، قال: الا تستحي قال: لا والله، قال عليك اللعنة. ويؤكد الشهرستاني على أن
"ثمامة بن أشرس كان جامعًا بين سخافة الدين وخلاعة النفس"، وعلى الرغم
من أن هناك روايات تاريخية تؤكد على أن ثمامة قد رفض منصب قاضي القضاة أكثر من مرة
حين عرضه عليه المأمون.
وقد تم تشويه الجاحظ (ت 256
هـ) في مدونات الملل والنحل، تلك الشخصية التي تعتبر من أعلام الثقافة العربية
الإسلامية،لما تركه من تراث عظيم في مجالات مختلفة، فيقول افسفرييني، الجاحظية هم
أتباع عمرو بن بحر الجاحظ فقد اغتروا به بحسم بيانه في تصانيفه، ولو عرفوا ضلالته،
وما احدثه في الدين من بدعة، وجهالاته لكانوا يستغفرون عن مدحه، ويستنكفون عن
الانتشار إلى مثله، ويتم التشنيع على آرائه الفكرية، ويتهمه الإسفرييني بأنه كان
لصًا سرق مؤلفات الآخرين، ولم يورد فيه شيئًا من كيسه، ولا من ذات نفسه إلا بيانًا
ضمها إليه قالها العرب في معانيها، زين بها حشو كتابه.. وكان الجاحظ مع البدع
الفاحشة كريه المنظر حتى قال فيه الشاعر: لو لم يمسخ الخنزير مسخًا ثانيًا ما كان
غلا دون قبح الجاحظ.
ويشنع البغدادي على مجمل
إنتاج الجاحظ العلمي فيقول: إن من فضائح مجونة ي كتبه التي أغوي بها الفسقة مثل
كتابه في "حيل اللصوص" وكتابه في "غس الصناعات"، وكتابه في
افخار والموازين، وزين بكتاب (البخلاء) البخل في أعين البخلاء، وصنف كتابًا في
النواميس التي يجتلب بها المحتالون الودائع، وسجن كتابه المعروف
"بالفتيا": الطعن على أعلام الصحابة في فتاويهم، ويستمر البغدادي في شتم
الجاحظ بأنه في أصله لئيم، وفي دينه ذميم، ويقدح في كل ما كتب، نحن نسأل: أين هذا
من قيمة الجاحظ كعلم فذ من أعلام الحضارة الإسلامية في علوم الدين، وعلوم اللغة
والبيان؟ كيف يتم تشويه هكذا لمجرد أنه ينتمي للمعتزلة؟ أليس ذلك أحد أشكال
الإقصاء المتطرفة؟
ومما سبق نلاحظ أن إقصاء
الآخر في مدونات الملل والنحل لأهل السنة قد اتبع آليات التشهير والتسفيه، بل
والسب والشتم من أجل تحقير الفرق المغايرة لهم، والقدح في أعلام وعلماء تلك الفرق،
وكل ذلك الهدف منه إبعاد المسلمين عن الاحتكاك بآراء تلك الفرق أو اعتناق أفكارها،
ومن ثم فإن معرفة آراء الفرق الأخرى في علم الكلام لا يتم إلا عبر مصنفات الحنابلة
والأشاعرة، وذلك لأن معظم إنتاج الفرق الأخرى كالخوارج والمعتزلة والمرجئة قد
أحرقت عبر فترات التاريخ الإسلامي، وهذا يمثل عائقًا منهجيًا حال دون التعرف على
حقيقة الاتجاهات الفكرية للمعتزلة أو القدرية أو الجهيمة إلا كمواقف مشبوهة
مبتدعة، غير أصيلة، سهلة الهدم والنقض، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التاريخ
الإسلامي بسبب الاقتصار على المصادر الحنبلية (السلفية) والأشعرية صار مطبوعًا
بروح الإقصاء لكل من اعتبر مخالفًا لما سمي بعقيدة السلف، أو بمذهب أهل السنة
والجماعة.
وإذا كانت مدونات الفرق
والملل والنحل لأهل السنة قد أقصت الفرق المغايرة لها من خلال التشوية والتسفيه
للخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة فما الغاية من ذلك؟ إن الغاية تبدو واضحة في
بيان التشويه الواضح لتلك الفرق من أجل تمجيد أهل السنة، فنجد الإسفارييني بعد عرض
عقيدة أهل السنة والجماعة يقول: "إن كل من تدين بهذا الدين الذي وصفناه من
اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق والصراط المستقيم، فمن بدعة فهو المبتدع، ومن
ضلله فهو ضال، ومن كفره فهو كافر، لأن من اعتقاد أن الإيمان كفر، وأن الهداية
ضلالة، وأن السنة بدعة كان اعتقاده كفرًا، وضلالة وبدعة، وذلك من منطلق أن أهل
السنة هم أهل الحق والاعتقاد الصحيح، وبقية الفرق هم الهالكون، وأهل الغواية وأن
الله تعالى عصم أهل السنة من جميع ما ينسب إليهم أهل الغواية والضلالة.
