حقائق جديدة حول ميلاد المسيح يكشفها أستاذ للإنجيل

الخميس 08/يناير/2015 - 08:01 م
طباعة حقائق جديدة حول ميلاد
 
• اسم الكتاب – يسوع بعيون شرق اوسطية 
• الكاتب – كينيث بيلي 
• المترجم – فيكتور مكاري 
• الناشر - دار الثقافة – مصر الجديدة – 2015 
أقام كينيث بيلي  إنجليزي الجنسية مؤلف هذا الكتاب الخطير ستين عامً من 1935 الى 1995 في بلاد الشرق الأوسط، بحيث أمسى وطنا له فقد  نشأ في مصر ثم عمل بتدريس علوم العهد الجديد قرابة أربعين سنة في الكليات والمعاهد اللاهوتية بمصر ولبنان والقدس وقبرص خلال تلك الفترة كلها كان  يركز جهوده العلمية على محاول فهم قصص الاناجيل بصورة اعمق من وحى بيئتها الحضارية الشرقية، وهذا الكتاب (يسوع بعيون شرق أوسطية) إنما يشكل جزءا من ذلك المسعى المتواصل بحيث تشمل المصادر المدونة التي يستعين بها هذا البحث ما وجد منها قديما وحديثا ووسيط العصور اما القديم من الكتابات (وهو بالآرامية والعبرية والسريانية والعربية) فلم ينحصر في مخطوطات العهد القديم وما بين العهدين ومخطوطات البحر الميت بل راعي ان يلجأ ايضا الى كتابات ما بعد العهد الجديد من تعاليم الدين اليهودي المهمة مثل المشناة والمدراش الكبير والتلمودين ( البابلى والأورشليمى)، وكذا تراث الكنائس الشرقية الناطقة باللغات السامية، فكثيرا ما كان يردد بيلي ما قاله الباحث جون مايندورف عن أهمية التراث المسيحي الشرقي:" لا يزال الفكر السائد بأن التراث المسيحي المبكر يقتصر على محصوله اليونانى واللاتينى غير ان هذا الافتراض يشوه الواقع التاريخي ويضعف تماماً فهمنا لأصول لاهوت المسيحية وروحانيتها يهمنا فقط أن نتذكر أن اللغة السريانية كانت في القرنين الثالث والرابع الميلاديين ثالث اللغات المتداولة في الكنيسة الجامعة بل اللغة الأغلب استعمالا للتواصل على نطاق بطريركية الشرق الرومانية التي شملت سوريا وفلسطين وما بين النهرين".
كثيرا ما يدعى مسيحيو الشرق الأوسط "المؤمنين المنسيين"، ولعل ذلك لأن العالم لا يدرك إلا أن الشرق الأوسط يغلب أن يكون تعداده من المسلمين وبعض اليهود، وبهذا أمسى مسيحيو المنطقة في عداد المجهول في وعي الغرب منذ مجمع خلقدونية المسكوني عام 451 م قليل من يدرى اليوم بوجود ملايين من المسيحيين بين ناطقي اللغة العربية في الشرق الاوسط ممن يمتلكون ارثا ثريا من الادب اللاهوتي القديم والحديث منه اولئك المسيحيون المتحدثون بإحدى اللغات السامية الحية اناس يحيون ويتنفسون ويفكرون ويتفاعلون مع جميع اوجه ثقافة المشرق: اذ هم متجذرون ومتأصلون في الشرق بكل أنماطه وعاداته وتقاليده، إذن فلا بد أن تسمع أصواتهم في مجال الدراسات الكتابية.
