المستشرقة الألمانية جودرون كريمر: دحر الإسلام السياسي بقراءة قرآنية نقدية واستنارة إسلامية تراثية
الإثنين 02/مارس/2015 - 02:35 م
طباعة
المستشرقة الألمانية جودرون كريم
يرفض معظم المسلمين بحق استحواذ الجهاديين على دينهم، ولكنْ يصعب في الوقت نفسه الفصل بوضوح بين الإسلام والإسلاموية المتطرفة.. الأستاذة الجامعية الدكتورة جودرون كريمر مستشرقة باحثة في الدراسات الإسلاميَّة في جامعة برلين الحرة تتناول في الحوار التالي مع الصحفي الألماني أولريش فون شفيرين لموقع قنطرة- العلاقة المزدوجة بين الإسلام والعنف، والحاجة إلى تأويل ليبرالي للدين، وترى أن الإسلاموية العنفية ظاهرة عصرية تدحضها القراءات القرآنية النقدية والعودة إلى التراث الإسلامي المستنير.
* بعد الاعتداءات التي وقعت في باريس قال كثيرٌ من المسلمين والمشايخ إنَّ أعمال عنفٍ كهذه لا تمتُّ بصلةٍ إلى "الإسلام". هل يصِحُّ هذا القول بشكلٍ عام؟
- جودرون كريمر: إنَّها حجَّةُ دفاعٍ مفهومة، لكنَّها لا تكفي لأنَّ استناد مجموعةٍ أو شخصيَّةٍ إلى دينٍ لا يمتُّ بالتأكيد بصلةٍ إلى هذا الدين. حقًّا إنِّي لا أرى سببًا يفرض على المسلمين العاديين أن يؤكدوا مرارًا وتكرارًا على عدم وجود علاقةٍ لهم بجرائم القتل، لكنْ ينبغي عليهم إيضاح علاقتهم بالمقولات الإشكاليَّة الموجودة في القرآن وفي السُّنَّة النبويَّة. ولا يمكن في هذا السياق أنْ يكون العثور على الإسلام الحقيقي الوحيد هو الهدف، إنَّما الإقرار بأنَّ المصادر تتضمن مقولاتٍ مختلفةً، لا بدَّ لهم من ترتيبها وتقييمها. الادعاء بأنَّ كلَّ "هذا" لا يمتُّ بصلةٍ إلى الإسلام لا يرضيني.
* هناك بلا ريبٍ تبرُّؤٌ يمتد إلى رجال الدين التقليديين الذين يشرحون بالتفصيل، واستنادًا إلى النصوص المقدسة سبب مخالفة أفعال الجهاديين للإسلام؟
- نعم، هناك عددٌ كبيرٌ من مواقف التبرُّؤ، كما أُدينت أعمال القتل التي وقعت في باريس من قِبَلِ مسلمين وكذلك من قِبَلِ المسلمين في العالم الإسلامي بالإجماع تقريبًا. لا تُسمع هذه الأصوات هنا إلا فيما ندر، وفي كثيرٍ من الأحيان لا تُسمع أبدًا. من أسباب ذلك أنها تُنشر بلغاتٍ غير أوروبيةٍ غالبًا، كالعربية والفارسية والتركية وبالتالي لا تصل عمومًا إلى الرأي العام عندنا.
كما تكمن المشكلة في الوقت ذاته برأيي في أنَّ كلا الجانبين يحاول اصطفاء تقليدٍ مركَّبٍ متعدِّد الأصوات وغير جلِيٍّ دائمًا، إما ليقول بأنَّ الإسلام دين السلام وليس أيّ شيءٍ آخر، أو ليقول بأنَّ الإسلام يطالب بالجهاد باعتباره القتال المسلَّح في سبيل الحق وفي سبيل الله والإسلام. كلا الطرفين يجادل بحجج من القرآن والسُّنَّة النبويَّة، لكنهما لا يعيران التاريخ اهتمامًا.
* يفسِّر كثيرٌ من الجهاديين القرآن تفسيرًا مُبَسَّطًا وينتقون مواضع منفردة، دون قراءتها في سياق النص الكلي وفهمها في سياقها التاريخي.
- صحيح أنَّ الإسلامويين المقاتلين ينتزعون مقولاتٍ من سياقها ويعتبرونها مطلقة. لكنْ أيضًا في الاتجاه الآخر يفعل ذلك أولئك الذين يدَّعون أنَّ الإسلام دين سلام حصرًا. يوجد في القرآن مواضيع شائكة ومُلبسة بالنسبة للقارئ المعاصر، منها مقولاتٌ تخص العلاقة بين الجنسين، وبين المؤمنين وغير المؤمنين، والعنف.
