الدين بين مشاريع التنمية واستبداد النظم السياسية
الجمعة 09/مايو/2014 - 08:12 ص
طباعة
اسم الكتاب: "الدين ووظائفه السياسية" تجربة "مصر– الهند– الولايات المتحدة"
اسم المؤلف: سكوت دابليو هيبارد
اسم المترجم: د. فاطمة نصر
جهة النشر: الهيئة العامة للكتاب
سنة النشر: 2013
يفتتح الباحث الأمريكي "سكوت دابليو هيبارد" والخبير المتخصص في السياسة الخارجية الأمريكية، وسياسات الشرق الأوسط، والعلاقات الدولية- كتابه "الدين ووظائفه السياسية" بحادثتي اغتيال لرئيسين في الثمانينيات: الحادثة الأولى عام 1981 وكانت المنصة في مصر والتي قتل فيها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات على يد متشددين إسلاميين أثناء احتفاله بذكرى نصر أكتوبر 1973، والثانية عام 1984 وكانت في الهند عندما اغتيلت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي على يد اثنين من حراسها من طائفة السيخ.
ويفسر هيبارد في كتابه الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2013 عمليتي الاغتيال نتيجة لتلاعب كل من الزعيمين المقتولين بالسياسة ومصالح شعوبهما عن طريق إعلاء الخطاب الديني الأصولي لحشد الجماهير خلفهما؛ مما رد السحر على الساحر، فكانت نتيجة سياستهما العنف الذي طال الدولة فطالهما معه.
الدين بين التفسيرات المختلفة
وينقسم كتاب "الدين ووظائفه السياسية" إلى 3 أقسام، يحلل فيها الكاتب صعود العلمانية واضمحلالها في 3 دول، هي "مصر، الهند، والولايات المتحدة"، وتتوزع هذه الأقسام على 7 فصول، مبتدئة بفصل نظري تحت عنوان "إعادة تفسير السياسات ذات الصبغات الدينية الحديثة" ويتحدث عن علاقة مفهوم الحداثة والأمة +بالدين وعلاقة السياسة بهم.
وينطلق الكاتب في هذا الفصل من أن هناك تفسيرين لصعود الأصولية الدينية في الدول الحديثة: التفسير الأول "المثال" ويستند فيه إلى أن الدين تصاعد في مواجهة قيم التنوير والحداثة، معتبره عائقا في طريق تقدم الدول، وأنه- أي الدين- مجرد أفكار بالية ومتشددة، وكان هذا التفسير للدين من وجهة نظر الكاتب تبريراً لحملات الحرب على الإرهاب التي قادتها دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تناست أن صعود موجة الإرهاب والتيارات المتشددة قد يكون رد فعل على سياسات الدول الغربية، ومطامعها الاستعمارية، وسياسة هذه الدول الاقتصادية والتنموية الفاشلة التي توغل غيرها من دول العالم في الفقر.
وطرح هيبارد تفسيرا آخر للدين وأسماه التفسير المادي، أي الأقرب الى الماركسية، والذي يرى أن الدول فشلت في تحقيق التنمية؛ بسبب اتباع سياسات اقتصادية بعينها تعتمد على سياسات السوق الحر، ومبدأ "دعه يعمل.. دعه يمر"؛ مما أدى إلى انسحاب الدولة من كل مناحي الحياة العامة، وفشلها في تحقيق الحاجات الأساسية لشعوبها، وهو ما أدى بدوره الى لجوء هذه الشعوب للدين، والتجاء النظم إلى إعلاء الخطاب الديني لحشد جماهير على أسس دينية، بدلا من أسس القضايا الاقتصادية والمشاريع الوطنية التي باتت تفتقدها.
وينتقد هيبارد التفسيرين على أساس أن الدين مهم للسياسة، بقدر أهميتها له، وأن الصراع ليس بين دولة حديثة ودولة دينية، بل إن الصراع يدور داخل الدين نفسه، بين تأويلاته المستنيرة والأخرى المتعصبة، وهذه التأويلات هي التي تحدد شكل الأمة ومعنى الحداثة، ورغم هذا الانتقاد فإن هيبارد لم يمنع نفسه من تبني التفسير المادي في مجمل كتابه، لتفسير صعود العلمانية واضمحلالها في التجارب الثلاثة، خاصة في مصر والهند.
