أضرار غلق باب الاجتهاد من منظور سلفي

الخميس 05/مارس/2015 - 11:36 م
طباعة أضرار غلق باب الاجتهاد
 
• الكتاب -  السلفيون والأئمة الأربعة
• تأليف- أبو عبد لله (عبد الرحمن عبد الخالق)
• الناشر: دار العلم ببنها
 هذا الكتاب صغير الحجم.. لكنه يطرح عددًا من القضايا المهمة، من بينها قضية الثابت والمتغير في الدين، فيقول الكاتب أصاب المسلمين ضرر عظيم من فهم بعضهم الخاطئ لقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) هذه الآية من القرآن وما يشهد لمعناها من الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وحكموا على كل إضافة في الدين بالبطلان والرد، وبذلك عطلوا بابًا من أعظم أبواب الإسلام وهو باب الاجتهاد التطبيقي، ووقفوا جامدين أمام مشكلات التطبيق وتغير الأحوال، وقام  إزاء هؤلاء طائفة أخرى زعموا أن كل قول في الدين صدر عن إمام أو عالم فهو حق لأنه من الدين، وقد يكون مستنداً إلى الدليل وبذلك أصبح الدين عند أولئك واسع سعة كل الفتاوى والآراء والأقوال التي صدرت عن مجتهدين، ووسع هؤلاء الاجتهاد أيضًا حتى شمل العقائد والعبادات والأخلاق، وبذلك صار الدين عند هؤلاء مسخاً مشوهاً لا تناسق فيه بأي وجه من الوجوه بل في كل قضية رأيان وثلاثة وعند هؤلاء أن كل هذه الأقوال صواب يجوز للمسلم أن يأخذ رأياً منها وأن يعمل به.

بين التضييق والتوسيع:

بين التضييق والتوسيع:
وبين الفئة الأولى التي وقفت عند النصوص فقط بلا فهم ولا وعى لمتطلبات تطبيقها، والتي جعلت أبواب الدين كلها بابًا لا يجوز الزيادة فيه والاجتهاد، وبين الفئة الثانية التي جعلت كل رأى صدر من عالم ما يجوز العمل به. أقول بين هاتين الفئتين قامت المعارك الكلامية والمناقشات واستخدمت الآيات والأحاديث وأُولت تأويلاً بعيداً وشغل المسلمون ومازالوا مشغولين.. وقد غاب عن هؤلاء وهؤلاء بعض القواعد والموازين التي تضع الحق في نصابه وهذه القواعد تتلخص في وجوب التفريق بين الثابت والمتغير من أمور الدين وهاك هذه القواعد:
أولاً: الله سبحانه وتعالى هو الحق وكل ما صدر عنه من خير فهو صدق وكل ما صدر عنه من حكم فهو عدل كما قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلا)
وكلمة مفرد مضاف إلى معرفة فتعم أي كلمات، وصدقاً أي في الأخبار وعدلا أي في الأحكام)، فالكتاب الموحى به للنبي صلى الله عليه وسلم والسنة الموحى بها إليه أيضاً كلها حق ومن ظن غير ذلك فقد كفر وهذه أول الثوابت.
ثانياً: القرآن نزل بلسان عربي، والسنة نقلت إلينا باللسان العربي وللعرب تصريف بليغ في كلامهم ودلالات الألفاظ مختلفة أحياناً والمعاني تختلف أيضاً باختلاف صيغ التراكيب من التقديم والتأخير والحذف. وأفانين لقول العربي  واستخدامه لأنواع من الكنايات والتشبيهات والاستعارات كل هذا يجعل الحذق والفهم للنصوص القرآنية والحديثية متفاوتاً عند الأفراد ولا يقول عاقل أن فهم الناس جميعاً لنصوص الكتاب والسنة بدرجة واحدة وهو يشاهد ثقافتهم واستيعابهم وفهمهم لأساليب اللغة وتراكيب الكلام وأفانين القول ولهذين السببين تفاوت الناس في الفهم هذا مع العلم أن الصل واحد والحق واحد لا يتعدد. وهذه ثانية الفهم متغير بتغير الأفراد والحق واحد لا يتغير بل الفرد الواحد يتغير فهمه في النص الواحد بتغير الزمان والوقت فأنت قد تفهم الآن آية على نحو ما، ثم تفهمها على نحو مخالف تماماً في وقت آخر، وقد تقرأ آية دهراً من عمرك ثم ينشأ لك فيها فهم جديد ما خطر ببالك قط. وهذا عمر ما كاد يسمع قول الله من فم أبى بكر الصديق " إنك ميت وإنهم ميتون" حتى قال والله لكأني ما سمعتها إلا الساعة والحوادث في هذا الباب كثيرة وليراجع كل منا نفسه في هذا والشاهد أن الفهم يتغير ويختلف باختلاف الأفراد والحالات والحق في ذلك كله واحد لا يتعدد. والموفق إلى الحق من وفقه الله تعالى.
ثالثاً: علوم الإسلام تنقسم إلى قسمين بوجه عام قسم نستطيع أن نسميه القسم الثابت الذى لا يقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة وهذا القسم هو العقائد ( مسائل الإيمان)، والعبادات (أركان الإسلام) والأخلاق " مجموعة الفضائل الخلفية" كالصدق والإحسان والشجاعة و....الخ) هذه الأمور هي الثوابت في الدين ولا يجوز أن نجرى عليها قط أمور الاجتهاد والإضافة فصفات الله سبحانه وتعالى والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر وغير ذلك من مسائل الغيب لا وجه في هذا مطلقاً لأى إضافة جديدة لأنه لا وصول إلى علم جديد في هذا إلا بالوحى ولا وحى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو خلافنا الأساسي مع التصوف، فالمتصوفة قد ركزوا ترهاتهم وخزعبلاتهم وكشوفاتهم المزعومة في كشف حقائق هذه الأشياء في ظنهم ولذلك بقول قائلهم: أطلعنا على الجنة والنار ورأينا كذا وكذا مما لم يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول الآخر أصعدني  الله إلى سماواته فرأيت كذا وكذا ويقول الآخر التقيت بالملائكة وشاهدت كذا وكذا ويقول الآخر: نزلت الأرض السفلى ورأيت وسمعت الخ هذه الافتراءات والخزعبلات وهذا الباب الغيبي لا يفتح أصلاً إلا بالوحى ولا وحى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. 