فنحو هذا الهدف تحاول صفحات هذا الكتاب الذي ترجمه إلى العربية الدكتور القس فيكتور مكاري واصدرته دار الثقافة ان يكشف عن اثار الادب المسيحي الشرقي المبكر في لغاته السريانية والعربية في تفسير الاناجيل، حيث إن السريانية لغة شقيقة للغة التي كان يتكلم بها السيد المسيح أي الآرامية، وأن مسيحية العرب بدأت عند يوم الخمسين أي بعد خمسين يوم من صعود المسيح للسماء لما سمع بعض الحاضرين وعظ الرسول بولس بلغتهم العربية وعرف انها اتسعت انتشارا إبان القرون الاولى في اليمن والجزيرة العربية  وغيرها وعند ظهور الاسلام اصبحت اللغة العربية- تدريجيا- اللغة الرئيسية لاهوتيا لشتى مسيحيي المشرق ومع ذلك فان قرونا بأكملها من الادب المسيحي الرفيع باتت مندثرة في غياهب المجهول اذ لم تكن قد حظيت بالنشر كل هذه المصادر- السريانية والعبرية والآرامية والعربية- تنبع من عين حضارة الشرق المبكرة المشتركة كما ان جميعها يعتبر اقرب- عرقيا- الى عالم السامية الذى انتمى له يسوع من صلتها بحضارة اليونان او اللاتين التي تميز بهما الغرب.
من تلك الفترة المبكرة ظهرت كتابات افرايم السريانى والترجمات الكلاسيكية الثلاث للانجيل للغة السريانية: وهى" الترجمة السريانية القديمة" وكذلك ترجمة " البشيطا" والترجمة " الهارقلية" ولقد عدت مرارا لمراجعة تلك الترجمات في سياق الاعداد لهذا الكتاب.
برزت اهمية التراث العربي المسيحي ابتداء من القرن الثامن اما في اوائل العصور الوسطى فان ابرز من اكتشف- حتى اليوم- من علماء العهد الجديد في المشرق العربي فهو ابو الفرج عبد الله بن الطيب المشرقي والذى اشتهر باسم " ابن الطيب" اقام في بغداد وتوفي عام 1043م ووصفه العلامة الألماني جورج جراف بان "اجتمع في شخصه الفيلسوف والفنان والناسك والكاهن في ان واحد" في الحق انه كان من رجال النهضة قبل ان قامت النهضة بخمسة قرون لقد كان ضليعًا في اللغة اليونانية وواسع العلم بتراثها الأدبي، وفضلًا عن ذلك كان ابن الطيب طبيبًا بارعًا واستاذا ومؤلفا مشهورا للمراجع الطبية ونصوصها واذ كان عالما لغويا قام بترجمة العهد الجديد من اللغة السريانية إلى العربية، كما ألَف أعمالا فلسفية ولاهوتية
كما برز في الحقبة الوسطى العالم القبطي هبة الله بن العسال الذى انجز في العام 1252 طبعة نقدية كاملة للأناجيل الاربعة مع حاشية مفصلة ويعتبر عمله الباهر هذا خلاصة وافية تصف كيف ترجم النص من اليونانية والقبطية والسريانية الى العربية عبر قرون ولت قبل عهده والى جانب تلك الاعمال المتألقة تيسر لي أن استعين بتفاسير علامة اخر للأناجيل هو ديونسيوس يعقوب بن الصليبي (المتوفي عام 1171م) اما فيما يتعلق بعصرنا الحديث فلقد استندت الى ابراهيم سعيد احد اشهر الرعاة الانجيليين المصريين ومفسري العهد الجديد الذى صدر عن قلمه في غضون القرن العشرين تفسير لوقا وتفسير يوحنا بلغته العربية الرصينة كما كنت اأود في كثير من الاحيان الى مؤلفات الاب متى المسكين العلامة القبطي الأرثوذكسي الذى توفي في 2006 لقد امضى هذا الراهب المثقف الذى كاد ان يصبح بطريركا لكنيسته عقودا من حياته المتنسكة في كتابه تفاسير العهد الجديد باللغة العربية وبالرغم من رفعة مستوى دراساته في الأناجيل التي فسرها في ستة مجلدات مذهلة فان معظم نتاجه الفكري والروحي لا يظل مجهولا خارج العالم العربي المسيحي.

