عبد الاله بلقزيز.. من نقد التراث الى نقد العقل
الخميس 07/مايو/2015 - 02:19 م
طباعة
العنوان: نقد التراث
-المؤلف: عبد الإله بلقزيز
-الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
-الصفحات: 464
-الطبعة: الأولى، 2014
ان المسألة الدينية قد ألقت بظلالها على تفكير وعقول الكثير من الباحثين والمفكرين العرب بالرغم من اختلاف طرق التفكير ومنطلقاته عندهم وتعدد آليات البحث ومناهجه في انتاجهم، حيث اذا أجاز لنا هؤلاء اعتبار الاشكالية الكبري او اشكالية الاشكاليات في الفكر العربي المعاصر هي اشكالية الحداثة والتراث او الاصالة والمعاصرة بتعبير البعض، فان التفكير في الحداثة والنهضة العربية عموما، ومحاولة التحرر من براثن الجهل والخرافة التي وعت المجتمعات العربية انها ترزخ تحتها دون غيرها، قاد مباشرة الكثير من المهتمين الى التفكير في التراث كمقابل للحداثة حينا او نقيض لها احيانا، ولما كان المكون الديني مكون اساسي من مكونات هذا التراث، فان الباحث يجد نفسه وجها لوجه مع الفكر الديني وفي ضيافة الخطاب الاسلامي، هذا الخطاب الذي يدعو الى قول شيء ما بصدده، واصدار حكم ما عليه.
ونقد التراث هو الجزء الثالث من مشروع العرب والحداثة للدكتور عبد الإله بلقزيز، ويأتي هذا الكتاب ضمن مسار الحداثة العربية، بمعنى أن التفكير في الحداثة العربية ليس تفكيرا في تاريخها فحسب، بل أيضا تفكيرا في ما قبلها (التراث)، لأن هذه العملية هي واقعة تاريخية في الثقافة العربية التي تعيش مشكلة الصلة بين الحداثة والتراث.
لا تكمن أهمية الكتاب في الغرض الذي لأجله كتب، أي مقاربة الحداثة العربية وما أنجتزه فحسب، بل أيضا في أن الدكتور بلقزيز قد أجرى مسحا واسعا وعميقا ونقديا لمجموعة كبيرة من المفكرين العرب الذين تناولوا التراث، بحيث يمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة الموسوعة المصغرة لنتاج هؤلاء المفكرين.
مقدمات نظرية ومنهجية في التراث
يبدأ الدكتور بلقزيز هذا الفصل بإجراء نظرة سريعة للأسباب التي ولدت الانشغال بالتراث، وهو يعزوها إلى سياقين متضافرين: سياسي تاريخي، وثقافي معرفي، أطلقهما ما بات يعرف بالاصطدام الذي حصل بين المدنية الأوروبية الصاعدة والمدنية العربية الإسلامية المتقهقرة، وقد نتجت عن ذلك رؤيتان للتراث: الأولى تجعل منه الملاذ لعملية الاستنهاض، فيما اتجهت الرؤية الثانية إلى محاولة المواءمة بين الماضي (الإسلام) والحاضر (المدنية الأوروبية)
هناك مرحلتان في قراءة التراث، تلك التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن 19 وامتدت إلى ستينيات القرن العشرين، وهي المرحلة التي يصفها المؤلف باللحظة التأسيسية في صلة الوعي العربي بمسألة التراث، ثم المرحلة الثانية التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي شهدت ولادة إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر.
يترتب على ذلك بحسب الدكتور بلقزيز فارق مهم بين الاهتمام بالتراث وميلاد إشكالية التراث، الفارق هو بين هوى ثقافي وبين سؤال إستراتيجي في المعرفة والفكر.
التاريخ الثقافي
إذا كانت دائرة المعارف لبطرس البستاني أول عمل يؤرخ للثقافة والفكر في الفكر العربي الحديث، فإن البداية الفعلية لممارسة التاريخ الثقافي بدأت مع فرح أنطون في مقالات عن ابن رشد ما لبثت أن وضعت في كتاب.
إن لحظة فرح أنطون هي لحظة التاريخ الثقافي الجزئي -بحسب المؤلف- لأنه تناول مفكرا واحدا رغم أن الاستنتاجات عنه تقبل بعض التعميم على تراث العقلانية الإسلامية.
الأمر كذلك عند طه حسين، حيث خصص دراسته في التاريخ الثقافي لابن خلدون، ولكنه تجاوز أسلوب العرض والتوصيف إلى إثارة مشكلات نظرية على نص ابن خلدون، وهو ما فتح به أفقا مبكرا أمام التاريخ النقدي الذي سرعان ما سيكرسه بدراسته في الشعر الجاهلي.