العبادات:

العبادات:
وأما العبادات أيضاً فلا يجوز الإضافة فيها، لأن الإضافة مبطلة فالصلوات من فرائض ونوافل لا يجوز الزيادة فيها على المشروع فركعة مضافة على الركعات الأربع تبطل الصلاة واستحداث نافلة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم  يصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في  أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وكذلك إضافة هيئات جديدة أو صور جديدة لأى نوع من أنواع العبادة.
باختصار: لا جديد في الصلاة والصوم والحج وفى فرضيات الزكاة ويجب أن يبقى كل ذلك على الصورة والنحو المشروع.
كذلك الأخلاق وتربية النفس لا يجوز تغير هذه الموازين وإلا اختل نظام الأخلاق وأصبح الحق باطلاً والباطل حق.
هذه الأمور الثلاثة هي من قسم الثوابت في الدين وكل إضافة فيها تدخل في أبواب الابتداع. وإن كان هناك ثم اجتهاد فيها فهو اجتهاد في الأخطاء والضرورات التي تقع لبعض الأفراد كمن نسى ففعل كذا أو أخطأ ففعل كذا أو اضطر ففعل كذا ففي هذه الأبواب من الخطأ والنسيان والضرورة ينحصر اجتهاد المجتهدين وكل ذلك في هذه الأبواب الثلاثة (العقائد، والعبادات، والأخلاق).
الإنسان مدني بطبعه 
 رابعاً: (الإنسان مدنى بالطبع) هذه الكلمة التي أطلقها ابن خلدون تصف حقيقة بشرية وهى أن البشر يحتاجون أن يعيشوا في مدن وفى تجمعات. ومع اجتماع البشر وتكاثرهم ونماؤهم تتعدد معاملاتهم وتعظم مشكلاتهم وينشأ أحياناً الصراع بينهم بدلا من التعاون في سبيل حفاظهم على ذواتهم أو حبهم لها، ووسط هذا التعاون الضروري والصراع الدائم تتشابك المعاملات وتختلف المصالح ولو خلى الله بين البشر وأنفسهم لأكل بعضهم بعضاً ولساد قانون الغاب، ولكن الله من رحمته أرسل الرسل معلمين وهادين ومرشدين وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط والموازين التي أنزلها الله قاضية بالعدل بين الناس وقد أكمل الله أصول هذا العدل في كتابه القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل ما ينظم علاقة الرجل بالمرأة والمسلم بأخيه من بيع وهبة والحاكم بالمحكوم والمجتمع بالمجرم الخارج عليه. وكل ذلك في نظام بديع لو أقامه الناس لأقاموا سعادتهم على الأرض.