قصة ميلاد يسوع المسيح

من الامور المثيرة التي يكشفها الكتاب حول قصة الميلاد يقول بيلي 
تداول المسيحيون احداث قصة الميلاد بمكوناتها التقليدية حسبما سمعوها عبر الاجيال فسلموا بانها تشمل:" ثلاثة من المجوس" جاءوا حاملين التقدمات والعطايا ورعاة الحقول " في قلب الشتاء قاسى البرودة" والطفل المولود في "مذود البقر" اذ  لم يكن له مكان في " الخان" وقد ترسخت هذه الصورة الشعبية في اذهان الناس وهنا يواجهنا السؤال: هل من فارق شديد الخطورة بين حرفية النص والمفهوم التقليدي له؟ وهل ساهمت القرون بمعان أضافت الى فهمنا للنص معانى لم يكن يحتويها قبلا؟
الخاتم المآسي يضعه صاحبه بفخر واعتزاز لكنه مع مرور الزمن يحتاج لتنظيف وتلميع من صائغ الجواهر لاستعادة بهائه الأصلي وكلما طال زمن استعماله ازدادت حاجته الى التنظيف بين الحين والحين وهكذا الحال مع القصص الكتابية اذ يصعب فهمها على صيغتها بعيدا عن مفهومها المألوف وكلما تمادى تداولها تقليديا دون تدقيق ترسخت صيغتها الشعبية في الاذهان وهذا ما حدث مع قصة ميلاد يسوع.
لقد شاب المفهوم الروائي الشعبي لقصة الميلاد الواردة في انجيل لوقا 2: 1-18 عدد من الشوائب والاخطاء المهمة نكتشفها فيما يلى:
1- هنا نرى ان يوسف كان عائدا الى بلدته وان الذاكرة التاريخية في الشرق الاوسط طويلة الامد والروابط العشائرية التي تتماسك بها العائلة الكبيرة في ضيعة الاسرة متينة الاواصر ففي هذا الاطار كان ممكنا لرجل مثل يوسف ان يظهر في بيت لحم ويقول لأهل البلدة:" أنا يوسف بن هالي بن متثات بن لاوي" (لوقا3: 23-24) لكانت معظم بيوت القرية تفتح له في الحال.
2-  كان يوسف "ملوكيا" فهو من بيت الملك داود وكان " بيت داود"- أي اسرته- عريقا في بيت لحم حتى ان اهاليها طالما اطلقوا على البلدة اسم " مدينة داود" كما جرت العادة هذا مع ان الاسم " مدينة داود" كان يشير عادة في أسفار العهد القديم إلى أورشليم، ولكن يبدو أن الكثيرين من أهالي ضواحي بيت لحم كانوا يلقبونها مدينة داود"( لو2: 4)، وبالتالي فلابد أن يوسف كان يلقى ترحيبا في أي منزل من منازل البلدة.
3-  تحظى المرأة الحُبلى في سائر الحضارات باهتمام بالغ خاصة اذا كانت على وشك ان تضع مولودها وفي المجتمعات القروية البسيطة غالبا ما يعاون الأهالي نساءهم في عملية الوضع بغض النظر عن الظروف الراهنة فهل نتصور استثناء بيت لحم من هذه التقاليد؟ هل خلت البلدة من عادات الشرف؟ لابد ان اهل البلدة شعروا بمسئوليتهم لمساعدة يوسف في ايجاد مكان ملائم لحماية اسرته وتقديم العناية الكافية التي كانت مريم في اشد الحاجة اليها والا فكم كان يكون مقدار الخزي والعار الذى يصيب اهل بيت لحم مدينة داود بلدة احد ابناء العائلة الملوكية التي تنتمى لبلدتهم؟
 4-  كان للكثير من سكان بيت لحم اقرباء في القرى المجاورة وكانت مريم سبقت فزارت اليصابات في جبال مدينة يهوذا حيث كانت بيت لحم تتوسط المنطقة وهذه تلقتها بالترحيب فعندما وصلت مريم مع رجلها يوسف الى بيت لحم لم تكن تبعد عن دار زكريا واليصابات لذلك اذا تعذر على يوسف ان يجد مكانا في بيت لحم كان من الطبيعي ان يتوجه الى منزل نسيبه زكريا ولكن هل توفر له الوقت الكافي لمواصلة السفر ولو لبضعة اميال اضافية؟
5-  يتضح من لوقا2: 4، 6 انه كان ليوسف ما يكفي من الزمناذ" صعدمن الجليل من مدينة الناصرة الى اليهوديةوبينما هما هناك تمت ايامها لتلد
لكن الاعتقاد الشائع لدى المسيحي العادي هو ان يسوع ولد في ذات ليلة وصول العائلة المقدسة- ومن ثم استعجال يوسف في قبول أي نوع من المأوى ولو كان ذلك مذود الماشية وعلى هذا الاعتقاد يتكرر عرض مسرحية الميلاد في كثير من الكنائس عاما بعد عام
ان النص يذكر بوضوح ان ولادة يسوع حدثت بعد ايام من وصول مريم ويوسف الى بيت لحم وان لم يحدد عدد تلك الايام ولكن لا شك في انها كانت تكفي لتدبير مأوى مناسب او للجوء الى بيت اقرباء مريم فمن اين وردت هذه الاضافات الاسطورية التي ترسبت إلى أعماق العقل المسيحي عن الوصول المتأخر ليلا والميلاد الذى حل موعده هل لنا ان نتعرف على مصادرها؟

