عبدالرحيم علي .. حتى لا ننسى (3)
الأربعاء 26/مارس/2014 - 09:19 م
طباعة
(نشرت بجريدة نهضة مصر عام 2008)
رسائل أمريكا وخيارات الإخوان
انهالت التصريحات والتسريبات الصحفية، الأمريكية والغربية علي المنطقة في الآونة الأخيرة، بشأن الرغبة في الحوار مع الإسلاميين "المعتدلين"، فمن كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إلي ريتشارد هاس مخطط السياسة الخارجية الأمريكية وصولا إلي الاتحاد الأوروبي، جاءت الرسائل حاملة مضموناً واحداً يوحي بترسخ قناعة أوروبية وأمريكية بضرورة الحوار مع القوي الإسلامية. وتلقف عدد كبير من المحللين السياسيين العرب والمصريين هذه القضية باهتمام بالغ ولكن جل هذا الإهتمام كان منصرفا إلي زاوية النتائج التي يمكن أن تترتب علي مثل هذا الحوار وتأثيره علي المعادلات السياسية القائمة في المنطقة.
ولم يتوقف أحد ليناقش فحوي الرسائل الأمريكية والأوروبية بدقة، فاللافت للنظر في كل هذه الرسائل هو حديثها الواضح عن ضرورة وضع شروط لمثل هذا الحوار، فقد شدد الاتحاد الأوروبي في بيانه علي ضرورة "وضع معايير لمثل هذا الحوار"، مشيرا إلي "أن الحديث مع جماعات تتبني أحكام الشريعة الاسلامية ولها وجهات نظر محافظة للغاية بشأن دور المرأة في المجتمع سيكون موضوعاً بالغ الحساسية سياسياً في بعض دول الاتحاد الاوروبي"، وكذلك فعل ريتشارد هاس مخطط السياسة الخارجية الأمريكية عندما قال إن "الولايات المتحدة سوف تساند العمليات الديمقراطية حتي إذا كان الذين منحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها" ولكنه شدد علي "ان علاقات الولايات المتحدة مع الحكومات، حتي لو انتخبت بنزاهة، سوف تتوقف علي كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها وكيفية تصرفها علي المسرح الدولي بقضايا الإرهاب، والتجارة الحرة، وعدم انتشار المخدرات".
القضية هنا إذن ليست مساندة الذين يصلون إلي السلطة عبر عملية ديمقراطية حقيقية وفقط ولكنها تمتد لتصل إلي قضايا أخري أهم ــ تضعها الولايات المتحدة شرطا لقبول هذا النظام الجديد أو ذلك كعضو جديد في المجتمع الدولي ــ مثل كيفية التصرف مع القوي السياسية الأخري التي يتشكل منها الشعب المعني في هذا البلد أو تلك وكيفية التصرف علي المسرح الدولي وبخاصة فيما يتعلق بملف الإرهاب. لقد تغاضي كل المحللين السياسيين عن كل هذه الشروط التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية وصناع سياستها الخارجية للحوار مع "الإسلاميين" ومن ثم التسليم بوصولهم إلي السلطة وراحوا يتحدثون مأخوذين بثقل المفاجأة عن نتائج مثل هذا الحوار علي المعادلات السياسية في المنطقة.
الإخوان المسلمون كانوا مدركين لتلك الرؤية الأمريكية التي تفرض عليهم المرور عبر ممر ضيق، والخضوع لاختبارات كشف الكذب قبل الحصول علي الرضا الكامل، والتسليم لهم بأحقية الوصول إلي السلطة في هذا التوقيت تحديدا، حيث تخوض الولايات المتحدة معركتها الكبري ضد الإرهاب.
فقضايا مثل الحريات الشخصية، وحقوق المرأة، وقبول الآخر، ومنحه كامل الحرية في التعبير عن رأيه، ستظل جميعها ملفات معقدة وغامضة بالنسبة لجماعة مثل جماعة الإخوان، والخوض فيها في مثل هذا التوقيت قد يؤدي إلي "محو شخصية الجماعة"، ومعها شعبيتها التي اكتسبتها طوال هذه السنوات الطويلة فلا يبقي منها سوي (جماعة إسلامية حداثية) لا تمت بصلة للإخوان الذين عرفهم الشعب المصري وتعامل معهم، والأمر الأخطر هو أن هذا الحوار ــ في هذا التوقيت ــ قد يكلف الجماعة انشقاقات داخلية يمكن أن تؤدي في النهاية إلي شطب الجماعة من علي مسرح الحياة السياسية في مصر وإلي الأبد.
