حوارات الأديان من المجاملات لحصد الثمار
السبت 25/أبريل/2015 - 06:11 م
طباعة
الكتاب ( الإسلام والمسيحية ..من التنافس والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم )
تأليف " أليكسى جورافسكي" ترجمة "د. خلف محمد الجراد"
ستظل مشكلة الحوار بين الأديان قضية محورية لسنوات كثيرة قادمة؛ حيث يرى الراغبون في العيش المشترك أنها السبيل الوحيدة لتحقيق كل مبادئ التسامح ونبذ العنف. في حين أننا لا ننكر أن هناك فريقا آخر من المتشائمين لا يجدون فائدة ترجى من هذا الحوار لأنهم يتعجلون النتائج وحصد الثمار سريعا أو يضعونه في إطار المجاملات الباهتة بلا عمق أو جدل حقيقي مفيد. وفي كتاب الباحث الروسي أليكسي جورافسكي "الإسلام والمسيحية: من التنافس والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم"، يتوقف الكاتب ليحدد ويضبط مفهوم الحوار، الذي يشكل الركيزة الكبرى والهدف الجوهري العام لهذا المؤلف. معتمدا في مقاربته المنهج التاريخي- الثقافي، الملائم لهذه الدراسة أكثر من غيره من المنطلقات والمناهج. وبرأيه فإن الحوار الإسلامي- المسيحي في ملامحه الكبرى، ليس إلا عملية تفاعل ثقاف]- تاريخي جرت وتجري بين الشرق والغرب. وهو لا ينطلق من فراغ في معالجته لمثل هذه المسألة المهمة، وإنما يعود إلى مجموعة ضخمة لمؤلفين رواد سبقوه في وضع أقدامهم، ومن ثم لبناتهم في البناء الذي يرتفع عاليا في ميدان الدراسات المهتمة بقضايا الحوار والتقارب والتفاهم بين الحضارات والشعوب والأديان. ومع ذلك، فإننا نتفق معه بالقول: إنه لم تجر إلى الآن سوى محاولات علمية قليلة لمناقشة هذه المسائل من باب علم اجتماعيات الدين. والمؤلف يستعرض بدقة تأريخية- تحليلية عظيمة مراحل العلاقة بين الإسلام والمسيحية، بدءاً من ظهور الإسلام، مع تركيزه على المرحلة الإسلامية الأولى، حيث لعب المسيحيون السوريون دوراً وسيطاً مهماً جداً في الاتصال الثقافي بين الغرب والمشرق العربي.
الصدمة الأولى
ولكي يدرك القارئ طبيعة الموقف الغربي أو ملامح "الصدمة الأولى" لظهور الإسلام، يفرد المؤلف فصلاً للحديث الموثق عن صورة الإسلام في الفكر الديني- الفلسفي الأوروبي. حيث كان تأثير الإسلام قد عم ميادين الحياة الأوربية المختلفة في القرون الوسطى، بما في ذلك: المعيشية والتجارية- الاقتصادية والسياسية والأدبية والعلمية والفلسفية.
ثم يتوقف مطولا عند نماذج من التصورات الأوروبية، التي عدت ظهور الإسلام "تحديا" يتطلب ردًّا ومقاومة وتدميراً. ورغم تلك المواقف الارتكاسية من طرف بعض أدباء أوروبا ومفكريها وهيئاتها الكنسية، فقد شهدت القرون الوسطى أوسع مثاقفة بين الجانبين، وكان الأوروبيون الأكثر اقتباسا من آداب العرب المسلمين وعلومهم وأساليبهم التأليفية. ويدلل جورافسكي على صحة ذلك بفصل يستند إلى عشرات المصادر والمراجع الغربية. وفي موضع آخر يكشف المؤلف عن الصورة المرسومة للإسلام والمسلمين في الوعى الأوروبي (أواخر القرون الوسطى). إذ إن موقف مسيحية أوروبا من الإسلام في تلك المرحلة حددته محطتان رئيستان: أولاهما، ضرورة التعلم منه، كونه الأقوى والأعلم من جهة، والثانية، التصارع معه والتصدي له كعقيدة غريبة ومعادية من جهة أخرى.
وضمن هذا التوجه الأخير ظهرت مدارس ترجمة القرآن وكتب المجادلة مع المسلمين في الحواضر الأوروبية الكبرى، ونزعات التبشير بالمسيحية بين المسلمين. ومن ذلك أن مطران طليطلة الفرنسيسكانى ريموند لول وضع خطة مفصلة لإعداد الكوادر التبشيرية المحترفة، وأقام لتحقيق هذه الغاية مراكز تعليمية متخصصة. ونستنتج من خلال ما نقله جورافسكي من مواقف وآراء أن تصورات المسيحيين الأوروبيين حول المبادئ العقيدية للمسلمين لم تكن واحدة، بل تحمل ألواناً وتوجهات غير متطابقة.
