الربيع .. مقدمات
الأربعاء 17/يونيو/2015 - 06:51 م
طباعة
أمست شوارع تونس على إيقاع صوت ثائر يصرخ مرددا "بنعلي هرب"، وأخذ شعار"الشعب يريد إسقاط النظام" يشق طريقه نحو مصر ليرغم مبارك على التنحي في مشهد بانورامي يثير الذهول؛ إن في ذلك إيذان بدخول العالمين العربي والإسلامي عهدا جديدا.
لم يدخل المغرب والعالم العربي مرحلة الربيع فجأة، بل جاء ذلك نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، وبقدر ما يستعصي على الباحث إنكار نضج الشروط الذاتية الداعية إلى التغيير والانتقال، يستحيل عليه غض الطرف عن تراكم شروط خارجية ساهمت في مسلسل الانتقال الجاري.
لا يمكننا فصل ما يعيشه العالم العربي اليوم من تحولات اجتماعية وسياسية عن التحولات التي شهدها العالم الأوروبي خلال القرن التاسع عشر الميلادي، حيث عجت الساحة السياسية الأوروبية بثورات سياسية متتالية رمت إلى تقويض الأنظمة الدكتاتورية، وإرساء حياة سياسية واجتماعية يحكمها الدستور، ويتوارى فيها الحكم المستبد، وتسطع فيها حرية ممارسة الأعمال الصحافية والنقابية والسياسية.
لا ريب في أن قرنين من الزمن كافيين ليعم إشعاع هذه التجربة الإنسانية باقي أرجاء العالم. يمكن الإقرار، من هذه الزاوية، بأن ما يعيشه العالم العربي اليوم من تحولات سياسية واجتماعية هو من قبيل الحتمية التاريخية.
عاش الإنسان منذ القرن التاسع عشر ثورات سياسية واجتماعية كانت أوروبا موطن نشأتها، ونُعتت هذه الحيوية التي صارت تعيشها أوروبا بربيع الشعوب، حيث توالت ثورات "بعضها كان ليبراليا ناضل من أجل الاعتراف بالحريات وإقامة الدساتير وبناء الأنظمة الديمقراطية... وبعضها الآخر كان قوميا تحرريا طالب باستقلال الدولة القومية وطرد المحتل الأجنبي..." . فتواترت الثورات في أوروبا منذ 1832م وانطلقت أعظمها من فرنسا، حتى وصل إشعاعها الإمبراطوريات الدكتاتورية المحافظة سنة 1848؛ "ففي هنغاريا صوت الشعب على إبادة النظام الفيودالي والمساواة أمام القانون... وفي براغ طالب الثوار بالمساواة بين التشيكيين والألمان... وانفجرت الثورة في فيينا نفسها" عاصمة القوة العظمى التي عملت على تقويض الربيع.
ولم يكن العالم العربي بمنأى عن هذه التطورات خلال القرن التاسع عشر، إذ شهد يقظة فكرية مناهضة للاستبداد، كان من أبرز رموزها "جمال الدين الأفغاني" و"فرح أنطوان" و"عبد الرحمان الكواكبي". انتفض الأخير ضد حكم الاستبداد المسلط من قبل أقلية على أغلبية قائلا: " ...وأمثال هذه الطبقة، يقدرون بواحد في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع أو الزراع...فقام المستبدون يمتصون دماء حياة (الجماعة) بغصب أموالهم، ويقَصّرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم أو بغصب ثمرات أتعابهم."
إن ما يجري اليوم في المغرب والعالم العربي، وباستحضار منطق التراكم، تأسس على تجربتين، الأولى تمثل الأصل وهي التجربة الأوروبية، والثانية تمثل النسخة التجريبية لربيع الشعوب العربية والإسلامية خلال ق19م، والتي تَوَاصل انبعاثها حين ثارت الشعوب العربية والمغاربية ضد الاستعمار خلال القرن 20م.
هرعت القوى العظمى وعلى رأسها النمسا خلال القرن 19م إلى قمع ثورات الربيع في أوروبا، وفي المقابل تزعمت فرنسا النابوليونية دعم الربيع، إن لم أقل أسست له بنشر مبادئ الثورة الفرنسية عنوة في مطلع القرن 19م إلى آخر رمق حين انهزم نابوليون بونابارت في معركة واترلو سنة 1814م.
أما اليوم فضد مَن تقوم ثورات الربيع؟ ومن يدعم ربيع الشعوب العربية والإسلامية؟ ومن يعيق تواصله؟ وهل خاب وخبت جذوته فصار خريفا؟ أسئلة تتطلب عمقا في البحث ونسقا محكما في المقاربة. وذاك ما سأغامر ببحثه في المقالات القادمة إن شاء الله.