محمد أحمد المهدي.. والثورة في السودان
الجمعة 21/يونيو/2024 - 08:30 ص
طباعة
حسام الحداد
ولد محمد أحمد بن عبد الله في قرية قرب دنقلة سنة 1844م، ونشأ نشأة دينية، واستفاد من تعليمه الديني من الشيخ محمد الخير فتعلم النحو والتوحيد والفقه والتصوف، وأخذ عن الشيخ محمد شريف ود نور الدايم مزيداً من الدروس في علوم الشريعة والتصوف على الطريقة السمانية، واستمر متصلاً بشيخه حتى حدثت جفوة بينه وبين شيخه، فدخل محمد أحمد في طريقة الشيخ القرشي ود الزين بأرض الجزيرة – بين النيلين الأبيض والأزرق- وكان الشيخ القرشي من أتباع الطريقة السمانية، وبعد وفاة شيخه انطلق إلى جزيرة آبا، وتوافد عليه المريدون، وبدأ دعوته سراً عام 1880م، وجهراً في العام التالي، وكثر أتباعه، وذاع صيته في كل السودان، وظل محمد أحمد يلقب بالفقيه، حتى أعلن عن نفسه أنه "المهدي المنتظر"، وصار يعرف بهذا الاسم منذ ذلك الحين، وتقوم فكرته على الإصلاح الديني والاجتماعي، عن طريق العودة إلى التشريع الإسلامي في عهوده الزاهرة، وفتح باب الاجتهاد، وإقامة الحدود الشرعية، وقد تجلى ذلك في نص البيعة التي يبايعه بها مريدوه هي: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله، أما بعد فقد بايعنا الله وبايعناك على توحيد الله، وألا نشرك به أحداً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نأتي ببهتان ولا تعطيل في معروف، بايعناك على زهد الدنيا، وتركها والرضى بما عند الله رغبة بما عند الله والدار الآخر، وعلى أن نفرض الجهاد.
كان المهدي يعيش مفتوح الذهن والقلب على المرارة والظلم والفساد الذي كان يكتوي به الشعب السوداني، وشهدت جزيرة (آبا) تكاثر المريدين والزوار وذوي الحاجات على المهدي.
ما قبل المهدية:
بدأ المهدي في مرحلة مبكرة بإظهار امتعاضه من الأحوال في السودان من حيث الفساد الحكومي المتفشي في الحكم المصري ومظاهر البعد عن الدين والمجاهرة بالمعاصي، ودعا الناس إلى الزهد والتمسك بالدين والبعد عن المعاصي، وقد ذاع صيته واجتمع حوله عدد من الأتباع والمريدين الذين يعرفون في السودان بالحواريين، وصار كهفه في الجزيرة أبا مزارا لطالبي الوعظ والبركات، ويظهر فكرة في خطاب أرسله إلى القاضي الضو بن سليمان قاضي فشودة يقول فيه:
".. فكامل الوصايا لي ولك بتقوى الله العظيم التي أوصى بها كافة الأمم، وقد علمت يا حبيبي أن الدنيا سريعة الانقضاء وكل ما فيها مصحوب بكسفة الفناء والفراق ومخلوط بماء الندامة الا ما كان لله، قال :"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منها لله..."
تكليفه بالمهدية:
اعتقد المهدي بتكليفه من الله عز وجل بالقيام بمهام الثورة المهدية، وأعلن أنه قد وصلته أوامر إلهية ونبوية عن طريق الرؤى في المنام والهواتف في حال اليقظة، يقول المهدي في خطابه إلى محمد الطيب البصير بتاريخ 4 نوفمبر 1880:
"لا يخفى عزيز علمكم أن الأمر الذي نحن فيه لا بد من دخول جميع المؤمنين فيه إلا من هو خالٍ من الإيمان، وذلك مما ورد في حقائق غيبية وأوامر إلهية وأوامر نبوية أوجبت لنا مهمات صرنا مشغولين بها، و ثم تواترت الأنوار والبشاير والأسرار والأوامر النبوية والهواتف الإلهية بإشارات وبشارات عظيمة..."
