الإسلامجي.. جناية البخاري في دولة دعاة الدم
الأربعاء 22/يوليو/2015 - 03:21 م
طباعة

اسم الكتاب – الإسلامجي – أسرار دولة الشيوخ الخاصة
الكاتب – الدكتور محمد الباز
الناشر – كنوز – القاهرة 2015
تتعدد الاهتمامات الفكرية للكاتب الصحفي الدكتور محمد الباز رئيس التحرير التنفيذي لجريدة ومجلة البوابة الذي يتميز بغزارة الإنتاج وتنوعه ومؤخرًا صدر له كتاب (الإسلامجي – أسرار دولة الشيوخ الخاصة)، والذي يسجل فيه معاركه الصحفية على مدار 16 عامًا هي مقدار عمره الصحفي مع أدعياء الإسلام السياسي. والكتاب الذي يقع في 294 ورقة من الحجم الكبير ككل كتب الباز يحفل بالأسرار والجراءة والأهم يكشف أن معركة تنقية التراث بداية مبكرًا جدًّا على يديه قبل أدعياء كثيرين ظهروا مؤخرًا، وقالوا: إن لهم السبق في هذا الطلب حيث يكشف الكتاب تفاصيل تبني الباز لتعريف المجتمع المصري لكتاب جناية البخاري للباحث السوري زكريا أوزون وملابسات هذا الكتاب المهم فيقول:
جناية البخاري
"كنت قد قررت أن أطوي هذه الصفحة تماماً، فقد اختبرت فيها المجتمع فوجدت صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء، بدأت القصة كلها عندما حصلت على كتاب «جناية البخاري» للباحث السوري زكريا أوزون بالصدفة.
لم يكن الكتاب جديداً لكنه وقع في يدي في مارس 2007، قرأت الكتاب وأنا أعرف جيداً ما اجتمع عليه الناس من أن كتاب البخاري الذي جمع فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وله قداسة تمت ترجمتها بالحس الشعبي إلى كلمة تقال عندما يخطئ أحدهم في شخص ما وعندما يجد استنكاراً لما فعله يقول بتلقائية شديدة: "يعني غلطت في البخاري"، والمعنى واضح؛ فكل خطأ يهون إلا الخطأ في البخاري.
لم أجد في كتاب «جناية البخاري.. إنقاذ الدين من إمام المحدّثين»، الذي كتبه الباحث زكريا أوزون، خطأ واحدًا للبخاري، ولكني وجدت أخطاء عديدة من وجهة نظر الباحث بالطبع، فأحاديثه التي رواها ولا يشك أحد – مجرد شك – في أنها منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم معارضة شديدة مع آيات القرآن الكريم، كما أن فيها إساءة بالغة للرسول نفسه، وليس معقولاً أن يقول الرسول ما يعارض به القرآن أو ما يقدح به في حق نفسه.
تملكتني فكرة أن هذه المعاني التي يضمها الكتاب بين صفحاته ولا يعرف الناس عنها شيئًا من حقهم أن يعرفوها ويطلعوا عليها، فالأمر خاص بنبيهم الأعظم الذي يثورون من أجل كرامته ولا يرضون له الإهانة، فكيف والإهانة آتية هذه المرة ممن يعتقد الناس أنهم يبنون صورة الرسول ويحافظون عليها".
جناية الإمام البخاري على الرسول

منذ قرون طويلة والراسخ في أذهان الناس أن كتاب «صحيح البخاري» هو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وذلك كما يعتقد الناس لأنه يجمع في سطوره أصح الأحاديث التي تحدث بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، نال الكتاب وصاحبه لوناً من القداسة جعلت الاقتراب منه ضرباً من الجنون، بل إن نقده أو انتقاده يعتبر في عرف البعض من السطحيين اعتداء على الإسلام إن لم يكن خروجاً عليه وكفراً به.
وحقيقة الأمر أني أتشكك في أن يكون الإمام البخاري سمى كتابه صحيح البخاري، فهو لو فعل هذا لكان لوناً من الغرور، فمعظم كتب الحديث يطلق عليها الجامع أو المسند، أما كلمة الصحيح هذه فهي تصدير من صاحبها أن كلامه هو الصواب وكلام غيره الخطأ، قد تكون كلمة الصحيح أضيفت إلى ما جمعه البخاري من أحاديث بعد ذلك ممن رأوا أن أحاديثه تحقق مصلحة مباشرة لهم.