رواية مسيحية

ظهرت بعد ميلاد يسوع بحوالي مائتي عام رواية مطولة للميلاد- لمؤلف مجهول- بعنوان "الانجيل الاسبق بحسب البشير يعقوب" دون ان ترتبط بيعقوب باية صلة ومن خلال محتوياتها يتضح ان مؤلفها لم يكن يهوديا ولا يعرف جغرافية ارض فلسطين ولا يفهم تقاليد المجتمع اليهودي كما ظهرت في تلك الفترة مؤلفات عديدة اخرى تحمل اسماء شخصيات مشهورة
يستنتج المؤرخون ان تلك "الرواية" كتبت في حوالى عام 200 بعد الميلاد ويلاحظون المبالغة في التصوير الخيالي لتفاصيل الميلاد لهذا هاجمها القديس جيروم اللاهوتي اللاتيني المشهور، وكذا عدد من الباباوات كانت الرواية مكتوبة أصلا باللغة اليونانية ولكنها ترجمت الى اللغات اللاتينية والسريانية والارمينية والجورجية والاثيوبية والقبطية والسلافونية العتيقة لاشك في ان مؤلف الرواية قرأ قصص الاناجيل ولكنه لم يعرف تضاريس الارض المقدسة فمثلا يشير في روايته، إلى أن الطريق من القدس إلى بيت لحم طريق صحراوي، مع أنه في الواقع طريق زراعي خصب كما تذكر الرواية انه عند اقترابهما الى بيت لحم طلبت مريم من يوسف قائلة:" يا يوسف انزلنى من على ظهر الحمار لأن الطفل الذى بداخلي يضغطنى لينزل" فعندئذ ترك يوسف مريم في كهف واسرع في الذهاب الى بيت لحم ليبحث عن قابلة وبعد ان يرى في طريقه رؤى خيالية اذا به يعود ومعه المولدة ( فيما كان الطفل قد ولد) فيجتازان منطقة يغطيها سحابة سوداء ثم يبهرهما نور شديد اللمعان احاط بالكهف هنالك تظهر في الغيب امراة تدعى سالومى فتفيدها القابلة بان عذراء وضعت طفلها ومع ذلك تحتفظ بعذراويتها ولما لم تصدق سالومى تلك الاعجوبة يبست يدها بالبرص فحاولت التأكد بفحص مريم التي تأكد فعلا صدقها وهنا يقف بغتة امام سالومى ملاك يبلغها ان تلمس الطفل واذ فعلت تمت المعجزة فشفيت يدها للحال وهكذا تسترسل الرواية اذ ليس غريبا على كتاب الروايات ان يشطح بهم الخيال اما النقطة المهمة في هذه الرواية التي يعتقد انها اقدم المؤلفات الاسطورية هي ان يسوع ولد قبيل وصول والديه الى بيت لحم او بمجرد ليلة وصولهما الى اطراف البلدة ومن ثم فالمسيحي العادي الذى لم يسمع برواية "انجيل يعقوب" لا يسعه إلا أن يتأثر لا شعوريا بحكاياتها ننبه بان هذه الرواية اعتمدت على خيال مؤلفها لتنسج توسيعا مجسما لتفاصيل قصة الانجيل ولكنها ليس قصة الانجيل بذاتها.
عرفنا فيما تقدم أحد أنواع مشاكل التفسير التقليدي لنص لوقا2" 1-7 حيث كان يوسف عائدا الى بلدته التي لم يكن يصعب له أن يجد فيها مأوى، فلأنه انحدر من سلالة داود الملك فإن جميع أبواب المدينة كانت ستفتح له ومريم كان لها أقرباء أمكنها- لو احتاجت- أن تستعين بهم ولكنها لم تفعل كما ان الوقت كان متاحا لتدبير اقامة مناسبة كيف كان ممكنا لبلدة يهودية صغيرة ان تخذل فتاة اما توشك ان تلد؟ وفي ضوء تلك الابعاد التاريخية والحضارية كيف لنا اذن ان نفهم النص وهنا يخطر لنا سؤالان: اين كان "المذود" وماذا كان "الخان"؟
وردا على السؤالين: واضح ان قصة ميلاد يسوع التي دونها لوقا تتفق في تفاصيلها مع تاريخ الارض المقدسة وجغرافيتها: فالنص يسجل ان يوسف "صعد" مع مريم من الناصرة الى بيت لحم ان بيت لحم تستوى على هضبة ترتفع بنسبة ملحوظة عن الناصرة ثانيا "مدينة داود" كان اسما معروفا محليا اضاف اليه لوقا عبارة " التي تدعى بيت لحم" للتعريف ثم ثالثا ان "بيت فلان" تشير في الشرق الاوسط الى "عائلة فلان" ولكن القارئ اليونانى قد يتخيل ان المقصود هو "منزل" او "بناية داود" عندما ترد عبارة "بيت داود" ولعل هذا ما دفع لوقا ( وهو يونانى الجنس) ان يضيف " وعشيرته" ليتاكد من فهم قرائه لما كتب ان لوقا لم يغير النص فهذا كان تقليدا ثابتا " في الامور المتيقنة عندنا كما سلمها الذين كانوا منذ البدء"(لو1: 1-2):
ولكنه كان لديه الحرية في اضافة بعض الملاحظات التوضيحية رابعا يذكرلوقا ان مريم "قمطت" طفلها وهذه العادة القديمة يشار اليها في سفر حزقيال 16: 4 ولا يزال أهالي الريف في سوريا وفلسطين يمارسونها الى اليوم واخيرا تتجلى في هذه التلاوة نبرة مسيحانية - كريستولوجية- ذات صلة بالملكوت الداوودى وهكذا فإن هذه النقاط الخمس تنبر على ان خيوط قصة ميلاد يسوع نسجت بكل تدقيق وعناية على يد يهودي آمن بإتمام نبوات مجيء المسيح وفي مرحلة مبكرة جدا في حياة الكنيسة الاولى