فكره:
ظهر تأثره بمحي الدين بن عربي وأحمد ابن إدريس وكرر ذكرهم في العديد من منشوراته، فقد تأثر بالصوفية من خلال أخذ البيعة والإيمان بكرامات الأولياء الصالحين كما أثرت به في اعتقاده بانه المهدي المنتظر وتلك الفكرة التي ادعاها لم يقرها عديد من علماء عصره، ادعى الاجتماع مع النبي يقظة لا مناما وكفر معارضيه وجعل الإيمان به من شروط الإسلام، استباح دماء من لم يؤمن به وسبى نساءهم وغنم أموالهم.
كرر كثيرا الدعوة إلى الزهد والثقة بالله وذكر خواء الدنيا وفناءها وحض اتباعه على لبس الخلق والمرقع من الثياب، منع النساء عن الذهب والفضة وشجعهن على منع الشتم والألفاظ المسيئة منعا باتا، وتشدد في منع الدخان والخمر والحشيش، بسط اجراءات الزواج ومنع الرقص والمعازف وغلاء المهور والبذخ في الولائم، وبالمثل فقد منع النياحة على الأموات، أحرق كتب المذاهب وأجبر الناس على قراءة راتبه.
برغم حياته القصيرة (1843-1885) خلف كما هائلا من الخطابات والمنشورات، كما كان يعقد المجالس التي يذاكر فيها بالعلوم الدينية. وقد أخرجت آثاره في سبع مجلدات ضخمة بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم.
إعلان الثورة:
وقد أعلن محمد أحمد المهدي ثورته سنة 1881م وكان أهم أهدافها:
- وضع حد لتسلط الباشوات والموظفين الأتراك والشراكسة والأوروبيين.
- إيقاف النهب الاستعماري للسودان.
- محاربة الفساد الإداري وإرهاق الشعب السوداني بالضرائب ذات المسميات المختلفة.
- الدعوة إلى رفض السلطة العثمانية.
- اتصاله بالثورة العرابية وتعاطفه معها، حيث كان يتفق معها لمقاومة الاستعمار البريطاني.
ازدادت ثورة المهدي اضطراماً بانضمام العناصر الساخطة على الحكومة للدعوة الجديدة كتجار الرقيق، وزعماء القبائل، خصوصاً عبد الله التعايشي زعيم قبائل البقارة والذي أصبح فيما بعد الساعد الأيمن للمهدي وخليفته من بعده، وأطلق المهدي على أتباعه لقب الأنصار، وكان المسئول عن إدارة شئون السودان في ذلك الوقت في سنة 1881م الحكمدار رؤوف باشا الذي وجد نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على القاهرة، فالثورة العرابية كانت مشغولة بنفسها وبالخطر المحدق بها، فأرسل إلى المهدي في مقره في أبا، قائلاً له: "اذهب إلى الخرطوم، واحظَ بالمثول بين يدي سيد البلاد لكي تبرئ ساحتكم"، فرفض المهدي هذا الطلب .
معركة آبا: في 12 أغسطس سنة 1881م:
جرد رؤوف باشا كتيبة من مائتي جندي إلى جزيرة آبا بقيادة أبي السعود العقاد، ليأتوا له بالمهدي سجيناً، ولكن محمد أحمد (المهدي) كان متيقظاً، فأعد رجاله وأنصاره -وكانوا يسمون الدراويش- للقتال، فما إن نزل الجند من الباخرة التي أقلتهم وبلغوا القرية، حتى انقض عليهم رجال المهدي، وفتكوا بهم جميعاً وكانوا 120 جندياً، وستة ضباط، أما أبو السعود فلم يكن غادر الباخرة، خوفاً على نفسه، فلما علم بما حل بالجند انسحب إلى الخرطوم، وأخبر رؤوف باشا ما فعله المهدي برجاله، وهذه أول معركة انتصر فيها المهدي.