ولأنه لا صحيح يظل إلى الأبد صحيحاً، فقد اجتهد عدد من علماء الأزهر وطالبوا بإعادة النظر مرة ثانية فيما ورد في كتاب البخاري من أحاديث وفرزها واستبعاد ما يتناقض منها مع بعضه ويتعارض مع القرآن الكريم؛ باعتباره المرجعية الأولى والأساسية لكل ما هو إسلامي، لكن للأسف الشديد كان يتصدى لهذه المحاولات علماء آخرون من الأزهر يرفعون سيف الإرهاب الفكري في وجه كل من يفكر ولو مجرد تفكير في الاقتراب من حمى البخاري، وكأنه تحول في لحظة إلى معصوم من الخطأ لا يمكن لأحد أن يراجع كلامه.
كنت أنظر إلى هذه المعركة الكلامية بإشفاق شديد، حتى وقع في يدي كتاب «جناية البخاري» الذي يتبنى فيه مؤلفه زكريا أوزون الدعوة إلى إنقاذ الدين من إمام المحدثين.. بعد أن خرجت من سطوره أدركت أن الغاية من الكتاب ليست التجني على الإمام البخاري أو التشكيك بحسن نياته ومقاصده التي رافقته في إعداد كتابه، لكنه عبارة عن دراسة؛ من أجل التأكيد على أن ما جاء في صحيح البخاري ليس وحياً مقدّساً من السماء، بل هو قابل للنقد والمراجعة أو الرفض على الرغم من الهالة والقداسة اللتين نُسجتا حوله من قبل الآخرين على مر أكثر من ألف عام.
وفي الوقت الذي يرى فيه الكثيرون أن الإمام البخاري اجتهد ولن يحرم من أجره عند ربه فإن صاحب «جناية البخاري» يرى فيه أنه أول من ساهم في الخلط بين الوحي المنزل من عند الله وكلام البشر، وهو ما خلق حالة من التخبط والتقارب في عقول معظم المسلمين، وقد انعكست آثار ذلك في جميع جوانب حياتهم اليومية حتى الآن، هذه إذن محاولة للإعلاء من قيمة العقل الذي رفعه الله مكاناً عليًّا، محاولة ترفض التسليم والخضوع، وضعت أدوات التفكير على مائدة البحث العلمي وجلست تناقش وتقارن وتنتقد حتى نعرف الغث من السمين، والصحيح من الباطل فيما نسب إلى الرسول من أقوال وأفعال.
أعرف أن هذه المحاولة مزعجة لهؤلاء الذين اختاروا الراحة وفضلوا أن يعيشوا في سكون تام، لكن من قال إنني أريد لأحد أن يرتاح أو يخلد إلى السكينة، لقد تم استعمارنا لقرون طويلة بأحاديث كاذبة نسبت زوراً وبهتاناً وطُلب منا أن نصلي لها آناء الليل وأطراف النهار وكأننا بلا إرادة ولا عقل، من أراد أن يكتشف إسلامه من جديد فليقرأ، ومن يُرِد النوم هانئًا وسعيداً ومستريحاً فليلزم الصمت... فالصمت هنا أجدى وأنفع.
الجناية على القرآن... يحاول أنصار الحديث الإيحاء بأن تفسير القرآن الكريم يمكن أن يتم بواسطة بعض الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، وهو أمر صعب، فتفسير وشرح ما يزيد على 6 آلاف آية لا يمكن أن يتم بما يقارب 2762 حديثاً وهو مجموع ما ورد في صحيح البخاري بعد استثناء المكرر منها بالطبع ولذلك أسباب عديدة:
أولاً: هناك حديث في البخاري روته السيدة عائشة قالت فيه إن أول آية نزلت من القرآن هي آية اقرأ، وحديث آخر رواه جابر بن عبدالله الأنصاري فيه أن أول ما نزل من القرآن كان آية {يا أيها المدثر}، توجد إذن روايتان حول نزول أول آيات الذكر الحكيم، وإذا كان السادة العلماء الأفاضل اعتمدوا رواية اقرأ في أحاديثهم ودعواتهم أو في تسمية بعض قنواتهم الفضائية، فعليهم أن ينزلوا الرواية الأخرى من صحيح البخاري ليصبح لاعتمادهم مصداقية وموضوعية علمية.
