رجل الدين في الأدب المصري 1 .. نجيب محفوظ
الأربعاء 17/يونيو/2015 - 06:58 م
طباعة
الشيخ عبدربه في قصة "الجامع في الدرب"، مجموعة "دنيا الله"، إمام مسجد لا يتردد عليه إلا قلة من الناس، والسر كامن في المكان: "الجامع يقوم عند ملتقى دربين، درب الفساد الشهير، ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبرمجية وموزعي المخدرات".
عند صدور قرار نقله، لم يقصر الشيخ في محاولة إلغاء النقل، وإزاء الفشل لا يجد مهربًا من الرضوخ والتأقلم، قانعًا بإلقاء درس العصر اليومي على المؤذن والخادم، بمشاركة المستمع الوحيد المواظب عم حسنين بياع عصير القصب: "حتى قال للرجل يومًا بلهجة التشجيع:
- بهذا الاجتهاد ستصير عما قريب إمامًا يُرجع إليه!
فابتسم العجوز في حياء وقال:
- علم الله لا حدود له".
الجيرة الإجبارية غير السعيدة مع سكان الدربين سيئي السمعة، تعرض الشيخ عبدربه لتهكم ومزاح أصدقائه، ولا سلاح لمقاومة الشعور بالضيق والاستياء إلا الرضا بالمتاح، والتعايش قدر المستطاع مع وضعية لا تروقه.
نقطة التحول في حياة عبدربه تبدأ مع إشارة تليفونية تدعوه إلى مقابلة المراقب العام للشئون الدينية، وهو موظف كبير يستمد خطورته من صلة القرابة التي تجمعه بمسئول سياسي مرعب مكروه شعبيًا. لم يكن اللقاء ثنائيًا بطبيعة الحال، فالدعوة عامة للأئمة، والهدف من الاجتماع بالغ الوضوح: "وأشار إلى الصورة المعلقة فوق رأسه وقال:
- واجبنا نحوه ونحو أسرته العلية هو ما دعا إلى هذا الاجتماع..
انقبضت صدور كثيرة دون أن يزايل البشر وجوه أصحابها. وقال المراقب:
- إن العلاقة الوطيدة التي تربطكم به فوق الكلام، إنها مودة تاريخية متبادلة..
أشرقت الوجوه بالتأييد لتداري توعك القلوب، وواصل الرجل الحديث قائلاً:
- وحيال الأزمة التي تجتاح البلاد يطالبكم الإخلاص بالعمل..
اشتد اضطراب القلوب في مسرحها الخفي:
- بصروا الشعب بالحقائق!.. اهتكوا أستار الدجالين ومثيري الشغب، كي يستقر الأمر لصاحب الأمر..".
الملك في مواجهة الشعب والوفد، والدين يتحول إلى سلاح سياسي لتدعيم القهر والاستبداد، والتشهير بالوطنيين المعارضين الموصوفين بالدجالين ومثيري الشغب!. الاجتماع الوظيفي إذن لا يتعلق بتوبيخ أو عقاب، والمكاسب والمغانم نتيجة متوقعة مأمولة للطاعة والولاء والالتزام بتنفيذ الأوامر والتوجهات. يشعر الشيخ عبدربه بالارتياح للنجاة من الشر الذي كان يتوقعه، وتداعبه الآمال والأحلام فيما قد يتحقق: "أدرك لتوه أنهم لم يُدعوا لأي نوع من المحاسبة أو التحقيق، بل إن السلطة تسعى إليهم هذه المرة باسطة يدها، ومن يدري فلعله يعقب ذلك إجراء جدي لتحسين حالهم فيما يتعلق بالمرتبات والمعاشات. غير أنه سرعان ما ارتد إلى القلق كما ترتد الموجة المنبسطة على الساحل الرملي الصافي إلى الزبد. أدرك بوضوح ما يُراد بهم وما سوف يجد نفسه مضطرًا إلى قوله في خطبة الجمعة مما يأباه ضميره ويمقته الناس".
مزيج معقد من الطمع والقلق وتأنيب الضمير، والدور المزعج المطلوب ليس غائبًا عن الشيخ عبدربه. الاختيار محسوم بحكم الوظيفة والقيود التي تفرضها، لكن التوتر قائم ونابع من القيام بما يخالف الضمير ويناقض المبادئ. في لقاء الشيخ مع زميليه خالد ومبارك، بعد ساعات من نهاية الاجتماع، يتجلى واضحًا ما يعانيه ثلاثتهم من استياء وغضب. الفصل مصير حتمي ينتظر الممتنعين عن الاشتراك في الحملة السياسية ذات الغلاف الديني، ويقول الشيخ خالد متذمرًا:
"- لم تُخلق دور العبادة للمهاترات السياسية وتأييد الطغاة!.
فشعر عبدربه بأن حديث صاحبه ينكأ جرحه وتساءل!
- أتريد أن تتضور جوعًا؟
فساد صمت ثقيل، وأبى الشيخ أن يعلن هزيمته فتظاهر بأنه سيعمل عن اقتناع ليحافظ على كرامته أمامهما فقال:
- ما يظنه البعض مهاترات قد يكون هو الحق بعينه..