وقد ظهر بعد النظر السياسي وعبقريته العسكرية بوضوح في قراره "بالهجرة" بعد هذا الاشتباك من جزيرة آبا إلى جبل قدير من جبال النوبة، ذلك أن هذه الهجرة، فضلاً عن محاكاتها لمثال النبي صلى الله علي وسلم، أدت إلى نقل الثورة من منطقة مفتوحة تعوزها وسائل الدفاع وتقع على مقربة من قوات الحكومة الأنجلو- مصرية إلى منطقة نائية ومحصنة من الناحية الاستراتيجية، وكانت هذه الهجرة نقطة تحول فعلية في تاريخ الحركة المهدية، تكمن أهميتها الكبرى في أن نقل الثورة من الأقاليم النهرية إلى غربي السودان ترتب عليه أن أصبح أبناء غرب السودان منذ ذلك الوقت هم أهم القادة الإداريين والعسكريين، بينما تضاءلت أهمية الأقاليم النهرية تدريجياً .
معركة راشد: 9 ديسمبر 1881 :
علم راشد بك أيمن مدير فاشودة بوجود المهدي في جبل قدير، فاعتزم السير إليه في جيشه، للقبض عليه، ولكنه أخطأ أيضاً في تقدير قوة المهدي، ولم يأخذ للأمر عدته، فكمن له أتباع المهدي في الطريق وانقضوا عليهم، فقتل راشد باشا ونحو 1400 من رجاله، وغنم المهدي جميع أسلحة الحملة وذخائرها، وهي أول الوقائع الكبيرة التي مكنت للمهدي في البلاد.
معركة الشلالي: 29 مايو سنة 1882م:
عزلت الحكومة المصرية رؤوف باشا، وعينت مكانه عبد القادر باشا حلمي ناظراً وحكمداراً للسودان، وأثناء فترة التغيير، كان يتولى الأعمال جيكلر باشا النمساوي رئيس مصلحة التلغراف السودانية بالنيابة عن الحكمدار، فجرد حملة بقيادة يوسف باشا الشلالي مؤلفة من نحو أربعة آلاف مقاتل، فلما اقتربت من معقل المهدي في جبل قدير انقض عليها المهدي بجموع حاشدة تبلغ نحو خمسة عشر ألفا، يوم 29 مايو سنة 1882م، وباغتوا الجند ليلاً وهم نيام، ففتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وقتل يوسف باشا الشلالي، وغنم المهدي أسلحة الجيش وذخائره، فازداد بها قوة، وذاع سيطه في مختلف الأرجاء، وخاصة في كردفان، وتضعضعت هيبة الحكومة، وصدق الأهالي دعوة المهدي بعد هذه الانتصارات، وانهمرت عليه جموع السودانيين مبايعة ومؤيدة.
استيلاء المهدي على باره والأبيض: يناير سنة 1883م:
هاجم المهدي الأبيض عاصمة كردفان بجيش قوامه خمسين ألف مقاتل من أتباعه، وكانوا يلقبون بالدراويش، يوم 8 سبتمبر سنة 1882م، واشتبك مع الجيش المصري المؤلف من ستة آلاف مقاتل بقيادة اللواء محمد سعيد باشا حكمدار غربي السودان، انتهت المعركة بهزيمة جيش المهدي، بعد أن فتكت بهم نيران المدفعية والبنادق، وقتل منهم عدة آلاف، وكان من القتلى شقيق المهدي، وشقيق عبد الله التعايشي، ولكن المهدي عاود المحاولة مرة أخرى، وحاصر باره إحدى المواقع الهامة في كردفان، حتى سقطت في 5 يناير سنة 1883م، ثم حاصر الأبيض، وسد عليها المسالك، حتى استسلمت للمهدي، ودخلها يوم 19 يناير سنة 1883م، وغنم مخازن الأسلحة، فكان مجموع ما غنمه في معاركه: 6400 بندقية، وثلاثة عشر مدفعاً، ومقادير كبيرة من الذخائر.