حقيقية المذود

أما بشأن كلمة "مذود" كما يفهمها العقل المعاصر- وخصوصا في الغرب- فهى تستحضر له صورة "حظيرة الماشية" او" الزريبة" الا انها لا تعنى ذلك في بيئة ارياف الشرق الاوسط ففي مثل الغنى الغبى (لو12: 13-21) تذكر كلمة " مخازن" التي توحى بمكان منفصل عن المنزل لخزن الحبوب او لحماية الماشية او لايواء العربات ومن الطبيعى ان توجد مثل هذه عند اصحاب الثروة الطائلة لايواء الماشيةلكن بيوت بسطاء قرى فلسطين كانت في الاغلب لا تزيد عن غرفتين ظلت احداهما مخصصة دائما لاستقبال الضيوف وكانت هذه ملحقة بطرف المنزل او بمثابة " علية النبى" فوق سطح المنزل كما ورد في قصة ايليا (1مل17: 19) اما الغرفة الرئيسية فهى غرفة العائلة حيث الاسرة كلها تعد طعامها وتأكل وتنام وتقيم وفي طرف هذه الغرفة تخصصت مساحة للماشية- اما اسفل الارضية بحوالي متر او على نفس مستوى الارضية على الناحية مع وجود جذع خشبي عريض يفصل مساحة الدواب عن غرفة العائلة في الليل تساق البقرة والحمار وبعض الخراف التي تمتلكها الاسرة الى تلك المساحة المخصصة لها وفي الصباح تساق إلى الفناء الخارجي جوار المنزل فيتم تنظيف المكان ويستطيع المرء ان يشاهد هذه النماذج البسيطة للمنازل الريفية التي وجدت منذ عصر داود وحتى منتصف القرن العشرين وقد رايتها في اعالى الجليل كما في بيت لحم