لكن مع جرجي زيدان ستبدأ مرحلة التأريخ الثقافي الشامل عبر موسوعته التي حملت عنوان "تاريخ التمدن الإسلامي"، أراد منه أن يكون نصا شاملا لجوانب الثقافة والحضارة في وجوهها كافة من أجل بناء وعي تاريخي وتنمية شعور جماعي بالانتماء إلى مدينة عريقة.
وتستمر لحظة التأريخ الثقافي الشامل مع أحمد أمين في ثلاثيته (فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام) التي لا تكمن أهميتها في التأريخ لحقبة طويلة من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية فحسب، بل في شمولها وجوه التعبير الثقافي والحضاري كافة كالآداب والفنون والعلوم الشرعية والعلوم العقلية.
"هناك مرحلتان في قراءة التراث، تلك التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن 19 وامتدت إلى ستينيات القرن العشرين، وهي المرحلة التي يصفها المؤلف باللحظة التأسيسية في صلة الوعي العربي بمسألة التراث، ثم المرحلة الثانية التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، وشهدت ولادة إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر"
ومع عبد الرحمن بدوي يجتمع التاريخ الجزئي بالتاريخ الشامل، شامل لأنه تاريخ الفلسفة والفكر النظري، وجزئي لأنه عني بالكلام والتصوف والفلسفة والعلوم دون اهتمام بعلوم أخرى كالحديث والتفسير والفقه.. إلخ.
الطلب الأيديولوجي
بدأ استعمال المنهج المادي التاريخي (الماركسية) في الفكر العربي في ستينيات القرن المنصرم، وكانت النكسة عاملا حاسما في رفع معدل انتباه مثقفي اليسار لمسألة التراث، وإذا كان هؤلاء المثقفون قد نهضوا باستكمال الورشة العلمية التي دشنتها الليبرالية الثقافية العربية فذهبوا بها إلى آفاق أيديولوجية (ثورية) ومعرفية (مادية تاريخية) غير مطروقة، فإن هدفا ضمنيا آخر كان في أساس عملهم -بحسب بلقزيز- وهو إثبات شرعية الأفكار الثورية والمادية الحديثة بردها إلى أصولها في الثقافة العربية الكلاسيكية أو في تراث الحركات الإسلامية الثورية.
ويمثل هذا الاتجاه طيب تيزيني وحسين مروة اللذان يردان الظواهر الثقافية (التراث) إلى علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج، مع الإعراض عن عرض معطيات الفكر المثالي المقابل.
الطلب الأيديولوجي كان حاضرا أيضا لدى حسن حنفي لكن في سياق آخر، فقد كان مهموما في كيفية تحويل قضية التراث إلى قضية رأي عام يخرجها من النطاقات الأكاديمية إلى ميدان السجال العمومي.
تنبع أهمية حنفي في أنه حاول فصل الدين عن التراث، فالتراث أوسع من الدين إنه مرتبط بالحضارة، ولهذا الفصل هدف أيديولوجي ومعرفي معا، هو أن تصبح أحكامنا على التراث أحكاما لا تمس الدين.
البنية والتاريخ
يبدأ الدكتور بلقزيز هذا الفصل مع كتاب الثابت والمتحول لأدونيس الذي طالع فيه وجوه الثبات والتحول في الثقافة العربية الكلاسيكية، عبر قراءة بنية هذه الثقافة برمتها ليسجل ريادته كأول باحث دارس لتراث العرب الثقافي يقارب التراث بوصفه كلية شاملة.
كانت قراءة الماضي لديه تتمثل بقراءة الموروث وقراءة القراءات المختلفة لذلك الموروث خاصة تلك التي تعيد إنتاجه، والهدف من ذلك تحرير العربي من كل سلفية، ولذلك يطالع أدونيس أوجه الثبات والتحول في الثقافة العربية، ويعرف الأول بأنه الفكر الذي ينهض على النص، والثاني إما بأنه الفكر الذي ينهض أيضا على النص لكن بتأويل يجعل النص قابلا للتكيف مع الواقع، وإما بأنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية.
بعد ذلك يتجه المؤلف لتناول المقاربة التأويلية لدى نصر حامد أبو زيد، هذه المقاربة التي تختلف عن التفسير التطبيقي للنص.
اكتفى حامد أبو زيد بتطبيق المقاربة التأويلية في التراث الديني المكتوب فقط، لأن التراث من وجهة نظره اقترن في الذهنية العامة بالدين بسبب سيادة سلطة النص في الفكر الإسلامي، فضلا عن رغبة أبو زيد في تحديد مفهوم موضوعي للإسلام يحرره من الاستخدامات الأيديولوجية المعاصرة.