وينظر أهل السنة في
مدوناتهم إلى أن الفرق الأخرى كلها تكفر بعضها البعض وذلك موجود في فرق الخوارج
والروافض والقدرية، لكن أهل السنة فيما يقدمهم أعلامهم بخلاف ذلك، فغن أهل السنة
مجتمعون فيما بينهم لا يكفر بعضها بعضًا، وليس بينهم خلاف يوجبه التبرء، فهم إذن
أهل السنة والجماعة قائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، ولكن الذي حدث
تاريخيًا أن أهل السنة قد كفروا بعضهم البعض يما بينهم مثل تكفير الحنابلة
للأشاعرة، وتكفير ابن حزم للأشاعرة، وهذا أمر مثبت تاريخيًا.
وتروي مدونات الملل والنحل
لأهل السنة أن فتح البلاد والثغور لم يكن لأية فرقة من فرق الضلالة فضل فيها
"ليس لهم ثغر ينسب إليهم بالفتح، وقد حرموا الجهاد مع أمراء أهل السنة
لتكفيرهم إياهم، وإنما الجهاد في الثغور من أهل السنة، وما خرج قط من أهل الأهواء
جيش إلا على المسلمين في دار الإسلام، كخروج الخوارج على علي عليه السلام، وخروج
الشيعة بنواحي الأهواز وفارس وكرمان، وخروج النجدات باليمامة، وخروج الغجاردة
بنوحي سجستان.
وإذا كان معظم مدونات الملل
والنحل لأهل السنة ترفع من شان أعلام السنة وتحط من قيمة الفرق الأخرى فإن
الإسفرييني يكتب باستفاضة عن أعلام المذهب الأشعري الذي ينتمي إليه، فنجده يرفع من
شأن أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) ويعدد محاسنه وكتبه، ويعد ذلك من قيمة أبي إسحاق
الإسفرييني، ويبرز عناوين كتبه، وكذلك أعمال أبي بكر بن فورك، وعبدالقاهر
البغدادي، والذي يقول عنه: "لو لم يكن أهل السنة والجماعة من مصنف لهم في
جميع العلوم على الخصوص والعموم إلا من كان فرد زمانه، وواحد أقرانه في معارفه
وعلومه، وكثرة الغرر من تصانيفه، وهو الإمام عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي
التميمي، وما من علم إلا وله في تصانيف، ولو لم يكن له من التصانيف إلا كتاب
(الملل والنحل) في أصول الدين، وهو كتاب لا يكاد يسع في خاطر بشر أنه يتمكن من
مثله مع ما فيه من فنون علمه وتصانيفه في الكلام الفقه".
ثالثًا: الإقصاء تكفير
الفرق المغايرة
واعتمدت كتب الملل والنحل
لأهل السنة على تكفير الفرق المغايرة لها كأهم وسيلة من وسائل إقصاء هذه الفرق.
والتكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والخلود في النار"،
فما هي أبعاد قضية تكفير الفرق المغايرة لأهل السنة في كتب الملل والنحل؟.
وبداية يمكن القول بأن
الأشعري في عرضة لآراء الفرق الإسلامية المغايرة له حاول في كتابه (مقالات
الإسلاميين) أن يتوخى الموضوعية فيقول: رأيت الناس في حكاية ما يحكون في ذكر
المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، ما بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره
من قول مخالفيه، وبين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه، وما
بين تارك ليتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، وبين من يضيف من قول
مخالفيه، يظن أن الحجة تلزمهم به، وليس هذا سبيل الربانيين.
ولم يستشهد الأشعري في
كتابه السالف بحديث "الرقة الناجية"، ولم يكفر أحدًا من أهل القبلة،
وكان يقول "اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلل
بعضهم بعضَا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين، وأحزابًا متشتتين إلا أن
الإسلام يجملهم ويشتمل عليهم، وتلك رؤية تتسم بقدر من التسامح ويورد ابن عساكر
رواية تؤكد على عدم تكفير الأشعري لأحد من اهل مكة فيقول: "سمعت أبًا على
زاخر بن أحمد السرخسي يقول لما قرب حضور أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني
فأتيته فقال: أشهد على أني لا أكفر أحدًا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى
معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات".