من هم المجوس؟

يذكر انجيل متى2: 1-2 خبر بقدوم المجوس
" ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم قائلين:" اين هو المولود ملك اليهود فاننا راينا نجمه في المشرق واتينا لنسجد له"
يفرض هذا الجزء من القصة عدة تساؤلات اذا كان المجوس الحكماء من بلاد المشرق أي بالضرورة من شرقى اليهودية  وكانوا قد راوا نجم يسوع في المشرق لذهبوا شرقا الى الهند من الواضح انهم اتجهوا غربا يكمن مفتاح هذا العدد في ادراك المعنى العبرى للفظة "الشرق" اذ تفيد ايضا " الشروق" وعلى هذا الاساس فان الترجمة الادق للاصل اليونانى تكون " راينا نجما عند طلوعه"
فماذا اذن كان وطن اولئك الحكماء؟ هل كانوا من الامم؟ وهل كانوا من الجزيرة العربية؟ بالتاكيد كان "المجوس" من غير اليهود بينما كان رعاة منطقة بيت لحم يهودا بلا شك من الجدير ان نلاحظ ان "ملك اليهود" الجديد هذا شرفه اليهود والامم اضافة الى ذلك نرجح ان " الحكماء" هؤلاء جاءوا من جزيرة العرب
واذ النص يذكر صريحا بان "الحكماء(المجوس) اتوا من المشرق" يفرض السؤال ذاته:" ومن اين في المشرق؟" يتوقف الجواب على موقع اقامة الكاتب فاذا كان مسيحيا مقيما في روما في اوائل القرون المسيحية يستنتج ان " المشرق" هو بلاد الفرس وهذا ما تقترحه كلمة"مجوس" حيث انها تشير في الادب اليونانى الى اهل بابل وفارساما اذا كان مسيحيا مقيما في الارض المقدسة فيكون موقع" الشرق" بالنسبة له شرق نهر الاردن وهذا الفهم يتداوله اهل الضفة الغربية في فلسطين حتى يومنا هذا حيث يشيرون الى الزائر من الاردن انه من "الضفة الشرقية" للنهر كما اختبرنا اثناء اقامتنا في فلسطين ومن الطبيعى ان نفترض ان المسيحيين اليهود الذين عاشوا في الاراضى المقدسة في القرن الاول الميلادى فكروا وتحدثوا على ذات النمط فالشرق بالنسبة لهم كان يعنى الصحارى الاردنية التي امتدت لتلاقى اطراف صحارى الجزيرة العربية
اتى حكماء المشرق- بحسب ما كتب متى 2- بعطايا من ذهب ولبان ومر امسى عاديا ان يقتنى الاثرياء ذهبا وكان الذهب ينجم في الجزيرة العربية اما اللبان والمر بالتحديد فيحصدان من اشجار تنمو في جنوب جزيرة العرب ومن الطبيعى ان السكان الاغنياء في تلك المناطق كانوا يمتلكون الذهب واللبان والمر وكانت الكنيسة الاولى على علم بذلك
ان اقدم تفسيرموجود لقصص ميلاد يسوع كتبه المسيحى الفلسطينى يوستينوس الشهيد في حوالى عام 160 والذى عاش في قيصرية جنوبى السامرة وسجل لنا حوارا مع يهودى اسمه طرايفون في كتاب بعنوان "حوار مع طرايفون اليهودى" لا زال محفوظا كتب يوستينوس الشهيد " جاء الحكماء من العربية الى بيت لحم وسجدوا للطفل وقدموا له عطايا من ذهب ولبان ومر" لا يقدم يوستينوس برهانا يثبت نسبة الحكماء الى اصل عربى ولكنه بكل بساطة يذكر في خمسة اماكن مختلفة ان الحكماء وفدوا من جزيرة العرب ويؤكد نفس الموقع كل من ترتليان واكليمندس الرومانى في العشرينات من القرن الماضى زار عالم بريطانى اسمه( أفف بيشوب ) قبيلة من بادية الاردن وكانت تلك القبيلة المسلمة تحمل اسم "الكوكبانى" نسبة الى "كوكب" ولما سأل بيشوب افرادها لماذا يسمون " الكوكبانى" افادوه بان اجدادهم اشتغلوا بمراقبة الكواكب وسافروا غربا الى فلسطين اكراما للنبى العظيم عيسى ( يسوع) عند ميلاده تدعم هذه الرواية اعتقاد يوستينوس الشهيد الذى عاش وكتب في القرن الثانى الميلادى بان "المجوس" او" الحكماء" كانوا من عرب الجزيرة ولكن هل توجد لهذه النظرية اية اهمية بخلاف كونها مثيرة لحب الاستطلاع التاريخى