بيدَ أنَّ القرآن وفق القناعة الإسلامية هو كلام الله وبالتالي لا يجوز تغيير صياغته. القرآن وحي وهدى، لكنه ليس كُتيِّب تعليماتٍ خاصًّا بالقانون المدني أو الدولي، أو الأخلاق أو كُتيِّب قواعد مفصَّلة بخصوص السلوك والغذاء. فهم القرآن بهذا المعنى الواسع، يؤدي إلى العدول عن البحث المهووس في ما إذا كانت هذه الجملة الثانوية تفرض هذا الفعل أو ذاك، أو تتطلَّب هذا القانون أو ذاك، أو تنصُّ على هذه العقوبة أو تلك.
* يُطلب من المسلمين في أحيانٍ كثيرةٍ تطوير تأويل حديثٍ. لكنْ أليست الإسلاموية في حدِّ ذاتها ظاهرةً حديثةً بجلاء؟
- نعم، هي كذلك. غالبًا ما تعني كلمة "حديثٍ" اليوم باختصار مجتمعًا ليبراليًا وتعدديًا منفتحًا، يسمح بالشك والنقد والسخرية، دون الشعور مباشرةً بأنَّ ذلك يصيبه في الصميم. ولكن من المعروف أنَّ الفاشيَّة والنازيَّة والاستبداديَّة كانت "حديثةً" أيضًا. وللتَّوطُّن في مجتمعٍ تعدديٍ منفتحٍ لا بدَّ للمسلمين من أنْ يجدوا مدخلاً إلى الإسلام يسمح بالشك والنقد والسخرية. ولكن كلما انحصرت نظرتهم إلى القرآن، بصفته الأساس المُلْزِم الوحيد، ازدادت صعوبة ذلك. ومن شأن إلقاء نظرةٍ على التاريخ الإسلامي، الذي كثيرًا ما قدَّم أمثلةً براجماتيةً، أنْ تكون مفيدةً.
* إذا تمَّ الإقرار والقبول بتعددية التأويل كما يطالب الإصلاحيون الليبراليون، وبأنَّه لا يوجد إسلامٌ حقيقيٌّ واحدٌ، ألا يؤدي هذا إلى ارتباك؟
- بلى، بالتأكيد، لكن لا مناص من ذلك. فإما أنْ يقال: إنَّ هناك رسالةً مُلْزِمَةً تقدمها سلطةٌ مركزيةٌ، ومن شأن هذا الحل أنْ يكون الأسهل، أو يسمح بتعدد المعنى وبالشك ويُعتمد على فتح باب الاجتهاد. في المواجهة المباشرة مع الجناة ذوي الدوافع العقائدية المستعدين لاستخدام العنف يكون الموقف الأخير أضعف بالتأكيد. لكنَّ التاريخ الأوروبي بالذات، يبيِّن أنَّ المنهج المَرِن والمنفتح كان ولا يزال أكثر قوةً على الأمد الطويل، ومن دونه لا وجود لمجتمعٍ حرٍّ على أيَّة حال.
* نظرًا لعدم إمكانية إنكار أنَّ الجهادية شكلٌ من أشكال الإسلام من حيث المبدأ الآن- رغم أنها شكلٌ أيديولوجيٌّ مُفْرِط- كيف يتعين التعامل معها بشكل ملموس؟
- أرى أنَّ هناك خيارين. من جهة، يتضمَّن التقليد الإسلامي مواقف رزينةً لا تعتبر نفسها مُطْلقةً، من شأنها أنْ تكون مفيدةً جدًّا في الوقت الحاضر. هناك قولٌ مأثورٌ لعلّامةٍ كبيرٍ لا يزال يحظى بالاحترام حتى اليوم، مفاده: "قد أكون على حق، وربما يكون الآخر على حق، إنما يبقى العلم عند الله".. وهي مقولة الإمام الشافعي الشهيره: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". بالتأكيد، يستطيع المرء أنْ يكون على قناعةٍ بوجود حقيقةٍ وحيدةٍ، طالما أقرَّ بأنه ليس من حقه أنْ يحتكرها.
ومن جهةٍ أخرى، يجب على المعتدلين التعامل بنقدٍ مع مقولات القرآن التي يستند إليها دعاة العنف، ولا بدَّ لهم من تقديم برهان إسلاميٍّ على رفض العنف إزاء مخالفي الرأي ومختلفي الديانة. ويمكن بالتأكيد تقديم الحجج على أساسٍ قرآنيٍّ، عبر سعي الإنسان للحقيقة، دون أنْ يفرض رأيه الخاص على الآخرين، ناهيك عن رفع السيف عليهم. لكن فيما يخص بعض المقولات، يجب برأيي الوصول للاستنتاج القائل بأنَّها ليست مرشدةً في عصرنا الراهن بالرغم من وجودها في القرآن.