ولكن رغم هذا القدر من
التسامح في كتاب (المقالات) للأشعري فإنه في كتابيه (الإبانة) و(اللمع)، كان أقرب
للمنهجية الإقصائية، فنجده في (الإبانة) يقول إنه سيبين آراء (أهل الحق والسنة)
مقدمًا الحق على السنة، وبأن الحق مع أهل السنة دون غيرهم، ويقر الأشعري نفس
المنطق الإقصائي لمدونات أهل السنة في الملل والنحل فيقول: "أما بعد فإن
كثيرًا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم الأهواء إلى تقليد
رؤسائهم، ومن مضي من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل به الله
سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا تقلده عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف
المتقدمين، ويستمر الأشعري في إقصاء الفرق المغايرة لأهل السنة فيرى أن "جميع
أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية، وأهل الزيغ فيما ابتدعوا خالفوا الكتاب
والسنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين،
وأجمعت الأمة عليه كفعل المعتزلة والقدرية، ورغم المنطق الإقصائي عند الأشعري فإنه
لم يشهر سلاح التكفير ضد أي فرقة أخرى.
إن المنطق الإقصائي الذي
يبرزه الأشعري جاء من منطلق أنه جاء للدفاع عن أهل السنة والجماعة، وقد أبرز ابن
عساكر (ت 571 هـ) ذلك في كتابه (تبين كذب المفترى عليه من أن الرسول جاء للأشعري
في المنام ونصحه بضرورة لزوم السنة، والدفاع عن مذهب أهل الحديث، ونجد الإمام الذي
رافق المعتزلة أربعين عامًا من عمره، قد احتجب عن الناس فترة ثم خرج إلى الجامع،
وصعد المنبر في جامع البصرة، وقال اشهدوا على أني كنت على غير دين الإسلام، وأني
قد أسلمت الساعة، وأني تائب مما كنت فيه من القول بالاعتزال. ومعنى كلام الأشعري
هذا أن المعتزلة خارج ملة الإسلام، وأنه حين عاد إلى أهل السنة فقد عاد إلى
الإسلام، وهناك روايات أخرى عديدة تذهب إلى أن الأشعري خلع ثوبه، وقال: لقد انخلعت
مما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا، وألف كتابًا أسماه كشف الأسرار وهتك
الأستار" للرد على المعتزلة، وهناك روايات كثيرة في كتاب ابن عساكر فيها
الكثير من التزيد والمبالغة، حاول فيها متأخرو الأشاعرة، أن يخلعوا الأشعري من ثوب
الاعتزال لينصبوه إمامًا لأهل السنة والجماعة، وأصبح أتباع الأشعري ينظرون إليه
على أنه امتداد لأهل الحديث والمدافع عنهم ضد أهل الزيغ والبدع، فنجد عبدالكريم
القشيري يقول: "الإمام أبو الحسن الأشعري كان إمامًا من أئمة الحديث، ومذهبه
مذهب أهل الحديث، تكلم في أصول الديانة على طريقة أهل السنة والجماعة، ورد
المخالفين من أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة الروافض والمبتدعين من أهل
القبلة والخارجين من الملة سيفًا مسلولاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل رضي
الحنابلة عن الأشعري وأتباعه، أم كان هناك صراع بين الحنابلة والأشاعرة، وكانوا
يتهمون بعضهم البعض في عقائدهم؟
وعلى الرغم من محاولة
الأشعري- في تصنيفه للفرق والمقالات- تخفيف حدة العداء مع الفرق المغايرة لأهل
السنة، غلا أن من جاء بعد الأشعري جعل من كتب الفرق أو الملل والنحل الوعاء الذي
يحمل في طياته محاكمات صارمة للعقائد المغايرة لأهل السنة، باعتبار أن عقيدة أهل
السنة والجماعة هي وحدها العقيدة الصحيحة والحقة، وأن ما عدها من فرق كافرة وهالكه
وفي النار، وكان أتباع الأشعري أكثر تشددًا منه، وكان التكفير سمة مميزة في
كتاباتهم، فنجد أبا إسحاق الشيرازي بعد عرض عقيدة أهل السنة والجماعة في كتابه
(الإشارة إلى مذهب أهل الحق) يقول "من اعتقد غير ما أشرنا إليه من أهل الحق،
المنتمين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه فهو كافر، ومن نسب إليهم غير
ذلك فقد كفرهم، فيكون كافرًا بتكفيره لهم".
والواقع أن معظم مدونات
الفرق والملل والنحل لأهل السنة قد قامت بتقسيم الفرق إلى فرقة ناجية هم أهل السنة
والجماعة، والفرق الهالكة وهي أربع فرق كبرى وهم الخوارج والشيعة والمرجئة
والمعتزلة، وتحت هذه الفرق الكبرى هناك تعدد وتشعيب، حتى ينطبق عليها حديث الفرقة
الناجية وهي بضع وسبعون فرقة، وحملت كتب الفرق بداخلها أحكامًا كثيرة بالتكفير تخص
تلك الفرق المغايرة لأهل السنة، ويمكن بيان كيف كان التكفير هو أحد آليات الإقصاء
الكبرى لأهل السنة في مواقفهم من الفرق المغايرة لهم.