ذبح الاطفال

في انجيل متى  2: 13-18 ولوقا2: 22-3هنالك بعض الاحداث والقصص التي يجب منع بثها على شاشة التلفاز واعتقد ان قصة ذبح الاطفال في بيت لحم (مت2: 16-18) هى من ذاك القبيل فالمنظر- بكل بساطة- وحشى وبشع- واقسى من ان يحتمله أي مشاهد حتى في هذه الأزمنة، حيث قتل هيرودس الالاف من الاطفال لكى يكون المسيح من بينهم  حتى لا يصبح ملك  وهنا يثار سؤالان: لماذا حدث ذلك الحادث البشع؟ ولماذا ادرج متى هذه القصة البغيضة بكل ما تحوى من شناعة وقبح في انجيله؟

لماذا وقع هذا الحدث؟

كان هيرودس شخصية معقدة لأقصى الدرجات فمن الناحية العرقية كان عربيا كان ابوه من قبيلة عربية في جنوب الارض المقدسة تدعى أدومية وكانت أمه من البتراء التي كانت عاصمة المملكة النبطية وهى مملكة عربية امتدت في شمال الجزيرة العربية ابان القرن الأول وكان لهيرودس اخوان احدهما يسمى فيصل والثاني يوسف كما سميت اخته سلامة وكان هيرودس هو الوحيد بين اعضاء اسرته ذا الاسم اليوناني
وأما بالنسبة لديانته فكان هيرودس يهوديًا ففي عام 135 قبل الميلاد هزم الحاكم اليهودى هيرقانونس الادوميين وأرغمهم تحت تهديد الموت على اعتناق اليهودية عندئذ عين هيرقانوس انتيباس الأكبر جد هيرودس حاكما على المحافظة وجعل هذا من هيرودس يهوديًا وكان في نفس الوقت يونانيا بحكم ثقافته حيث كانت الحضارة اليونانية قد انتشرت عبر فلسطين في تلك الاثناء وكانت اللغة اليونانية هي لغة الاجانب المقيمين بها وغالبا ما كان هيرودس يحاول ان يجعل من اورشليم مدينة يونانية يضاف الى ذلك ان هيرودس- سياسيا- كان رومانيا لذا فقد كان انحيازه دائما وفي كل ازمة سياسية في صف روما وهكذا كانت تركيبته العربية الجنس يهودية الدين يونانية الثقافة رومانية السياسة في غاية التعقيد كان يوصف في ايامه المبكرة كشاب وسيم الطلعة قوى البنية وقاد جيشه بنفسه في حقول المعركة في عشر حروب مختلفة وذاعت شهرته عندما اتخذ وقفته في جانب انطونيوس وكليوباترا ضد اوكتافيان في الصراع للسيطرة على الامبراطورية الرومانية ولكن بعدما هزم اوكتافيان انطونيوس هزيمة فادحة وسافر اوكتافيان ( الذى سمى بعد ذلك اوغسطس قيصر) الى رودس ليرسم خطوات حركته المقبلة لحق به هيرودس هناك ليقابل مع ذلك

المنتصر الرومانى المهم وتم اللقاء بينهما

لقد كان هيرودس في معظم حياته صديقا مقربا لانطونيوس كما سانده ضد اوكتافيان فكيف يتعامل الان مع قيصر؟ ظهر امام قيصر في رودس خالعا تاجه واعترف له بجراة مذهلة بكل الدعم الذى قدمه لعدو قيصر واعترف ايضا بانه لم يزل حليفا لانطونيوس حتى في هزيمته واختتم خطابه امام قيصر بمقولته المشهورة:" اسألك ان تتفكر لا بصديق من انا ولكن بكم كنت صديقا وفيا" عندئذ قرر قيصر ان هيرودس رجل جدير بثقته وامره بان يلبس تاجه رجع هيرودس عندئذ بمزيد من الاطمئنان على استقرار عرشه عما كان عليه من قبل
ولكن مع الزمن اخذ هيرودس في الانحلال تدريجيا لقد تزوج من عشر نساء وبدا ابناؤه اعداء منافسين له فامر بشنق اثنين منهم كانا من اكثر المفضلين عنده في قلعة السامرة كما اشتبه لاحقا في ولاء زوجته المفضلة- مريمنى- فدبر لقتلها وبعد ذلك عرف عنه انه كان يجول في قصره ينادى اسمها ويرسل الخدم للإتيان بها ولما عجزوا عن ذلك امر بضربهم
كان هيرودس نابغا ووحشيا في ان واحد وفي نهاية حياته مرض بعدة امراض مؤلمة وفي اواخر ايامه قبض على ولى عهده واعتقله في قاع ارض القصر وكان لما برحبه الالم يوما في شيخوخته حاول الانتحار ولكن حارسا انقذه ومع ذلك سادت الفوضى في القصر لفترة وجيزة وذاع فيه ان الملك قد مات ولما سمع ولى العهد بوفاة قيصر صرخ لإطلاق سراحه حتى يتسلم الملك اما هيرودس الذى بقى على قيد الحياة فأمر بإعدام ولى العهد المزعوم ومات هيرودس نفسه بعد ذلك بخمسة ايام وكانت اخر اوامره قبل مماته هو القبض على الاف من شرفاء البلاد بطولها وعرضها واعدامهم علنا في استاد اريحا الرياضى يوم وفاته وبذلك يسود الحداد في البلاد لقد عرف هيرودس ان احدا لن يرثى له او يحزن لوفاته هو ولكن من حسن الحظ ان امره لم ينفذ بمثل هذا السجل الملطخ بدماء البغضة والوحشية الفذة ليس غريبا على هيرودس الكهل اذن ان يامر بذبح رضع بيت لحم وفي هذا العالم الوحشى ولد يسوع وهيرودس لم يكن الا عينة زمانه