* هناك بالفعل، كما ذكرت من قبل، جهودٌ تُبذَل في سبيل تحديد المواضع الإشكالية في القرآن وإبراز نسبيتها. لكن هل من شأن الجهاديين أن يتأثّروا بمثل هذه الحجج الفقهية؟
- أعتقد أنَّ مرتكب أعمال العنف الإجرامية المتعنِّت، لا يتأثّر بمثل هذه الحجج، وبالأخص عندما يريد إثبات رجولته. ولا أتوقع نجاح استخدامها في مواجهة مقاتلٍ من "تنظيم الدولة الإسلامية"، حتى وإنْ كانت مرجعيات دينية معترف بها مثل الأزهر في القاهرة مصدر هذه الحجج، فمعظم الجهاديين يعتبرون أنَّ هذه المرجعيات قد تمَّ شراؤها من قبل الأنظمة، وأنَّ الرجال المسنِّين الذين ينتمون لها يخضعون للغرب، وبالتالي لا يمكن أن يتأثّروا بهم.
لكني أعتقد أنَّ ما من شأنه أنْ يُحدث تأثيرًا، هو التعليم المدرسي في مرحلةٍ مبكرةٍ بأنَّ القرآن نَص وحيٍ مفتوحٍ للتأويل، وليس كتاب قانون يفرض قيودًا شديدةً على حياة المسلمين اليومية. يمكن أنْ يفعل الفقهاء ذلك، ولكن أيضًا أشخاص لهم تأثيرٌ على الناس، ومعروفون بأنَّهم قدوة للجيل الناشئ. بَيْدَ أن ذلك قلَّما يمكن أن يحدث في بيئةٍ استبداديةٍ. كيف يمكن توقُّع تعزيز روح الانفتاح والشك والتضاد في المسائل الدينية في دولةٍ ذات حكم سلطوي؟!
* هل ترتبط ظاهرة الجهادية بالدين أصلاً، أليس لها بالأحرى أسباب اجتماعية وسياسية؟
- هناك دائمًا مزيجٌ من الأسباب. المشاكل الاجتماعية ليست موجودة بطبيعة الحال في البلدان الإسلامية وحسب، بل أيضًا في الدول الغربية، وتدفع جزءًا من جيل الشباب إلى الاعتقاد بأنه غير مرغوب به هنا، إنَّ عليه ممارسة العنف بغية كسب الاحترام المحروم منه. وجود التمييز ليس سرًّا بالتأكيد. بَيْدَ أنَّ النساء والرجال الذين يلتحقون بالجهاديين لا ينتمون مع ذلك حصرًا إلى الطبقات المهمّشة، بل هناك أيضًا أبناء وبنات أسرٍ من الطبقة المتوسِّطة التي تعتبر سليمة؛ لذلك لا ينبغي أنْ يقتصر الاهتمام بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية فقط.
* هل المسلمون غاضبون في الواقع من الرسوم الكاريكاتورية بسبب السخرية من النبي؟ أم أنهم غاضبون بسبب عدم احترام مشاعرهم الدينية؟
- المسلمون في معظمهم مقتنعون بأنه لا يجوز إهانة النبي وتشويه صورته.. هذا ينطبق أيضًا على الأنبياء الآخرين الذين يحترمهم الإسلام مثل النبي عيسى، كما أنهم يرون في الوقت ذاته أنَّ هناك تقصُّدًا لجرحهم عبر الإساءة للنبي. لا بد من حماية حرية الإعلام، وهذا يشمل الرسوم الكاريكاتورية والسخرية. لكننا نضع بلا ريب حدودًا في موضع آخر؛ لذلك لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ في ألمانيا أنْ يتهكم على اليهود أو الهولوكوست، وذلك لأسبابٍ وجيهةٍ ومعروفةٍ.
المطلوب برأيي رَهَافَةٌ وحِكمةٌ مماثلةٌ تجاه المسلمين. هل يتعيَّن عليَّ بالفعل أنْ أجرح الناس مرَّةً تلو أخرى، وبالأخص في الموضع الذي يؤلمهم؟ ألا يمكن أنْ تكون مشاعر الطوائف الدينية الأخرى مختلفةً عن مشاعر المسيحي العادي- علمًا بأنَّ كثيرين من المسيحيين المتدينين يلاقون صعوبةً في تقبُّل الرسوم الكاريكاتورية الهازئة بالمسيح. لطالما يُقال إنَّ على المسلمين أن يتعلَّموا تحمُّل السخرية الجارحة أيضًا. نعم، لا بدَّ لهم من ذلك، ولكن لأيِّ غرض؟ أعتقد، إذا كنت أريد كسب المسلمين ودفعهم لمراجعة دينهم وتراثهم بشكلٍ نقديٍّ، يكون من المجدي أنْ لا أستهدف مواضع الألم مرارًا وتكرارًا.