العلمانية بثوب جديد
نهرو
يطرح هيبارد في كتابه ارتباط صعود العلمانية في كل من "الهند ومصر" بمرحلة الاستقلال من الاستعمار، فرأى كل من نهرو في الهند وعبد الناصر في مصر أن بناء دولة جديدة قوية أساسه الإصلاح الاقتصادي والتنمية الشاملة، وأن هذا لن يتحقق إلا بوجود دولة موحدة لا توجد بها انقسامات، وبالتالي إلى نظرة مستنيرة للدين والتخلص من الخزعبلات، واستيعاب الدولة للتنوعات الدينية والعرقية المختلفة في محاولة للإدماج الوطني.
علمانية مصر والهند ليست على قطيعة مع الدين تماما، كما قال نهرو: "ولكنها لا تعني مجتمعا يثبط فيه الدين ذاته، بل يعني حرية الدين وحرية الضمير، بما في هذا حرية هؤلاء الذين قد لا يعتنقون دينا بعينه، يعني المجال الحر لكل الأديان، شريطة عدم تدخلها في شئون بعضها أو في المفاهيم الأساسية لدولتنا".
وإذا كان صعود العلمانية في كلا الدولتين ارتبط بالتنمية الاقتصادية التي تقتضي كفالة حرية الأديان أو الاعتقاد، فقد ارتبطت في الولايات المتحدة بالدين نفسه، وحيث إن الشعوب الجديدة تحتاج إلى رابط يجمعها سواء تاريخ مشترك أو حضارة مشتركة فإن الشعب الأمريكي المتعدد العرقيات والثقافات والمرجعيات القومية- لم يجد سوى الدين كرابط قوي مشترك يجمعهم.
واستمر الصراع بين تفسير ليبرالي للدين يعطي مساحة كبيرة للأفراد داخل الدولة للتحرك وفقاً لمتطلبات العصر من ناحية، والاتجاه نحو قومية أمريكية تقوم على أساس ديني من ناحية أخرى، وهو ما سيحصر الشخصية الأمريكية في إطار ضيق، لكن حسم الأمر لصالح التفسير الحداثي للدين، وابتعد نهائيًا عن الدستور الأمريكي، ومع ذلك فقد ظلت شعارات القومية الدينية أساسا لحشد جماهير الشعب الأمريكي خلف عدد كبير من رؤساء الولايات المتحدة في أوقات كثيرة.
اضمحلال العلمانية
• مصر
السادات
كانت فترة السبعينيات في كل من الهند ومصر تمثل تحولا ناحية استخدام السلطة السياسية للخطاب الديني.
كان اهتمام السادات الأول والرئيسي هو إيجاد ثقل يوازن الأفكار الاشتراكية التي كانت وما تزال تهيمن على الحياة السياسية المصرية، فسعى إلى تشكيل فلسفة سياسية جديدة تربط بين الإسلام والقيم الحضارية العربية من ناحية، وبين برنامج الليبرالية الاقتصادية لحكومته من ناحية أخرى، فيما كان يسعى أيضا إلى تطوير أساس لمشروعية قومية إسلامية التوجه بوضوح، ومن ثم عمد في خطاباته إلى التركيز على الأفكار الأخلاقية الدينية وعلاقاتها بالقومية المصرية لا العربية، بل دمجها معا، واستخدم تلك التيمات كي يدعم بها النماذج التقليدية للسلطة والنظام الاجتماعي، وكان جزء من هذه الإستراتيجية هو تصويره لذاته كشخصية تقية ورعة، حيث أصبح يطلق عليه لقب "الرئيس المؤمن"، وغدا يشارك بانتظام في صلاة الجمعة التي كان التليفزيون الرسمي للدولة يبثها، أيضا تم تصميم سياسات لنشر مظاهر التدين بين الشعب ومعها الاعتقاد "بأن الرعية المؤمنة هي التي تطيع راعيها ووليها".
ويرى المؤلف أن تركيز "السادات" على "الدين" كأساس للدعم الأيديولوجي، قوّض المعايير العلمانية لعهد "عبد الناصر"، وأعاد تعريف الأمة من منطلقات إسلامية صريحة، بشكل متشدد بعيداً عن مبادئ الدين المتسامحة.
وهذه السياسات اتبعها أيضاً نظام "مبارك" وتم استخدام الدين والمشاعر القومية؛ من أجل ترسيخ القبول الأعمى لسلطة الدولة، وهو ما أسهم في أسلمة المجال العام، وأدى إلى خلق بيئة سياسية، خضع فيها الأقباط والمفكرون الليبراليون وذوو الآراء الدينية المخالفة للأغلبية، والمعارضون اليساريون- الى الاضطهاد المنظم بتواطؤ من الدولة.