لماذا ادرج هذا المشهد العنيف في قصة ميلاد يسوع؟

يحتفل المسيحيون بعيد الميلاد في اجواء يسودها اللطف والالوان والحان الموسيقى العذبة وعامة لا يشار الى ذبح الاطفال الابرياء بالذكر في اوساط البهجة التي تحيط باحتفالات الميلاد او في المسرحيات التي تصوره في الكنائس وقلما يقرا هذا المقطع المروع في اثناء خدمات العبادة في ايام العيد وهكذا يتوقع المحتفلون ان تستعاد في مسامعهم افراح الملائك واهتياج الرعاة وسخاء المجوس كما تقرا لهم النصوص الغنية بوعود السلام والرؤى البهية لمولود السماء وطهارة القديسة الام ومروءة الاب ووضاعة حيوانات المذود العل مؤامرة صمت منعت ملاحظة المجزرة الجماعية؟ فلماذا شملها متى في روايته؟
يشير معظم المفسرين- في قرينة هذه القصة- الى ان متى اراد ان يقدم يسوع بمثابة كونه" موسى الجديد" فكانت ولادة موسى تزامنت مع "مذبحة الابرياء" التي نتجت عن اوامر فرعون بقتل جميع اطفال العبرانيين الرضع( خر1: 8-22)  وبدوره يروى متى قصة محاذية عن ميلاد يسوع ولكن يغلب ان هنالك سببا اخر لذكر القصة
ويقول بيلي اختبر من اقام في الشرق الاوسط في النصف الاخير من القرن العشرين حروبا متعددة ففي لبنان على الاخص قامت سبع حروب خلال خمسة وثلاثين عاما اتقدت احداها لمدة سبعة عشر عاما فيما كانت الحروب الاخرى اقصر دواما مع وحشية عنفها وفي جميعها شاهد الناس اقرباءهم يقتلون بالرصاص والمتفجرات وكل مروعات الحروب الحديثة
كيف يتمسك المؤمن بايمانه في مثل تلك الظروف؟ لعل احدى الاجابات على هذا السؤال هى: بذكر الميلاد والصليب فبعد قراءة قصة الميلاد وما احاط بها من وحشية وعنف لن يبقى القارئ غافلا عن مدى امكانية الميل البشرى نحو الشر الفظيع الذى يعود فيطل بوجهه القبيح على الصليب وهكذا في فاتحة انجيله كما في خاتمته يقدم متى صورا واقعية لمدى عمق الشر الذى اتى يسوع للفداء منه وتزيد هذه القصة المريعة من ادراك القارئ لمدى استعداد الله للنزول الى اضعف ما يمكن ان تكون الحال لانجاز العمل الخلاصى وهذا عينه هو جوهر التجسد الالهى في هيئة البشر واذا كانت البشارة المفرحة تزدهر بهذا المقدار في عالم يسمح بذبح الاطفال الابرياء وينتج الصليب فان بشارة الانجيل ذاتها تستطيع ان تنتصر في أي مكان وزمان ومن هذا المنطلق يستطيع قارئ الاناجيل ان يسكن مطمئنا في ثقة وامان

شارك