إن معظم كتب الملل والنحل
لأهل السنة تكفر الشيعة على اختلاف فرقها ومذاهبها، فيذهب الملطي إلى أن الرافضة
عشرون فرقة منها الإمامية، وهم أهل ضلالة، وحين يعرض للسبئية منهم يذهب إلى أن لهم
اعتقادات سخيفة ويقول: وهؤلاء الفرق يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البداوات،
وكلامًا لا أستجيز شرحة في كتاب، ولا أقدم على النطق به، وهؤلاء كلهم أحزاب كفر،
وفرق جهل، ويتهم الملطي الشيعة الإمامية بالكفر والخروج من الإسلام فيقول:
"اعلم أن هؤلاء الفرق من الإمامية الذين ذكرناهم كفار غالية، قد خرجوا من
التوحيد والإسلام".
ويكفر عبدالقاهر البغدادي
فرقة الكيسانية من الشيعة ويرى "أن تكفير هؤلاء واجب في إجازتهم على الله
البداء، (..) وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبه منه في مذاهب
الروافض، ولأن فيهم من قال بالبداء، وجواز التغيير على الله تعالى كالمجوس، ومنهم
من أبطل الفرائض، واستباح المحرمات كالخرمدينية والمرذكية من المجوس، وفيهم من شبه
معبوده بصورة الإله كالمشبهة من اليهود.
ويضع ابن حزم الشيعة من بعض
غلاة الصوفية، ونجده بعد أن يعدد قول بعض فرق الشيعة وطوائفها في تالية بعض
الشخصيات التاريخية، ويقول "اعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن
ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والتصوف". ويرى أن قطاعًا من أعلام الشيعة
أيضًا كفرة فيقول "جمهور متكلميهم كهشام بن الحكم الكوفي، وتلميذه أبي علي
الضحاك، وغيرهما يقول بأن علم الله تعالى محدث، وإنه لم يكن يعلم شيئًا حتى أحداث
لنفسه علمًا، وهذا كفر صريح".
ويرى ابن حزم بعض غلاة فرق الشيعة الذين يقولون بألوهية علي بن أبي طالب هم كفرة، وجميع فرق الإسلام متبرئة منهم، ويرى أن السبب في خروج هذه الفرق عن ملة الإسلام، "أن الفرس كانوا من سعة الملك، وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم حتى إنهم كنوا يسمون الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدًا لهم فلما امتحنوا بزوال دولتهم على يد العرب، وكان العرب أقل الأمم عند المجوس خطرًا فتعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم العصبية، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى فأظهر منهم قوم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله واستشناع ظلم علي، ثم سلكوا بهم مسالك حتى أخرجوهم عن الإسلام.
واتبعت كتب الملل والنحل
كلام أهل السلف في تكفير الخوارج أيضًا فنجد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)
يخرجهم من الملة ويقول " "أما الخوارج فلا يرون للسلطة عليهم طاعة، ولا
لقريش عليهم خلافة، وأشياء كثيرة يخالفون عليها الإسلام وأهله، وكيف بقوم ضلالة أن
يكون هذا رأيهم ومذهبهم ودينهم، وليسوا من الإسلام في شيء ومن أسماء الخوارج،
الحرورية وهم أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدية وهم أصحاب نجدة بن عامر الحروري،
والإباضية وهم أصحاب عبدالله بن إباض، والصفرية وهم أصحاب داود بن النعمان كل
هؤلاء خوارج فساق مخالفون للسنة خارجون من الملة، وهنا نلاحظ أن الإمام أحمد بن
حنبل يدين الخوارج في موقفهم السياسي لأنهم يخرجون على السلطان، ولا يعترفون بشرط
القرشية كشرط للإمامة، ثم يقول بعد ذلك أنهم خارج ملة الإسلام.
وكفر أهل السنة أيضًا
المرجئة بجميع طوائفها فنجد البغدادي يرى أن المرجئة ثلاثة أصناف "صنف منهم
قد جمعوا بين الإرجاء في الإيمان، وبين القدر على مذاهب المعتزلة كغيلان الدمسشقي
وأبي شمر وأتباعهما، فهؤلاء مرجئة قدرية جامعة بين كفري الإرجاء والقدر، وصنف منهم
قالوا بالإرجاء على مذهب جهم فهم يعدون في الجهمية، والصنف الثالث منهم مرجئة
خالصة عن القدر والجبر، وإنما ضلت هذه الطائفة بالإرجاء دون غيره، ويخص البغدادي
أتباع جهم بالتكفير هو وأصحابه فيقول "كفره أصحابنا في نفيه الصفات الأزلية
وقوله بفناء الجنة والنار.