أضرار غلق الاجتهاد:

يقول الكاتب  القول بقفل باب الاجتهاد  وانحصار الفقه فقط في الأئمة الأربعة أضراراً عظيمة نحصرها فيما يلى:
أولاً: القول بالتقليد وترك البحث عن الدليل وبذلك تعطل الفقه والفهم  وانحصر هم  طلاب العلم في معرفة أقوال إمامهم فقط، دون النظر في أدلته ومقارنتها بأدلة الأئمة الآخرين.
ثانياً: التعصب والتنافس بين تلاميذ المذاهب المقلدين والذى دفعهم إلى الوقيعة والتباغض والتقاتل والتاريخ شاهد بذلك بل وترك الصلاة وراء بعضهم البعض. فقد ترك مقلدو كل مذهب الصلاة خلف مخاليفهم في المذهب.
ثالثاً: القول بأن الآراء المختلفة والمتناقضة في المسألة الواحدة كلها حق وهذا أمر يحيله العقل لأن الشيء الواحد أما أن يكون أسود أو أبيض أو حلالا أو حراماً ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد حلالا وحراماً في وقت واحد ولشخص واحد. أو يكون الشيء الواحد باطلاً وصحيحاً.. وكل هذا أنى من القول بالتقليد الذى استلزم القول بصحة الأقوال والاجتهادات التي صدرت عن الأئمة جميعاً.
رابعاً: حرمان الأمة من كثير من الأقوال الصحيحة والنصوص الصحيحة التي خالف الأئمة الأربعة فيها مجتمعين الحديث الصحيح كطلاق الثلاث هل يقع ثلاثاً أو واحداً فبينما يقول الائمة الأربعة جميعاً أنه يقع ثلاثا وبذلك من قال لأمرأته ( أنت طالق ثلاثا) فأنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. مع العلم أن الحديث الصحيح بخلاف ذلك فقد كان الطلاق ثلاثا يقع واحداً في زمن رسول الله وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر. وهذه المسألة أفتى بها الإمام ابن تيمية رحمه الله وكانت السبب في اتهامه بالكفر والردة بناء على أن الدين فقط هو ما قاله الأئمة الأربعة وأنه ليس هناك دين وراء ذلك.
خامساً: حرمان الأمة من البحث والاستنباط عن أحكام الوقائع المتجددة. وقد ذكرنا هذا في صدر هذه الرسالة المباركة إن شاء الله وبذلك ركد الفهم وبار سوق الاستنباط والعلم بالكتاب والسنة. وسبب هذا في النهاية عزل الشريعة عن حياة الناس والتقنين لهم.
سادساً: اتخاذ التقليد ديناً أدى إلى تشديد النكير على كل من قال بالاجتهاد ووحدة الفقه وأخوة الأئمة ووجوب الأخذ بعلمهم جميعاً والترجيح بين أقوالهم واتهم كل من قال بذلك بمخالفة إجماع الأمة والخروج على جماعتها. واقول بأنه بسبب الأئمة أو ينتقص مقدارهم ويحط من شأنهم.
سابعاً: ظن الناس أنه يجوز لكل مسلم أن يأخذ رأى إمام ما من الأربعة ولو كان النص بخلافه وبذلك ارتكبت كثير من المخالفات.
ثامناً: نشوء ضعف الوازع الديني بأن المكلف إذا وعظ بالآية وعلم أن هذا كلام الله أو ذكر بالحديث وعلم أن هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهذا شأن عنده بعكس ما لو قيل له هذا رأى الإمام فلان أو الإمام فلان وبذلك نشأ عند كثير من المسلمين ضعف الوازع الديني والذى نشاهده في التحايل على الأمور الشرعية.
تاسعاً: نشأة التلفيق وهو الاتجاه إلى جمع الرخص والتسهيلات الموجودة في المذاهب وبذلك ينشأ التهاون وارتكاب كثير من المخالفات وذلك بتتبع الأقوال التي تناسب هوى كل إنسان من كل مذهب ولو كان الاحتكام إلى الدليل من الكتاب والسنة لما وجد هذا.
عاشراً: تعظيم الأئمة إلى الحد الذى رفعهم إلى نسبة العصمة لهم وعدم جواز الخطأ عليهم. ولذلك نرى كثيراً من العلماء لا يجرؤ أن يقول أخطأ الإمام في هذه المسألة مع العلم أنه يرى النص بخلاف الفتوى، وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى رد الآية المحكمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى خوفاً من مخالفة الإمام وهذا إن لم يكن شركاً بالله فهو ذريعة إلى الشرك وتقديم غير أمر الله على أمره. هذه أضرار قليلة سردناها سريعاً اصابت الائمة من القول بقفل باب الاجتهاد ووقوف الفقه والاستنباط عند حد الأئمة الأربعة فقط، وثمة أضرار أخرى لا يتسع لها المجال.

شارك