ثانياً: وكما هناك اختلاف في الأحاديث على أول آية، فإن هناك اختلافاً حول آخر آية، في حديث عمر بن الخطاب أن الآية الأخيرة هي {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، لكن في حديث ابن عباس أن آخر آية هي «ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم».
ثم يأتي البخاري بعد ذلك بحديث رواه البراء يقول: إن آخر سورة نزلت هي براءة وآخر آية نزلت هي «ويستفتونك»، هناك اختلاف إذن في تحديد آخر آيات التنزيل بين الصحابة الذين يخطئون ويصيبون كغيرهم من الناس، وكان على الإمام البخاري تحري الأصح والأدق من الحديث واعتماده خصوصاً أنه كان أقرب في زمانه وعهده إلى الصحابة والسلف منا اليوم.
ثالثاً: هناك أحاديث كثيرة تشير إلى أن الله كان يستدرك فيضيف أو يحذف بعض الآيات بعد أن تنزل على الرسول في أول الأمر منها حديث سهل بن سعد قال: أنزلت «وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود»، ولم ينزل «من الفجر»، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله {من الفجر}، وهناك حديث آخر للبراء قال فيه: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول الله زيداً فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت {غير أولي الضرر}.
مثل هذه الأحاديث كثيرة وهي تظهر أن هناك تعديلاً للتنزيل الحكيم ليصبح ملائماً لمتطلبات الصحابة وهو ما لا يُقبَل عندما يعتبر القرآن وحيًا مقدساً من الله عز وجل.
رابعاً: جاء في صحيح البخاري كذلك أحاديث نسخت أو أسقطت آيات من القرآن الكريم لأسباب نجهلها ولم يستطع أحد من العلماء تقديم مبرر لها، ويظهر هذا من حديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ورجمنا من بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ومن نص الحديث نرى أنه منسوب إلى الصحابي عمر بن الخطاب قول لا إلى الرسول الكريم، ولا يوجد قول لرسول الله في صحيح البخاري يؤكد بقاء حكم تلك الآية ونسخ لفظها، ولا ندري ما الحكمة من نسخ اللفظ وبقاء الحكم، ولا يوجد كذلك آية في كتاب الله تتحدث عن عقوبة رجم الثيّب حتى الموت، علماً بأن الأحكام الشرعية في القرآن واضحة ولجية، ففي الآيات الواردة في سورة النور (الآية السادسة حتى التاسعة) لا يوجد ما يشير إلى رجم الثيب بعد الزنى.
خامساً: هناك حديث في البخاري يمثل جريمة كاملة، هو حديث عائشة قالت: سمع النبي قارئًا يقرأ من الليل في المسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا.. آية أسقطتها من سورة كذا وكذا، ويظهر من هذا الحديث أن أحدهم ذكر الرسول بآية أسقطها من سورة لم يذكر اسمها، ولم يهتم الإمام البخاري بأحاديث أوردها في صحيحه بأن جبريل وحده كان صاحب الحق في مراجعة الصادق الأمين وتذكرته بالقرآن الكريم، كما أنه لم يهتم بإسقاط آية من الذكر الحكيم، ولكنه أوجد باباً لم يرَ بأساً بأن يسمى سورة في القرآن بكذا وكذا.