ويؤكد الإسفراييني على
تكفير الجهيمة والمرجئة ويرى "أن أهل السنة يكفرونهم لقولهم بأن علم الله
حادث، وأنه لا يعلم ما يكون حتى يكون، وأن كلامه حادث، وإلى تكفير المرجئة
والجهمية ذهب ابن حزم الظاهري أيضًا.
وخلاصة القول هو: أن
التكفير كان أحد أدوات مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة في إقصاء المذاهب
المغايرة لهم وقد ظفوا بذلك العديد من الفتاوى الفقهية، وما التكفير إلا دعوة
لإراقة دم هؤلاء الفرق، والحث على قتل أعلام تلك الفرق، وهو ما حدث فعلاً في
التاريخ الإسلامي، فكانت الفتاوى الفقهية بالتكفير هي المبرر النظري غالبًا لتبرير
إراقة دم تلك الفرق ومن يتبعها.
ولكن السؤال الذي يطرح
نفسه: كيف ومتى يتحول الإقصاء من اللوم والتوبيخ والتشهير والتسفيه والتكفير إلى
العنف وإراقة الدماء؟ وهذا السؤال يطرح وبقوة أهمية السياق السياسي في قراءة علم
الكلام، وما هو السياسة الواضح في ترسيم حدود الصراع بين الفرق والمذاهب
الإسلامية؟ وما دور السياسة في إحداث العنف العقائدي بين الفرق والمذاهب
الإسلامية، وكيف وظفت السياسة العقيدة من أجل أغراضها الدنيوية؟ إن تلك التساؤلات
تطرح عملية تسيس الدين في تاريخنا الإسلامي.
رابعًا: من الإقصاء إلى
العنف وتسييس الدين
تظل مسألة التقادح بين
الفرق الإسلامية في حدود اللوم، والتوبيخ، والتشنيع والفضح والتحقير المتبادل بل
قد وصل الأمر إلى حدود التكفير المتبادل بينهم، وكلها أشكال من العنف المعنوي،
وهذا العنف لا يخرج من الإطار النظري إلى العنف المادي المتعين، إلا بدخول طرف
ثالث وهو السياسة، والصراع على السلطة السياسية كطرف فاعل، فالسياسة توظف فرقًا ضد
أخرى، أو توظف مذهبًا ضد آخر، هنا ينتقل العنف النظري إلى العنف العملي، ومن العنف
المعنوي إلى العنف المادي بسبب الممارسة السياسية، أو تسييس الدين من قبل
السياسية.
وتؤكد مصنفات الملل والنحل
لأهل السنة أن مشكلة الإمامة أو مشكلة الحكم، ومن يملك السلطة في أول مشكلة اختلف
حولها المسلمون فرقًا ومذاهب وأحزابًا فيقول الأشعري: أول ما حدث من الاختلاف بين
المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم اختلافهم في الإمامة، ولم يكن هذا الاختلاف
مجرد مواقف نظرية، بل مواقف سياسية، وعنف ودماء، وهو ما جعل الشهرستاني يقول: ما
سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان.
ولقد انقسمت الأمة
الإسلامية على نفسها بسبب الفتنة الكبرى بين عامي (35-41 هـ) وظهرت الفرق السياسية
المتمثلة في الشيعة، والخوارج، والسنة وبالتالي "فإن معظم الفرق الإسلامية
يرجع أصلها إلى أسباب سياسية، والتنازع على الحكم، وعلى هذا الأساس كان الموقف
السياسي للفرق الإسلامية هو الأساس، وأما الموقف الكلامي فقد كان موقفًا عرضيًا
له، وبالتالي فإن الاختلاف في العقائد النظرية نشأ ي علم الكلام بكيفية عرضية
نتيجة الاختلاف في الأمور السياسية ومشاكلها العملية، فهو بالفعل موقف كلامي ولكنه
كلام في السياسة وفي الكبائر السياسية.
ولا يعني ما سبق سوى أن السياسة كانت أصلاً والدين عطاءً، ولقد عمق هذا الخلاف بين الفرق والمذاهب التي نشأت في البداية نشأة سياسية ثم اصطبغت بصبغة دينية قوية، لما للدين من أثر ومكانة في النفوس، ونتيجة لاعتقادهم أن رأيهم وطموحهم السياسي لن ينجح إلا عن طريق واحد فقط وهو تغليفه دينيًا، وبدل أن تسمى الفرق اسمها اسمًا سياسيًا صار الذين يقتتلون سياسيًا يقتتلون دينيًا، وبدل أن تسمى الفرق اسمًا سياسيًا يدل على المبدأ السياسي الذي تدعو إليه تسمت اسمًا يدل على المذهب الديني كشيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة وبدل أن يتحاجوا بنتيجة أعمالهم السياسية، ويطرحوا أفكارهم ومصالحهم بشكل مباشر تحاجوا بالكفر والإيمان، والجنة والنار، وخلق القرآن، ومشكلة الإمامة.