معركة سنار: يناير وفبراير سنة 1883م:
كانت الحرب سجالاً بين قوات الحكومة والمهدي، فاعتزم الحكمدار عبد القادر باشا الخروج إليهم بنفسه، فخرج من الخرطوم في يناير سنة 1883م يقود قوة من الجند، والتقى بالثوار في غابة قرب معتوق فأوقع بهم وهزمهم، ثم اكمل بجيشه إلى منطقة مشرع الداعي شمالي سنار، ووقعت معركة كبيرة مع الثوار دامت أكثر من ثلاث ساعات، قتل فيها من الثوار نحو ألف رجل، وأصيب عبد القادر باشا إصابة طفيفة، وانتهت المعركة بتشتيت شمل الثوار، ودخل عبد القادر باشا سنار، واستولى عليها، وضيق على المهدي المسالك، وشعر المهدي بخطره، فكان يدعو الله عقب كل صلاة بقوله: "يا قوي يا قادر اكفنا عبد القادر".
معركة المرابيع: 29 أبريل سنة 1883م.
قامت الحكومة المصرية بضغوط من بريطانيا بعزل عبد القادر باشا، وتعيين علاء الدين باشا حكمداراً لعموم السودان، وإرسال نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل من فلول جيش أحمد عرابي الذي بقي بعد الاحتلال البريطاني لمصر إلى السودان، تحت قيادة رئيس أركان الجيش الجنرال الإنجليزي وليام هكس باشا، وكانت أول مواجهة للثوار مع هذا الجيش في المرابيع، وكانت النتيجة هزيمة الثوار مما أغرى الجنرال هكس بالزحف نحو المهدي في كردفان.
استيلاء المهدي على منطقة البحر الأحمر:
قام المهدي بإرسال أحد أتباعه وهو عثمان دقنة من منطقة سواكن، إلى شرق السودان لنشر الدعوة المهدية في تلك المنطقة، والثورة على الحكومة، لكي يشتت قواتها، ونجح عثمان دقنة في مهمته.
فهاجم عثمان دقنة مدينة سنكات في 5 أغسطس سنة 1883م، ولكنه لم يستطع السيطرة عليها بسبب استبسال الجيش المصري بقيادة توفيق بك في الدفاع عن المدينة، فانسحب إلى جبل أركويت، وظلت الحرب سجالاً بين جنود الحكومة وجموع الدراويش، وحاصر هؤلاء الدراويش مدينة طوكر فخرج اللواء محمود باشا طاهر في قوة من الجند تبلغ 550 رجلاً لنجدة طوكر، يصحبه الكابتن مونكريف قنصل إنجلترا في جدة، فتربص بهم الدراويش في آبار التيب يوم 5 نوفمبر سنة 1883م، فأوقعوا بهم قتلاً، وفر طاهر باشا إلى سواكن، وبعد هذه المعركة وضع عثمان دقنة سواكن تحت الحصار، فصارت القواعد المصرية الثلاث المهمة وهي: سواكن، وطوكر، وسنكات، محاصرة بجموع الدراويش، وموقفها في غاية الحرج، ثم حشد عثمان دقنة نحو ثلاثة آلاف من رجاله ونزل بهم إلى آبار طماي على نحو 20 ميلاً من سواكن، وأخذ يهاجمها، وقطع الطريق بينها وبين سنكات، وشدد الحصار على سواكن، فخرج إليه الضابط كاظم أفندي على رأس قوة من خمسمائة من الجنود السودانيين و200 من الباشبوزق والتقى الجيشان يوم 2 ديسمبر سنة 1883م، بالقرب من طماي (التمنيب)، حيث انتصر الدراويش ولم ينجُ من جيش كاظم باشا سوى 45 رجلاً.