نحن، إذن، أمام أحاديث ضالة تأخذ من الإسلام أكثر مما تعطيه، لقد استراح المسلمون مثلاً واطمأنوا إلى بعض الأحاديث القدسية التي وردت في صحيح مسلم مثل حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ينزل ربنا تبارك وتعالي كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفر فأغفر له، فالحديث واضح في ألفاظه ومعانيه، لكن يحق لنا أن نتساءل عن كيفية نزول الله إلى الأرض السابحة في الفضاء الكوني والسماء فوقها وتحتها، وهل يحتاج الله إلى النزول في الثلث الأخير من الليل كي يلبي دعوة عبده ليعطيه ويغفر له؟
إن معظم ما جاء في البخاري من الأحاديث القدسية من صفات لله عز وجل غير ملائمة لاعتمادها على التشخيص وبُعدها عن المجاز والمجرد، على الرغم من محاولة معظم الفقهاء إقناعنا بغير ذلك، فقد ورد في «البخاري» أن لله ساقاً يكشفها يوم القيامة ليعرفه المؤمنون، وهو يحمل على كل إصبع من يده جزءاً من الكون كالسماوات والشجر والأرض، فهل هناك هدم وتشويه للقرآن وحالة تلقي الرسول له أكبر من ذلك؟ وهل يمكن لأحد أن يخصم من قداسة القرآن وكيف كان ينزل على الرسول بمثل ما فعل البخاري بأحاديثه؟
أعتقد لا.
الجناية على الرسول.. في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم حالة نادرة من احترام الاعتقاد والتعبير والرأي عند الآخرين، لكن للأسف الشديد فقد أظهر البخاري الرسولَ من خلال أحاديثه بصورة مناقضة تماماً، فالرسول في ثلاثة أحاديث رواها جابر بن عبدالله والبراء وأنس بن مالك أمر بالتصفية الجسدية للمعارضة الفكرية له، وهو أمر لا يمكن قبول نسبته إلى الرسول الذي أرسله الله رحمة للعالمين والذي عفا عمن حاولت قتله، فما بالنا بمن خالفه الرأي والرؤية؟
لقد ظهر من هذه الأحاديث أن الرسول أمر بقتل كعب بن الأشرف وقام بذلك الصحابي محمد بن مسلمة بمساعدة أبي نائلة أخي كعب من الرضاعة حيث اغتالاه ليلاً بعد خداعه، وكعب بن الأشرف من كبار يهود بني النضير ومن أصحاب النفوذ الفكري والمادي في شبه الجزيرة العربية، وهو شاعر وفارس له مناقضات مع شاعر الرسول حسان بن ثابت وقد اتهم بهجائه للنبي، أقر البخاري ذلك في أحاديثه وهو أمر ليس علينا أن نقره.
فإن الذين نفذوا تلك الجرائم الوحشية من الصحابة ونسبت إلى الرسول الكريم كانوا مفعمين بالعصبية والطائفية والقبلية التي لم تلبث، إلا أن ظهرت بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى في معارك وفتن طاحنة كموقعتي الجمل وصفين وموقعة الحرة وغيرها، وإذا كان الامام البخاري قريب عهد من تلك القبلية والعصبية ولم يجد في تقبل تلك الأحداث وإثباتها في كتاب أي مشكلة، فعلينا هنا والآن أن نرفض قبولها كسنة نبوية والتعامل معها على أنها حوادث تاريخيه سياسية لا علاقة للدين الحنيف بها.
وكما ظهر الرسول في أحاديث البخاري محرّضًا على الاغتيال، فقد أظهرته أحاديث عديدة محرضاً على الغزو، فأحاديث مثل:
• بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب.
• أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
هذه الأحاديث وغيرها بالطبع تبين أن رسول الرحمة أمر بالغزو وحض عليه، فمن لم يغزُ أو يحدث نفسه بغزو فإنه إن مات ففيه جاهلية، وإن غاية الغزو ليست لنشر الدين الحنيف إنما لسلب المقتول وكسب الغنائم من سبايا وأموال لا يعوق جمعها قتل النساء أو الأطفال بعد قتل الأسرى من الرجال المقاتلين.
لا تقتصر الإساءة على القتل والغزو فقط لكنها تصل إلى حد تطبيق الحدود والأحكام، ففي حديث عن أنس أن نفرًا من عكل، ثمانية، قدموا على رسول الله فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض فسقمت أجسامهم فشكوا ذلك إلى رسول الله، قال: أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحّوا، فقتلوا راعي رسول الله فأرسل في آثارهم فأدركوا، فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا.