أدى الاختلاف بين الفرق
الإسلامية إلى التعصب والتحزب، وانتشار العداوة والبغضاء ونشوب الحروب، ووقوع
القتال، وفنيت بعض الفرق وبقيت أخرى، وعلى الرغم من أن الصراع كان في بدايته
صراعًا سياسيًا إلا أن "الاختلاف كان يتس ويتعمق ليشمل معظم الشئون الدينية
الكبيرة منها والصغيرة، وليطال مختلف جوانب الحياة وعندئذ تكون لكل فريق هويته
الجزئية التي يتعرف بها، وصار له وعيه الخاص، وذاكرته وتجلى الاختلاف في الشعارات
والطقوس، وفي الأمكنة والرموز، وفي المراجع والأسماء، وفي الأعلام والأشخاص، وهكذا
استحال الاختلاف السياسي اختلافًا عقائديًا، وانتهى تمايزًا دينيًا وثقافيًا، إذ
شكلت كل فرقة جماعة أو طائفة بكل ما للكلمة من معنى، وانغلق كل واحد على نفسه
بانغلاق المذاهب وجمود الفكر.. حتى تباعدت الشقة بين القوم واستبعدوا بعضهم بعضًا
واتهموا بعضهم بعضًا.
ولكن البداية على العموم
كانت اختلافًا بين من يرون الأئمة من قريش وأنها بالاختيار، وأنه لا يجوز الخروج على الحاكم سواء كان عادلاً أم
جائرًا وهم أهل السنة، وبين الخوارج الذين يرون الخلافة بالاختيار ولا تقتصر على
شرط القرشية، ومن الممكن أن يتولاها ولو عبدًا حبشيًا، ويقرون بأنه يجوز الخروج
على الحاكم لو كان جائرًا، وبين الشيعة الذين يرون أن الإمامة بالنص والتعيين
وينبغي أن تكون في آل البيت، ومن هذا المنطلق فمنذ الفتنة الكبرى ظهر الخلاف بين
الفرق، والذي بدأ سياسيًا على من هو الأحق بتولي أمر المسلمين، ثم سل السيف بينهم،
وأهرقت الدماء الكثيرة بسبب الاختلاف حول هذه القضية منذ موقعة صفين (37 هـ) بين
علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
ولعل أهم المبادئ الثورية-
من الناحية السياسية – هو موقف الخوارج من الإمامة لأنهم جوزوا أن تكون الإمامة في
غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم، وبايعه الناس على العدل واجتناب الجور كان إمامًا،
ومن خرج عليه يجب نصب القتال ضده، وإن غير السيرة، وعدل عن الحق، وجب عزله أو
قتله، وجوزوا ألا يكون في العالم إمام أصلا، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدًا
حرًا، أو نبطيًا، أو قرشيًا، ولاشك أن هذا الرأي الثوري في الإمامة يتعارض مع دعوة
أهل السنة أن يكون الإمام حرًا، وأن يكون من قريش، فهل موقف الخوارج هذا يعود إلى
"أن الخوارج لم يكونوا من قريش، ولا من ثقيف ولا من الأنصار، ولكن من قبائل
أهل أهمية من حيث المكانة السياسية، اندمجت في الإسلام خصوصًا بعد حرب الردة،
وأقامت في الكوفة والبصرة.
ومما سبق نلاحظ أن أزمة
الأشاعرة التي حدثت في منتصف القرن الخامس الهجري كانت بسبب تصارع أتباع الفرق على
توظيف السلطة السياسية في نشر مذهبها دون غيرها، أو توظيفها كذلك في محاصرة
المذاهب الأخرى، وقد تسببت تلك الأزمة في هروب أعلام المذهب الأشعري في تلك الفترة
إلى مكة، مما يكشف أن الصراع بين الفرق والمذاهب الإسلامية كان يتحول من مجرد
التشويه والإقصاء المتبادل بين الفرق في المدونات والكتب العقائدية، ومصنفات الملل
والنحل إلى العنف والتصفية المتبادلة بينهم، وذلك من خلال التصفية المتبادلة
لبعضهم البعض، وفي ذلك تروى كتب التاريخ الإسلامي الكثير من احداث التعصب المذهبي
بين الفرق والمذاهب الإسلامية تم فيها استخدام العنف والقتل من قبل كل طرف على
حساب الآخر، وخاصة التعصب بين أهل السنة والشيعة.