وقد استخدمت الدولة فزاعة "الأصولية الإسلامية" بشكل جيد طوال تلك الفترة؛ لتكون المبرر لاستمرار إقصاء الشعب المصري عن العملية السياسية، وقمع أشكال المعارضة المشروعة.
• الهند
أنديرا غاندي
لم تبتعد "أنديرا غاندي" في الهند كثيرا عما فعله "السادات"، فعندما فشلت في استكمال مشروع أبيها وتحولت وجهتها عن العدالة الاجتماعية وتخلت عن الفقراء- لم تجد أفضل من الشعارات الدينية لحشد الشعب الهندي خلفها، ففي الوقت الذي ساد فساد نظامها تحالفت هي مع رجال المال والمشاريع الخاصة، فقربت رجال الدين الهندوس لها، وصورت في خطاباتها أن الأمة الهندية تتعرض لخطر التقسيم من الأقليات المسلمة والسيخ، ووصم كل من عارض حكمها بأنه خائن للأمة الهندية ولتعاليم الديانة الهندوسية.
وينتهي الكاتب الى أن كلا من "السادات" و"أنديرا غاندي" وفرا التربة الخصبة لصعود التيارات الدينية الأصولية، فكان تزييف وعي شعبيهما بتصوير أن هناك صراعا ثقافيا وفي الأصل منه دينيا، بدلا من الالتفات الى القضايا الاقتصادية والاجتماعية، فأصبحت جماعة الإخوان القوة الكبيرة بعد الحزب الحاكم، بل ووصلت للحكم في 2012، وصعد BJP الحزب الهندوسي المتطرف الى الحكم في الهند.
وإن كان الصراع السياسي في مصر لم ينتقل إلى شكل الصراع الديني المسلح كما في الهند، إلا أنه أثيرت مؤخرا تساؤلات حول جدوى الحكم الديني في تلبية مصالح الشعوب، خاصة الفقراء والطبقات الكادحة؛ مما يدفعنا للتساؤل حول أن سقوط الإخوان في مصر وحزب BJP في الهند مرحلة أخرى لصعود العلمانية في كلا البلدين؟!
• أمريكا
نيكسون- ريجان- بوش
في حين تراجعت تجربة الهند ومصر خلال فترة السبعينيات، فإن التجربة الأمريكية بدأت مسيرتها في التراجع أثناء الحرب الباردة؛ حيث استغل كل من "نيكسون"، ومن بعده "ريجان" و"بوش" الدينَ؛ لتمرير سياستهم الموغلة في الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، فكان المكون الأساسي لسياسات هؤلاء الرؤساء هو التحول للسوق الحر وإعلاء القيم التقليدية للديانة المسيحية والعداء للشيوعية، غير أن جورج بوش استبدل الشيوعية بالإسلام.
واستخدموا إستراتيجية الاستقطاب الإيجابي التي تسعى إلى تقسيم انحيازات الشعب الأمريكي على أسس ثقافية بدلا من الأساس الاقتصادي.
ويرى هيبارد أن استخدام الخطاب الديني المتشدد في السياسة عبء الجماهير الأمريكية فترة، لكنه أخفق في النهاية، بل وكان توظيف الدين المتشدد سببا أساسيا في إفشال إستراتيجية الاستقطاب الإيجابي.
إستراتيجية مؤقتة
وفي الخاتمة يؤكد المؤلف أن الدين هو ملمح أصيل في صلب الحالة البشرية، له وجوده المستقل بحيث لا يمكن التحكم فيه بسهولة، وأن السياسة تجد أهمية مستمرة في الدين لحشد الجماهير وراء نموذج اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي معين، لكن الإفراط في استخدام السياسة للدين يضر بمصلحة الاثنين معاً.
وبالنظر إلى تحليل "هيبارد" للنماذج الثلاثة التي استخدمت فيها السياسة للدين في "مصر- الهند– أمريكا"- يثبت أن استخدام السلطة السياسية للدين إستراتيجية قد تنفع بعض الوقت، لكنها ستسحق تحت وطأة الحاجات الاقتصادية للشعوب، وتوقهم إلى مشروع تنمية لبلادهم.