هنا مبالغة في تطبيق حكم القتل، وإذا كان البعض يرى أن الرسول لم يكتفِ بتطبيق حد القتل فيهم: النفس بالنفس، بل طبق حد الحرابة بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، فهل يعني أن سمل أعينهم ونبذهم أحياء ليموتوا متأثرين بجراحهم تحت الشمس هي سنة نبوية نقتدي بها؟ وهو ما طبقه لاحقاً بعض الصحابة والخلفاء بحق الآخرين، كما فعل عبدالله بن جعفر بعبدالرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي، وكما فعل الخليفة المنصور بابن المقفع، وإذا كان البخاري يرى فيما حدث منظراً مألوفاً وسنة لرسول الله فإننا نرفض رؤيته خاصة أن هناك حديثاً آخر أثبته البخاري نفسه في صحيحه.
فعن أنس بن مالك قال: عدا يهودي في عهد رسول الله على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها ورضح رأسها فأتى بها أهلها رسول الله وهي في آخر رمق، وقد اصمتت فقال لها رسول الله: من قتلك.. أفلان؟ (لغير الذي قتلها) فأشارت برأسها أن لا، فقال لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت أن لا، فقال فلان (لقاتلها) فأشارت أن نعم، فامر به رسول الله فرشخ رأسه بين حجرين، في هذا الحديث يظهر أن عقوبة القاتل القتل: النفس بالنفس وبنفس الأسلوب، ومع أن القاتل هنا سلب وسرق ضحيته الجارية لكن مع ذلك لم يطبق عليه ما يسمى حد الحرابة أو ينكل أو يشهّر به.
أما هذه فمصيبة ثانية، يقول عبدالله بن الزبير إن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي، فقال رسول الله للزبير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. ويضيف الزبير إلى الحديث قوله: والله لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}.
وجه المصيبة أن الحديث يظهر بوضوح اعتراض وغضب رجل من الأنصار على حكم رسول الله واتهامه صراحة بالانحياز لصالح ابن عمته الزبير في حكمه ولم يراجعه الرسول في ذلك بل احتد عليه، وكأن الاتهام كان صحيحاً.
إن مثل هذه الأحاديث لا يمكن أن ينطق بها رسول جاء من السماء بالرحمة والعدل، بل إن أغلب الظن أنها وضعت على لسانه لغايات سياسية دنيوية بحتة، غايتها قتل المعارضين وتعذيبهم وتبرير الانحياز والولاء إلى الأقارب وغيرهم من الأصدقاء.
وقد قال عثمان بن عفان ما يؤكد ذلك عندما كان يجلس في جماعة من صحابة النبي فيهم عمار بن ياسر ليبرر انحيازه لبني أمية حيث قال لهم: إنني أسألكم وأحب أن تصدقوني: نشدتكم بالله أتعلمون أن رسول الله كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على قريش؟ فسكت القوم فقال عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا عن آخرهم.
لو أن أحد خصوم الرسول التاريخيين أو حتى المعاصرين أراد تشويه صورته والإساءة إليه لما استطاع أن يفعل مثلما فعل الإمام البخاري.. إن كل الأساطير التي نسجت حول تدقيقه وتوثيقه للأحاديث ليس إلا خيالاً في خيال، لقد استنطق الرسول بما لم ينطق به وتعامل مع ذلك على أنه واقع يجب أن نسمع له رغم أننا يجب أن نرفضه، ليس بغضاً للبخاري، ولا انتقاصاً من قدره ومجهوده، لكن حباً وكرامة للرسول صلى الله عليه وسلم.
الجناية على الصحابة.. وكما لم يسلم القرآن والرسول من أخطاء الإمام البخاري، فإن صحابة الرسول لم يسلموا كذلك، لقد كانوا بشراً لهم تجربتهم الرائعة مع الرسول، كانوا يتحابون ويتباغضون، يتفقون ويختلفون، يتقاربون ويتباعدون، لكن التابعين بالغوا بشكل مؤسف في تصوير مكانة وصفات الصحابة فجعلوهم كالملائكة إن لم يكن أكثر منهم، رغم أن العقل يقول إن الصحابة كغيرهم من الناس فمنهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم البخيل ومنهم الكريم ومنهم الحكيم ومنهم الساذج، ومنهم الشجاع ومنهم الجبان، لكن أحاديث البخاري فيها كثير غير ذلك.