خاتمة:
1- إن واقع
الإقصاء السائد في حياتنا الراهنة في إقصاء الحركات الدينية بعضها للبعض الآخر،
وإقصاء المذاهب الدينية لبعضها البعض الآخر لا يمكن أن ندركه بعيدًا عن العقلية
الإقصائية التي تشكلت عبر تاريخنا الثقافي بعامة، وفي مجال علم العقائد بصفة خاصة،
وفي كتابات الفرق والملل والنحل بصفة خاصة، ومن ثم فإن الممارسة الإقصائية المعاصرة
هي بالأساس امتداد لطريقة في التفكير كانت سائدة في تراثنا القديم.
2- اتخذ الإقصاء
في السنة النبوية الأداة لإضفاء طابع القداسة على نفي الآخر، وتم وضع العديد من
الأحاديث التي تسهم في إثبات الحق للفرقة الناجية وهي أهل السنة، ونفى الحق في
جميع الفرق الأخرى وهي الخوارج والشيعة والمرجئة، ويبدو خطورة توظيف الحديث واضحة
في أن الإقصاء يتم باسم المقدس، فكانت السنة هي أداة تضم عوام الناس إلى مذهب أهل
الحق (أهل السنة) وهي نفسها الأداة التي تنفر الناس من الفرق المغايرة لأهل السنة،
وذلك بصرف النظر عن مدى صحة هذه الأحاديث من عدمها فقد تم توظيف الأحاديث على كافة
مستوياتها الصحيحة والضيفة والموضوعة ضمن هذا الصراع بين الفرق.
3- حملت مدونات
الفرق والملل والنحل لأهل السنة توظيف التشهير والتسفيه لآراء ورموز الفرق
الإسلامية المغايرة لهم، قد دخل الأمر احيانًا في نطاق السب والشتم، والقدح في
القيمة العليا لأعلام مذهب مثل المعتزلة، وتشويه رموز عظيمة في ثقافتنا الإسلامية
مثل النظام، والجاحظ، وغيرهما وقد فعلت مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة هذا
بالفرق المغايرة لها من أجل نفور العامة منهم، ومحاصرة تلك المذاهب حتى لا ينضم
إليها أحد.
4- اعتمدت كتب
الفرق والملل والنحل لأهل السنة في عرض أراء الفرق الأخرى على بيان أوجه اختلاف
هذه الفرق مع أهل السنة، ثم يتم التشنيع على هذه الآراء، ويتم بمقتضى هذا العرض
نفي الآخر وإقصائه، ولو كانت مدونات الملل والنحل لأهل السنة تعرض الآراء بموضوعية
لقدمت وجوه الاتفاق بين هذه الفرق بجانب وجوه الاختلاف أيضًا، ولكنها تعرض دومًا
لوجوه الاختلاف من أجل إقصاء وتكفير تلك الفرق.
5- كان التكفير هو
أعظم أدوات الإقصاء في كتب الملل والنحل، وما التكفير سوى الحكم بإهدار دم من يكفر، وقد حملت كتب الملل والنحل
والفرق لأهل السنة أحكامًا كثيرة بالتكفير من قبل أهل السنة تجاه كل الفرق
المغايرة لأهل السنة، ورغم توظيف أهل السنة لسلاح التكفير في وجه خصومهم، والقول
أنهم يكفرونهم كما يكفرون أهل السنة، وكما أن تيارات أهل السنة نفسها قد كفرت
بعضًا البعض الآخر، مثلما كفر الحنابلة الأشاعرة وكفر ابن حزم الأشاعرة أيضًا، وفي
جميع الأحوال فإن الحكم بالتكفير عني إهدار دم المحكوم عليه، وتوظيف العنف في
العلاقة بين الفرق والمذاهب الإسلامية، وتحت هذا المنطق هناك العديد من المعارك
التي قامت بين أصحاب الفرق بسبب التعصب المذهبي مثل حوادث العنف بين السنة والشيعة.
6- لا يمكن الوعي
الحقيق بمشكلة الإقصاء في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة دون إدراك للوعاء
السياسي التي تخلفت فيه هذه الفرق من حيث النشأة، أو من حيث التطور، فكانت
السياسة، والصراع على السلطة هما السبب الرئيس في نشأة الفرق الإسلامية، وكان من
يملك السلطة السياسية، هو الذي يكفر الآخر المغاير له، حيث كفر فقهاء السنة في
العهد الأموي كل الفرق المغايرة لأهل السنة، وأباحوا قتلهم، وكان التذرع الظاهري
باسم العقيدة والإيمان، ولكن السبب الحقيقي لقضية الإقصاء كان في خروج معظم هذه
الفرق على خلافة بني أمية، ورفضهم للمظالم الكثيرة التي يتعرض لها المسلمون على
أيديهم، وكان لكل فرقة من الفرق الإسلامية أسبابها الخاصة في محاربة الأمويين،
ولكن القسم المشترك بينهم كان في الصراع على السلطة أحيانًا، ومحاولة رد المظالم
أحيانًا أخرى، وكانت كل فرقة تحاول ترسيم مذهب كمذهب رسمي للدولة الإسلامية، فحين
احتكم المعتزلة على السلطة السياسية فتشوا في عقائد الناس، وكفروا أهل السنة، وفي
مرحلة تاريخية أخرى دانت الدولة لأهل السنة، فحرقوا كتب المعتزلة، وحاصروهم، وفي
مرحلة تاريخية أخرى (في القرن الخامس الهجري) تعرض الأشاعرة لمحمة كبرى بسبب
السياسة، ومن ثم يمكن القول بأن السياسة كان لها الذراع الطولى في إذكاء روح
الإقصاء المتبادل بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ومن ثم لا يمكن أن نقيم تلك
المدونات الخاصة بأهل السنة دون وعي بأهمية السياق السياسي والاجتماعي التي تخلفت
فيه.