أدرك قادة الإخوان هذا المأزق جيدا وراحوا جميعا بداية من المرشد العام مهدي عاكف إلي أكثر أعضاء مكتب الإرشاد شعبية في الجماعة الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، يرفضون في صوت واحد الجلوس مع ممثلين للولايات المتحدة الأمريكية علي طاولة واحدة للحوار، وعيا منهم بأن الحوار لا يصب في صالح الجماعة الآن. وفضل الإخوان عوضا عن ذلك أن ينخرطوا في حوار مع النظام ــ مستغلين الإشارات الأمريكية ومستقويين بها ــ في محاولة للوصول إلي صفقة تنهي سنوات من القطيعة بينهما وتمهد لمرحلة جديدة تتحقق من خلالها مصالح الطرفين.
فمن جهة يلجم النظام الضغوط الخارجية عن طريق تعبئة المعارضة، وفي القلب منها التيار الإسلامي ممثلا في الإخوان المسلمين ضد التدخلات الأجنبية (في إشارة واضحة لرفض المعارضة المصرية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين للحوار مع أمريكا أو قبول تدخلها لفرض أية صيغة للإصلاح في مصر).
ومن جهة أخري، تحفر الجماعة لنفسها موقعا متقدما في بنية (النظام القادم)، مع احتفاظها بخط الرجعة في حال خفت الضغوط الأمريكية علي المنطقة، بما يؤهلها لقيادة لا تدفع في مقابلها ثمنا باهظا.
ويمكن القول دون أدني تجن أن كل الرسائل الأمريكية والأوروبية الموجهة إلي المنطقة، ما هي إلا رسائل مزدوجة، قصد بها الطرفين (الحكومة والإسلاميين) في آن واحد. فواشنطن من جهة تدفع الأنظمة الحاكمة إلي مزيد من الإصلاحات لمواجهة مأزق الاستعانة بالآخر (التيار الإسلامي المنافس)، ومن جهة أخري تسعي عبر هذا التكتيك إلي إغراء الحركات الإسلامية المعتدلة في المنطقة بإدخال تعديلات جوهرية علي بنيتها الفكرية والتنظيمية سعيا نحو تحقيق حلمها في إيجاد طبعة عربية من حزب العدالة والتنمية التركي، تتداول معه الأنظمة الحاكمة وحلفاؤها السلطة في هذه البلدان التي لم تتعرف علي عملية تبادل السلطة من قبل.
ولكن يبقي السؤال: كيف يمكن أن تحقق أمريكا هذا الحلم دون إجراء حوار مباشر مع الإسلاميين يتخذ مراحل عديدة، ويستمر لسنوات طويلة، حتي يمكنه تحقيق جميع التعديلات التي تريدها أمريكا، علي البني الفكرية والتنظيمية والمناهج التربوية الخاصة بهذه التنظيمات، للوصول إلي مرحلة التصالح البنيوي مع المنهج الديمقراطي الغربي الذي ترفع لواءه أمريكا ومن خلفها الاتحاد الأوروبي.
وأمريكا تعلم أن عملية (تطويع الإسلاميين بالمنطقة) وبمثل هذه الطريقة التي ترغب بها، ستستغرق وقتا طويلا، وستصطدم إن عاجلا أو آجلا، بوجهات نظر الفريقين المتعارضة بشكل شبه كامل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وانحياز أمريكا الواضح للمحتل الإسرائيلي، في إطار ما بات يعرف بمنهج الكيل بمكيالين. وظني أن هذه الرسائل المزدوجة، أو قل اللعبة الأمريكية يستمر لفترة طويلة، حتي تستقر الأوضاع في مجمل بلدان المنطقة أو تتحقق النظرية الأمريكية، حول ما أطلقت عليه كونداليزا رايس بـ (الفوضي الخلاقة).