ففي حديث أنس بن مالك قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ومعها صبي لها فكلمها رسول الله فقال: والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلىّ مرتين، وفي رواية قالها ثلاث مرات، ويبين الحديث مكانة الأنصار الرفيعة وحب الرسول لهم وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، حيث خصص باباً لمناقبهم وقد عظمهم الرسول حيث قال: لو سلكت الأنصار وادياً أو شِعْبًا وسلك الناس غيره لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم، ومع ذلك فإن الإمام البخاري لم يجد أي تناقض في ذلك مع ما جاء في بعض كتب صحيحه، حيث استبعد الرسول الأنصار من الإمارة أو حتى طلبها، وتنبأ لهم بظلم وعذاب قادم في الدنيا وحرمهم من العطايا والغنائم التي كانت توزع للمهاجرين من قريش، أكثر من ذلك فإن العشرة المبشرين بالجنة جميعهم من المهاجرين من قريش.
إن أقوال وأفعال الصحابة هي أعمال إنسانية بشرية لا تمثل شرعاً ولا ديناً ولا قدسيةَ لها، وهم كغيرهم من الناس يخطئون ويصيبون وينجحون ويفشلون وأمرهم كغيرهم مفوض إلى الله، ومحاولة تقديس أقوالهم وأفعالهم وتخصيص أبواب لهم في الفضائل تجعل الإسلام في مأزق حقيقي الآن، لقد رأى الصحابة أنفسهم من خلال أقوال النبي التي صحت وقالها فعلاً أوامر وقتية تصلح لحالهم وزمانهم ومكانهم ولا يمكن إسقاطها وقبولها في كل زمان ومكان.
إن الصحابة لم يفكروا عندما شعروا بدنوّ أجل الرسول في جمع حديثه وكلامه؛ لأنهم يعرفون أنه ترك فيهم ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القرآن الكريم.
وهذا حديث يؤكد ذلك ويدل عليه، بقول ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء: قال اشتد برسول الله وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال هجر رسول الله، قال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.. ونسيت الثالثة.
ثم إنه بعيداً عن فهم واتهامات المذاهب الإسلامية المختلفة من سنة وشيعة وغيرهما التي تتعلق بالموقف من الصحابة، فإن تصرف الصحابة وقتها كان تصرفاً إنسانيًّا عاديًّا طبيعيًّا قد يحتمل الصواب وقد يحتمل الخطأ، ولا يحق لأي إنسان أن يبشر غيره من الناس بالجنة أو يتوعدهم بالنار، لأن ذلك تعدٍّ على حقوق الله وعلمه ورحمته.
ويصل البخاري إلى أن يصور الرسول مع الصحابة رجلاً يحرض على الهجاء في حديث البراء، قال النبي لحسان: اهجهم أو هاجمهم وجبريل معك .. فهل كان الرسول يستغل أصحابه بأن يأمرهم بهجاء المعارضين فهو أمر فيه شك، إذ كيف نقبل بعد ذلك: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وأن يكون جبريل أمين الوحي مع الشاعر حسان بن ثابت بهجائه بحيث يصبح شعره مؤيداً من السماء، فهذا أمر لا يمكن قبوله أبدًا.
الإسلامجي
يضم ثلاثة كتب: الأول أسرار دولة الشيوخ الخاصة ويكشف تفاصيل حياة بعض الدعاة منهم خالد الجندي ومحمد حسان، والثاني بعنوان دعاة الثروة والنساء والفضائيات ويدور حول أثرياء الله وزواج المتعة في حياة الشيوخ والبيزنس والنساء في الفضائيات الإسلامية، والكتاب الثالث يقدم قضايا فكرية وقلقة ومقلقة مثل جناية البخاري وسقوط أكبر راو لأحاديث الرسول والكتاب الرابع دعاء ودماء ويتعرض لحياة طه السماوي وعبود الزمر وبيزنس التائبين. فيجمع بين الفكر والمتعة والسير الذاتية والإسقاط على الحياة المعاشة والرؤى المستقبلية.