ودهش خالد لانقلاب الشيخ فزهد في المناقشة، أما مبارك فقال باندفاع مأثور عنه:
- سنقتل مبدأ إسلاميًا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
فغضب عبدربه عليه كما يغضب ضميره الذي يعذبه وقال:
- بل سنحيي مبدأ إسلاميًا هو الدعوة إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر..
فتساءل مبارك في استنكار شديد:
- أهؤلاء من تعدهم أولي الأمر؟!.
فتحداه عبدربه متساءلاً:
- خبرني هل تمتنع عن إلقاء الخطبة؟
قام مبارك متسخطًا ثم غادر المكان وما لبث ان غادره خالد، ولعنهما الشيخ كما يلعن نفسه الثائرة".
الشيوخ الثلاثة متفقون في الاستياء والرفض، لكن مقصلة الفصل من الوظيفة والتشرد تمثل عنصرًا ضاغطًا. لا اختلاف بينهم، والحدة في الحوار فعل تنفيسي تعويضي في المقام الأول. الرضوخ مدان بقدر ما هو مبرر، والخطأ الفادح يتمثل في ادعاء الاقتناع، والزعم بأن المشاركة في الحملة السياسية الرخيصة ستكون من منطلق القبول الإرادي والعمل تحت راية طاعة الله ورسوله وأولي الأمر!. إذا لم تستطع أن تكون بطلاً من أصحاب المواقف فادحة الثمن، فلا أقل من الامتناع عن الكذب والتدليس وادعاء الباطل، وهذا ما لم يفعله الشيخ عبدربه!.
في اليوم التالي، ومع الازدحام الاستثنائي للجامع في صلاة الجمعة، يلقي الشيخ عبدربه خطبة سياسية فجة تثير استياء المصلين: "تلقت آذانهم متململة الجمل المسجوعة عن الطاعة وواجب الولاء بارتياب وحنق. وما أن حملت الخطبة على الذين يغررون بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم الشخصية حتى سرت في المسجد همهمة، وأصوات احتجاج وسخط، واعترض البعض بأصوات مرتفعة، وسب آخرون الإمام!. عند ذاك انقض المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين وساقوهم إلى الخارج وسط ضجة هائلة من الاحتجاجات والغضب.
وغادر المسجد كثيرون. ولكن الإمام دعا الباقين إلى الصلاة، وكانت صلاة حزينة تعلوها الكآبة..".
هل يختلف الشيخ عبدربه موضوعيًا عن القوادين والعاهرات وموزعي المخدرات والبرمجية، أولئك الذين يحتقرهم ويزدريهم وينظر إليهم كأنهم الجراثيم؟!. إنهم يخاصمون الدين والأخلاق بسلوكهم المستهتر وآثامهم ومعاصيهم، والشيخ بكلماته الكاذبة المنافقة يكرر الأفعال المشينة نفسها ويخالف ضميره، مصطدمًا مع جوهر الدين الذي يحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرفض الفسادين الأخلاقي والسياسي على حد سواء.
في اللحظة التي يخطب فيها عبدربه مرددًا الأكاذيب، يقول واحد من زبائن العاهرة سمارة: "المنافق!.. اسمعي ما يقوله المنافق!"، ولا تملك سمارة إلا أن تتنهد وتقول: "يا بخته!، بكلمتين يربح الذهب، ونحن لا نستحق قرشًا إلا بعرق جسمنا كله".
ما أكثر الرجال "المحترمين"، على الصعيد الظاهري الشكلي، الذين يمارسون الدعارة بطرق مختلفة، لكن المجتمع المنافق يبجلهم ويوقرهم. هل يختلف الاتجار بالدين عن بيع الجسد كسلعة لمن يدفع الثمن؟. عبدربه يتخلى عن ضميره، ويندفع في تأييد سلطة فاسدة يعي أنها مستبدة بلا ظهير شعبي، بل إنه يستثمر ما يقع في المسجد فيسعى إلى نشره في بعض الصحف، مبالغًا في تصوير الاعتداء كأنه الضحية وشبه الشهيد: "وبات عظيم الأمل في أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام".
دعارة صريحة رخيصة مبتذلة، لا تتيح للشيخ حق أن يباهي بورعه متعاليًا على الغارقين في مستنقع الآثام والخطايا، وسرعان ما يأتي العقاب موجعًا دالاً بامتناع بائع العصير حسنين عن حضور درس العصر، فالرجل الشعبي البسيط الطيب، المتدين بحق، يدرك بفطرته كذب الشيخ الذي يقول ما لا يفعل!.
ثمة عقاب آخر أشد قسوة يطول الشيخ عبدربه، فالغارة الجوية العنيفة تدفع العاملين والمقيمين في الدربين الموبوءين إلى اتخاذ المسجد مخبأ يلوذون به، ولا يبالون باعتراض الشيخ على تدنيسهم لبيت الله. يهرب عبدربه من دنسهم، متيقنًا أن اجتماعهم لا يكون إلا لشر: "مرق من الباب وهو يقول مرتعدًا:
- لم يجمعهم الله في مكان واحد إلا لأمر".
يعثرون على جثة الشيخ عبدربه عند الشروق، وتنتهي حياة الرجل الذي يبيع الدين ليشتري الدنيا، فإذا به يخسرهما معًا!.