معركة شيكان الكبرى: 5 نوفمبر سنة 1883م:
وتعتبر معركة شيكان نقطة تحول أخرى في تاريخ الثورة المهدية، ففي ذلك الوقت كان الخديوي توفيق وحكومته قد عقدوا العزم على سحق المهدي الذي أصبح يسيطر على جميع المدن الرئيسية في إقليم كردفان، وبناءً عليه قامت الحكومة المصرية بتنظيم حملة مكونة من بقايا جيش عرابي بقيادة ضابط بريطاني هو هكس باشا، وكان تعداد جيشه ثلاثة عشر ألف مقاتل، فسار من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان، ولكنه لم يقدر قوة خصمه، فقطع مسافة مائتي ميل، حتى بلغ يوم 5 نوفمبر سنة 1883م وادياً مفتوحاً تحيط به من الجانبين غابة كثيفة، وقد أصاب جيشه العطش الشديد، فلم يكد الجيش يدخل هذا الوادي حتى أطبقت عليه جموع الثوار من كل جانب، واخترقوا صفوفه، وأمعنوا في الجنود ذبحاً وقتلاً، فكانت واقعة أشبه بمجزرة بشرية، قتل فيها الجيش برمته، قواده، وضباطه، وجنوده، ومنهم هكس وأركان حربه، ولم ينجُ من القتل سوى ملازمين اثنين، وثلاثمائة جندي، اختبأوا بين الأشجار، وأخذوا أسرى.
ارتجت أنحاء السودان لانتصار المهدي في واقعة شيكان، وزادت هيبته في نفوس الأهلين، والحكام، وتداعت سلطة الحكومة المصرية أمام هذه الكارثة، وبادر الحكام الأجانب الذين كانوا يتولون حكم المديريات إلى التسليم للمهدي، ففي ديسمبر سنة 1883م سلم رودلف سلاطين باشا في داره، وكان وقتئذ حاكماً على دارفور، ثم سقطت الفاشر عاصمة المديرية، ودانت دارفور كلها لسلطة المهدي في يناير سنة 1884م، وسلمت مديرية بحر الغزال في أبريل سنة 1884م .
وفي تلك الأثناء طرأ تغيير جوهري على السياسة البريطانية تجاه المسألة السودانية بعد معركة شيكان، فبينما كانت بريطانيا ترى من قبل أن المسألة تخص مصر وحدها، فإنها شعرت بعد معركة شيكان أن مصالحها الإمبراطورية تقتضي انسحاب مصر من السودان فوراً، ومن ثم أمرت الحكومة المصرية بالتخلي عن السودان وأوفدت الجنرال تشارلز غوردون كي يشرف على تنفيذ ذلك .
معركة التيب الثانية: 4 فبراير سنة 1884م، وسقوط سنكات:
في أوائل فبراير تقدمت قوة مصرية تبلغ ثلاثة آلاف وستمائة مقاتل بقيادة بيكر باشا من ترنكتات، قاصدين طوكر، فلما وصلوا إلى آبار التيب فاجأهم جنود المهدي وانقضوا عليهم بجموعهم الحاشدة، فقتل من الجيش المصري نحو 2300، منهم 92 ضابطاً، وشدد الثوار بعدها الحصار على سواكن حتى سقطت بعد أن قتل جميع الجنود المصريين فيها. وبعد إخلاء الجنود المصريين من السودان، عمدت القوات البريطانية لاحتلال المناطق التي تخليها القوات المصرية، فاحتلت سواكن .