ثم يناقش المؤلف الأنماط الذهنية المتكونة عن الإسلام في الوعي الأوروبي في العصر الحديث. حيث إنه بدءاً من القرن السادس عشر أصبح المفكرون المسيحيون في أوروبا يعودون إلى مبادئ الإسلام، ليس بهدف المناظرة والمساجلة معه مباشرة، بل من أجل استخدامها وسيلة في المجادلات اللاهوتية والفلسفية والمذهبية المحتدمة فيما بينهم.
عصر الأنوار
ويستعرض المؤلف بدقة عالية وروح موضوعية فائقة مصنفات ودراسات أوروبية كثيرة ظهرت في ذروة عصر الأنوار (القرن الثامن عشر)، ومع ذلك فإنها كانت مشحونة بالمواقف والقوالب النمطية- الدوغمائية، التي شاعت في القرون الوسطى. ويبين المؤلف كيف أن ما يسمى بـ"علم الإسلاميات" الغربي ولد في أحشاء المخططات الاستعمارية الاستراتيجية لتقاسم العالم. أو أنه تزامن على الأقل مع ارتفاع الأصوات الأوروبية، الداعية إلى "استعادة السيطرة على الأراضي المقدسة" و"تحريرها" من أيدي "مغتصبيها المسلمين".
على أننا نرى أن أهم فصلين في الكتاب ضمن التوجه الحالي للحوار الإسلامي- المسيحي، يتمثلان في الدراستين المعمقتين للمذهب الديني- الفلسفي عند الفيلسوف المسيحي- الروسي (الأرثوذكسي) فلاديمير سولوفيوف، ورؤية المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسينيون، الذي يمثل" علم الإسلاميات" الكاثوليكي حول الإسلام وطبيعة العلاقة بينه وبين هذه الديانات الإبراهيمية الثلاث.
وإذا كانت المباحث المشار إليها يمكن أن تصنف ضمن منهج تأريخ المواقف الفكرية للعلاقة التنافسية- التصادمية بين المسيحية والإسلام (عدا سولوفيوف وماسينيون، بوصفهما ممهدين للحوار بين الأديان التوحيدية الثلاثة)، فإن الفصول اللاحقة (بدءاً من الفصل السادس) تجسد المواقف العملية، وتحلل الوثائق الخاصة بالحوار الإسلامي- المسيحي، لا سيما الرؤية الكاثوليكية؛ (نظراً لأنها المذهب المسيحي الغالب في أوروبا الغربية) المعاصرة لطبيعة الحوار مع الإسلام.
رأي الكاثوليكية
ومن أبرز التوجهات الجديدة لهذه الكنيسة، محاولة الاستقلال عن ظاهرة التطابق بينها وبين الثقافة الغربية، حيث صرح أكثر من بابا، وفي مناسبات ومؤتمرات رسمية بأن "التحول في ما يخص العلاقة بين الغرب والكنيسة الكاثوليكية أصبح حتميا". وبفضل هذا الكم من الوثائق يستطيع القارئ العربي أن يقف لأول مرة، وبشكل موضوعي على رأي الكنيسة العالمية (الكاثوليكية) المعاصرة، بشأن الموقف الجدي المتفهم من قضايا الشعوب الأفرو- آسيوية وتقاليدها الوطنية وثقافتها القومية، وحتى دياناتها وعقائدها الخاصة. ونخص في هذا المجال الدراسة القيمة، التي تضمنها الكتاب حول قضايا ومسائل الإسلام في المجتمع الفاتيكاني الثاني، (1962- 1965) حيث أشار الكاتب إلى الطابع الإيجابي (للمرة الأولى خلال أربعة عشر قرنا)، الذي تحدثت من خلاله قرارات المجمع المذكور وبياناته وتصريحاته عن الإسلام والمسلمين. إلى درجة أنه أيد الوصف الذي أجمعت عليه المطبوعات الكاثوليكية عندئذ بخصوص الموقف الجديد للكنيسة تجاه الإسلام، حيث شبهته بـ "الانقلاب الكوبرنيكي". وهى مقارنة غير مبالغة، إذا أخذنا بالحسبان، أن رسالة البابا بيوس الثاني عشر في نهاية الخمسينيات من هذا القرن (1957) رأت في انتشار الإسلام في إفريقيا "خطراً على الكنيسة"، وكانت بعض المؤلفات التوجيهية الأخرى تنظر في أواسط القرن الحالي إلى نشاط الإسلام بوصفه "كارثة" تضاهي "كارثة الشيوعية".