إن المقاربة التأويلية تتطلب ضرورة قراءة النص القرآني في تاريخيته، أي في اتصال بالمكان والزمان والحدث، وفي علاقة الأحكام القرآنية بالحالات المتغيرة التي وردت فيه، لمواجهة تقليد سائد يعزل النص القرآني عن ظروف التنزيل.
الرؤية التاريخية للتراث كانت محور اهتمام علي أومليل، ولذلك قام بقراءة الخطاب الفقهي والخطاب الرشدي والفكر الخلدوني ضمن أطرهم التاريخية، حيث يرى أن الخطابات الثلاثة غير تاريخية، ففي الأول ثمة فجوة كبيرة بين الفقه والواقع، وفي الثاني والثالث كان لدى ابن رشد وابن خلدون إشكاليتهما التاريخية، وأية محاولة معاصرة لاستجلابهما من أجل حل مشكلات معاصرة هي خطوة غير علمية وغير تاريخية وتجعل من التراث عابرا للتاريخ.
"يميز الجابري في الثقافة العربية بين ثلاثة حقول معرفية: البيان، العرفان، البرهان، وقد سمح هذا النظام المعرفي للجابري بافتتاح آفاق جديدة في قراءة الموروث الثقافي والذهاب بعيدا في نقد السلطة المرجعية التي تحد من تطور المعرفة العربية الإسلامية، بحسب بلقيز"
على غرار أومليل ينتمي ناصيف نصار للمدرسة التاريخية النقدية، غير أن نصار يكتفي بمقاربة العقلانية في التراث الإسلامي التي لها خصائص خمس: التركيز على الاستدلال البرهاني لتبين ماهية العقل، ورابطة السببية بين أشياء الطبيعة وأفعالها، وتأسيس الوجود الإنساني على نظام كوني صادر عن عقل مطلق، وخاصية التوفيق بين العقل والنقل، وأخيرا لم تكرس هذه العقلانية وظيفتها خدمة لأهداف التنوير والتحرر وإنما لخدمة النظام القائم وتبريره.
لقد كان هدف نصار إعادة وضع التراث العقلي الإسلامي موضع فحص نقدي لبيان تناقضاته الذاتية وعيوبه ومن ثم حدوده.
من نقد التراث إلى نقد العقل
يبدأ المؤلف هذا الفصل بتناول أفكار المفكر الكبير محمد عابد الجابري، ومشروعه الهام "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة الذي شكل فتحا كبيرا على صعيد الثقافة العربية من حيث الرؤية والمنهج.
سؤال التراث هو سؤال الحداثة العربية: عوائقها، دينامياتها المضطربة، وصلاتها غير الصحية بمراجعها، ولذلك يرى الجابري أن الحداثة العربية لا تبنى إلا داخل التراث، لكن نقده لم يكن لمعطيات التراث كما فعل غيره، وإنما اتجه إلى فحص الأداة التي بها يحصل إنتاج المعرفة (العقل العربي)، وهذ الأمر يتطلب الانتقال من تحليل الأفكار والتصورات والنظريات إلى تحليل النظم المعرفية، أي الأساس الإيبيستمولوجي للثقافة العربية.
يميز الجابري في الثقافة العربية بين ثلاثة حقول معرفية: البيان، العرفان، البرهان، وقد سمح هذا النظام المعرفي للجابري بافتتاح آفاق جديدة في قراءة الموروث الثقافي، والذهاب بعيدا في نقد السلطة المرجعية التي تحد من تطور المعرفة العربية الإسلامية، بحسب بلقزيز.
وإذا كان نقد الجابري انحصر في العقل العربي، فإن محمد أركون خصص نقده للعقل الإسلامي كما تشكل لدى المسلمين عبر التاريخ بأثر من النص الديني والتفسير التقليدي المغلق، وما تولد منه من قواعد في التفكير حكمت مجالات الثقافة الإسلامية كافة، والغاية من ذلك فك ارتباط المحافظين وقوى السلطة بالرأسمال الرمزي الذي على أساسه تقيم هذه الأطراف مشروعيتها.
والعقل الإسلامي عند أركون واحد وإن تنوعت صور التعبير عنه ومراتبه، فهو محكوم بالإيبيستيمي الإسلامي نفسه، وهو ما يجعل تلك العقول تشترك في معطى الوحي وفي احترام سيادة المرجعيات الفقهية والعلمية التي تعلو على النقاش.
مع عبد الله العروي يختلف مفهوم نقد العقل كما هو عند الجابري وأركون، فإشكالية العروي هي بيان محدودية العقل في الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي والحديث، وتحليل أسباب ذلك، ولذلك لا ينطلق من التراث ليفسر خلو الفكر والاجتماع اليوم من روحية العقل، وإنما يتتبع هذه الظاهرة في الواقع المعاش لينطلق منها إلى الحفر في الطبقات العميقة المؤسسة لمظاهر ضعف العقلانية.