معركة التيب الثالثة: 29 فبراير سنة 1884م:
هاجمت قوة إنجليزية بقيادة الجنرال جراهام جموع الدراويش في التيب فانتصرت عليهم وأوقعت بهم وأجلتهم عن آبار التيب. ثم هاجمت جموع عثمان دقنة في طماي، وانتصرت عليهم كذلك، وأخلى عثمان دقنه طماي، واعتصم بالجبال، وكان غرض هذه الحملة هو تأمين بريطانيا لمراكزها على البحر الأحمر. ورغم الانتصارات التي أحرزها جراهام على قوات عثمان دقنة إلا أنه لم يستطع القبض عليه، كما أنه أخفق في خطته الرامية إلى مد خط سكة حديدي من البحر الأحمر إلى مصر بأمر من الحكومة البريطانية .
المهدي يحاصر الخرطوم:
استمرت ثورة المهدي توسع نفوذها في السودان حتى وصلت العاصمة الخرطوم، وحاصرت الجنرال البريطاني جوردون، وأرسلت بريطانيا بالاشتراك مع مصر جيشاً لإنقاذه بقيادة الجنرال اللورد ولسلي ، وصلت الحملة إلى السودان عن طريق وادي حلفا، ثم انقسمت إلى جزءين، أحدهما اتخذ طريق الصحراء بقيادة الجنرال هربرت ستيوارت، والآخر اتخذ نهر النيل بقيادة الجنرال أرل.
معركة أبي طليح: 17 يناير سنة 1885م:
التقت الحملة الإنجليزية بجموع الدراويش في آبار أبي طليح، وهناك نشبت واقعة كبيرة انتهت بهزيمة الدروايش بعد أن حصدتهم نيران المدافع حصداً، واستمرت الحملة في زحفها حتى وصلت إلى المتمة فاحتلتها، وفي أثناء زحفها التقت بجموع الدراويش مرة أخرى، وفي هذه المرة استطاع الثوار الدراويش قتل القائد الجنرال الإنجليزي ستيوارت، فتولى القيادة بعده الجنرال السير شارلس ويلسن، ثم اتجهت الحملة نحو الخرطوم عن طريق باخرتين لإنقاذ جوردون، ولكن بعد فوات الأوان، فقد استطاع الثوار دخول الخرطوم، وقتل الجنرال جوردون، وانقضوا على الحملة الإنجليزية واضطروها إلى الانسحاب بعد أن أدموها.
معركة كربكان: 10 فبراير سنة 1885م:
وفي خلال هذه الأحداث سار الجنرال أرل قائد حملة النيل من كورتي، يقود نحو ثلاثة آلاف من الجنود الإنجليز، يستقلون نحو خمسمائة قارب، أما الفرسان والمدفعية فقد ساروا حيال القوارب في الضفة الغربية للنيل، وسارت القوة المصرية في الضفة الشرقية، وبلغت الحملة معقل الدروايش في كربكان، فانقضوا على المعقل، وقتلوا جميع من فيه من الدراويش، ولكن الدراويش استطاعوا قتل القائد الإنجليزي أرل، وبقيت هذه القوة معسكرة في كربكان، ومن ثم قررت الحكومة البريطانية العدول عن الزحف بعد سقوط الخرطوم ومقتل جوردون، فارتدت الحملة خائبة إلى مصر في يونيو سنة 1885م.
وكان أتباع المهدي استطاعوا اقتحام الخرطوم في 26 يناير سنة 1885م، بعد حصار طويل، وقتلوا الجنرال جوردون (Gordon) في قصره، بعدما قتل في هذه المعركة نحو 24 ألف من سكان الخرطوم، وثمانية آلاف من الجنود المدافعين عن المدينة، وكان لسقوط الخرطوم ومقتل جوردون دوي كبير في مصر وفي العالم، إذ كان إيذاناً بانحلال الحكم المصري على السودان، وعلو شأن المهدي في السودان .