7- إن الاعتماد
على مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة في تعليم الدرس العقائدي يرسي نزعة
الإقصاء الواضحة من قبل أهل السنة تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى، وهو ما يجعل
العلاقة بين أصحاب المذهب الإسلامي قائمة على التوتر والإقصاء، ولذا فإنه لابد من
إعادة النظر في الدرس التعليمي لعلم الكلام بحيث نوضح فيه الآن الآراء وافكار التي
وردت في كتب علم الكلام القديم قد تخلقت في ظروف تاريخية وسياسية مختلفة، وأن
الظروف قد تغيرت الآن، ولذا لابد من إعادة النظر في الدرس التعليمي لعلم العقائد
بعرض المشترك الإسلامي العام بين الفرق والمذاهب الإسلامية، وأن هناك العديد من
أوجه الاتفاق، وأن مساحة الاتفاق أكبر من مساحة الاختلاف بين الفرق، وذلك باعتبار
أن الأصول الإيمانية واحدة بين هذه المذاهب، ولا ينبغي النظر لأصحاب الفرق
المغايرة لأهل السنة عل أنهم مواطنين من الدرجة الثانية في الأوطان والدول التي
يقطن فيها أغلبية سنية، لأن ذلك قد يكون سبب لعدم الاستقرار في تلك الدول، خاصة
وأن الامبريالية الغربية تتخذ من الخلافات المذهبية هذه أداة لإحداث عدم الاستقرار
بين تلك الدول.
8- لا يبغي الباحث
عن عرض تلك الإشكالية النظر إلى أهل السنة على أنهم يقصون أصحاب المذاهب المغايرة
لهم، لأن تلك الفرق المغايرة قد استخدمت نفس الأسلحة في إقصاء أهل السنة، ومنهم من
وظف السيف في الخروج على الحاكم، وعلى أهل السنة كالخوارج، كما استخدمت الشيعة نفس
آليات أهل السنة مثل الفضح والتسفيه والتكفير لأهل السنة، والقدح في أعلام
الصحابة، وبعض زوجات الرسول، وهذا مثبت تاريخيًا أيضًا، ولكن هدف البحث هو ممارسة
نوع من النقد الذاتي لدور مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنة في ترسيخ نزعة
إقصاء الآخر، وتكفيره، والتحريض على استخدام العنف ضده، وهذه الأمور جميعًا موجودة
أيضًا لدى أصحاب الفرق المغايرة للسنة، ولهذا ينبغي إعادة النظر في تلك الرؤية من
قبل كل فرقة تجاه الأخرى.
9- لا يمكن أن يكون هناك حوارًا بناء بين أهل السنة والشيعة إلا بالبحث الخلاق لجذور الصراع التاريخي بينهم، والأسباب التي رسخت لهذا الصراع، ولاشك أن أحد أهم أسباب ترسيخ الصراع بين السنة والشيعة هو الصورة السيئة لدى كل منهما عن الآخر، تلك الصورة التي دونتها كتب الفرق أو الملل والنحل لديهما، ومن هنا كان من الضروري تجاوز تلك الصورة السلبية من أجل بناء جسور مشتركة بينهما.
10- تمثل كتلة أهل السنة والجماعة الكتلة الأكبر في العالم الإسلامي الآن، ومن ثم فمن الضروري أن تمارس نوعًا من النقد الذاتي لنفسها ولتاريخها الفكري والثقافي، وأن يأخذ أهل السنة ومام المبادرة في بناء الجسور مع الطوائف المغايرة لها من الشيعة والإباضية الآن، وأن تحتوي تلك المذاهب وفقًا للمشترك الإسلامي العام بينها، حتى لا يكون الاختلاف المذهبي طريق القلاقل والتوتر بل والتقسيم في تلك الدول التي تختلف فيها المذاهب العقائدية.