وبغية رسم لوحة دقيقة عن تطور الآراء والنزعات والاتجاهات داخل المجمع الفاتيكاني الثاني، ينقل جورافسكي إلى القارئ الأجواء المحيطة باللجان وتشكيلاتها، والتيارات الأساسية في المجمع، وأخيراً التصريح النهائي الصادر عنه بعد مناقشات مستفيضة حول "علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية"، مفصلا في ظروف الفقرة الخاصة بـ"الديانة الإسلامية". إذ يحلل كل عبارة وردت في تلك الفقرة، والملابسات التي رافقت عملية إعدادها. مشيرا- بحق- إلى أن مشكلة "صدقية" الوضع النبوي لمحمد، هي واحدة من الإشكاليات المزمنة في الحوار المعاصر بين المسيحية والإسلام. وفي موضع آخر يقدم المؤلف عرضا لأهم نقاط الاختلاف ونواحي الالتقاء والتفاهم بين الديانتين المذكورتين.
مركزاً على فكرة محورية طرحها أكثر من باحث ومتخصص، تتمثل في أنه "إذا كان المسيح يحتل منزله مركزية في المسيحية، فإنه يحتل نفسها تقريباً في توجه القرآن إلى المسيحيين". ومن ناحية أخرى، يتابع المؤلف بصبر رائع هذه المسألة المعقدة، من خلال استعراض جملة الملتقيات والندوات والحوارات الإسلامية- المسيحية بعد المجمع الفاتيكاني الثاني- وكلها تدعو إلى "التقارب والتفاهم المتبادل".
وقد أنشئت لجان دائمة لمتابعة هذا الحوار ومعاهد متخصصة ومجلات ومطبوعات دورية تتابع هذه المسألة بصورة يومية دقيقة. ورغم ذلك كله، فالمؤلف يأخذ على الحوارات والملتقيات الكثيرة أنها "نخبوية" الطابع، ولا تحصل على مستوى جماهيري.
ومن أجل أن لا ينحصر موقفه في ملاحظات انتقادية تعقيبية، يقدم جورافسكي مساهمة قيمة- من وجهة نظرنا- في الأسس والنواحي الاجتماعية- الثقافية، التي يجب أن يقوم عليها الحوار الإيجابي الفعال بين المسلمين والمسيحيين.
ويُنهي المؤلف كتابه بفصل مطول عن مسيحيي الشرق الأدنى في ظل أغلبية إسلامية. بدءاً من ظهور الإسلام، ومروراً بالقرون الوسطى، وانتهاء بوضعهم في النصف الثاني من القرن الحالي، مع إعطاء تحليلات رقمية إحصائية لكل تجمع- مذهبي على حدة.
ويفرد بحثا خاصا يضمنه رأي عدد من كبار دعاة النهضة والتنوير المسيحيين العرب في أساليب وطرق التخلص من التشرذم الطائفي والمذهبي، والانخراط في الحركة القومية العربية، التي لا تفرق في منطلقاتها وأهدافها بين مواطن وآخر، تبعا لانتمائه العرقي والطائفي والمذهبي، ويسلط الضوء على آرائهم، التي روجت عبر مجموعة واسعة من الصحف والمطبوعات الدورية والمؤلفات الموسوعية الأساسية في مسائل وإشكاليات يعانيها مجتمعهم العربي، مثل اللغة المستخدمة في طقوس الكنائس، ومشكلات العلمنة، والقومية، ودين الدولة...إلخ، ويعطي الرواد المسيحيين القوميين حقهم من التقدير، عبر حديثه عن أيديولوجية العروبة في ضوء مسألة العلاقات الإسلامية- المسيحية في المنطقة العربية، مستنتجا أن مستقبل المسيحية في البلدان العربية، مشروط بانخراطها الكامل في حياة هذه البلدان، وأن تكون جاهزة لتحمل المصير نفسه مع المسلمين، مهما كان هذا المصير، دون بناء أوهام زائفة على الغرب، الذي لا يهمه سوى مصالحه الاستراتيجية التي تستفيد بصورة واسعة ومجانية من "العزلة الطائفية" ومن المشاعر السلبية و"عصاب الأقلية"، ومن "الشعور بالتفوق" و"الهيمنة" و"التفرد" بالوطنية على "الآخر" أيضاً، الذي يتحول بين فترة وأخرى إلى اعتداء ومطاردة وحتى إلى "التهجير الجماعي" والاتهام بـ"العمالة والخيانة".
ومن جانبنا، فإننا نعتقد أن كتاب "المسيحية والإسلام" يمهد لإرساء أسس موضوعية لا طائفية لحوارات حقيقية؛ من أجل مزيد من التقارب والاحترام المتبادل والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين من جهة، وبين الديانات والحضارات والعقائد البشرية جمعاء من جهة أخرى. كما نتوقع أن يحظى هذا الكتاب بالاهتمام الذي يستحقه من القارئ العربي الواعي، لا سيما أنه يفتح آفاقا جديدة لمقاربة هذه المسألة المعقدة في تاريخنا وثقافتنا وحياتنا اليومية الراهنة؛ لذلك لا بد من تعميم قراءته قبل دخول المؤتمرات المتكررة لحوارات الأديان.