وفاة المهدي:
أصيب المهدي في يونيو سنة 1885م بحمى التهاب السحائي الشوكي، لم تمهله بضعة أيام حتى توفي في يوم 22 يونيو سنة 1885م، وهو في أوج قوته، وتولى حكم السودان من بعده خليفته عبد الله التعايشي، والذي لم يكن بكفاءته، مما أدى إلى تراجع التأييد لثورة المهدي، وحدوث خلاف بينه وبين كبار أنصار المهدي، ولكن التعايشي فرض سيطرته على أغلب السودان، وقامت مصر بالتراجع عن السودان إلى حدود وادي حلفا، ولكن استمرت المناوشات والمعارك في المناطق الحدودية خلال سنوات 1885-1891م، ولكن حالة السودان ساءت في عهد حكم التعايشي، وانتشرت المظالم والهمجية، واشتدت المجاعة بالناس، فمات الناس جوعاً خاصة عام 1889م، وفتكت الأمراض بالناس، وكان ذلك من علامات زوال حكم التعايشي في السودان، بعد أن أدى إلى نشر الخراب في نواحيه.
القضاء على الثورة وعودة الاحتلال البريطاني المصري:
قررت بريطانيا تجهيز حملة مصرية بريطانية مشتركة بقيادة بريطانية عهد إليها مهمة احتلال السودان، ورغم مقاومة الخديوي والوطنيون المصريون لهذه الفكرة، ورفض صندوق الدين المصري الموافقة على تغطية نفقات الحملة، إلا أن بريطانيا كانت مصممة وغير مكترثة بالمعارضة، فساهمت بريطانيا بثلث نفقات الحملة، وقدمت ثلث قواتها، وفتحت لمصر حساباً جارياً بفائدة 2.5% لتغطية باقي النفقات، وتحركت الحملة المكونة من 8200 بريطاني، و20.000 مصري وسوداني، في أيار سنة 1898م بقيادة هربرت كتشنر، واحتلت دنقلة، وهزمت خليفة المهدي عبد الله التعايشي، وأجبرت قوة فرنسية على إخلاء فاشودة .
وبينما كان كتشنر يتوجه جنوباً، عبأ التعايشي قواته وقد عقد العزم على مقاومة الغزاة، غير أن الأنصار، بقيادة الأمير محمود أحمد، لم ينجحوا في محاولتهم صد هجوم الأعداء في معركة عطبرة في 8 أبريل 1898م، وقد قتل في هذه المعركة حوالي ثلاثة آلاف سوداني، وجرح أكثر من أربعة آلاف، ووقع محمود أحمد في الأسر، وأودع السجن في رشيد بمصر، حيث توفي بعد بضع سنوات، وعقب هزيمة عطبرة، قرر الخليفة التعايشي مواجهة جيش كتشنر بالقرب من عاصمته أم درمان، لأنه أدرك أن صعوبات التموين والنقل ستحول دون تحرك أية قوات كبيرة من الجنود، ومن ثم فقد حارب السودانيون جيش كتشنر ببسالة فائقة في معركة كراري في الثاني من سبتمبر سنة 1898م، ولكنهم هزموا مرة أخرى نظراً لتفوق الأسلحة التي استخدمها العدو، وقد قتل نحو أحد عشر ألف سوداني وجرح نحو ستة عشر الفاً منهم، وعندما أدرك الخليفة أنه قد خسر المعركة، تراجع إلى شرق كردفان حيث كان يأمل في حشد مؤيديه وشن هجوم جديد على الغزاة في العاصمة، وقد ظل يمثل مشكلة للإدارة الجديدة طوال عام كامل، إلى أن هُزم نهائياً في معركة أم دويكرات في 24 نوفمبر سنة 1899م، وبعد انتهاء المعركة عُثر على الخليفة وقد فارق الحياة على سجادة صلاته المصنوعة من فرو الأغنام، بينما قتل جميع قادة الحركة المهدية وزعمائها أو سجنوا، وكانت تلك الهزيمة هي الفاصلة في انهيار الدولة المهدية .