عبد الجواد ياسين.. وكتابه "الدين والتدين"
الجمعة 06/سبتمبر/2019 - 02:08 م
طباعة
الكتاب: الدين والتدين "التشريع والنص والاجتماع"
المؤلف: عبد الجواد ياسين
دار النشر: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع
في عمله هذا يدرس الكاتب "عبد الجواد ياسين" فكرة "هل يمكن للقانون الذي يعالج معطيات نسبية ومتغيرة أن يكون جزءا من الدين كحقيقة مطلقة" ؟ إذ يرى الكاتب أن التدين أدى إلى تضخيم الدين بحيث صار ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق في منطوق البنية الدينية التي تعمم على مكوناتها، تلقائيا، صفة القداسة المؤيدة، على اعتبار أن الدين يقدم ذاته كحقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع.
وترجع أهمية الكتاب في انه يقدم قراءة معمقة في التشريع النصي، ويتتبع مساره، ويرصد العلاقة بين المؤثرات الاجتماعية الجديدة وفي مقدمتها ظهور الدولة، والفتوح، وصولا إلى تداعيات الصراع السياسي التي أفرزت المذهبية، وكذلك التطور الذي طرأ على بنية الفقه خصوصا في شقه النصي (القرآني) .. وهو يتساءل: هل نجا هذا الشق بسبب نصّيته من آثار التعددية التي فرضها الصراع المذهبي على بنية الفقه عموما؟ إلى آخر ذلك من أسئلة إشكالية تبدأ من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى عصرنا الراهن.
قسم الكتاب إلى فصلين جاء الفصل الأول بعنوان: الاجتماع المنصوص: النص في سياق النزول، والفصل الثاني بعنوان: النص في سياق التطور: تضخم البنية الدينية.
في القرون المتأخرة ومع ظهور الكيانات السياسية الحديثة طُرحت إشكالية الموقع الذي يحتله الدين من الدولة على عدة مستويات، ومن التساؤلات التي شغلت الكثير من الباحثين، الدور المنوط بالدين الإسلامي في السياسة والاجتماع خاصة، حيث انه على المستوى الفردي قلما يسفر النقاش المحتدم بين أطياف الفكر المختلفة، خلافات أو نزاعات حول العلاقات بين الله والإنسان في إطاره الوجداني الحرّ، وهكذا فمن الأسئلة التي لم يُحسم فيها الخلاف بشكل نهائي، طبيعة الدولة الإسلامية؛ هل هي دولة دينية أم مدنية؟ ثم هل التشريع الإسلامي قابل للتطبيق في الدولة المعاصرة؟ وقبل ذلك هل أتى الإسلام بتشريع متكامل يمكن تنزيله على واقعنا؟ وإذا كان التشريع الفقهي الإسلامي.. المباين اللاحق على نزوله كما هو معلوم لا يخلو من أحكام في مجالات التشريع الجنائي والمدني وغيرها فهل هذه الأحكام ملزمة مؤبدة أم أنها مجرد اجتهادات زمنية أملاها واقع اجتماعي معين؟ وحتى نطرح السؤال بصيغة أوضح تقربنا من الإشكالية التي تناولها الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة فيه؛ هل الأحكام التشريعية، سواء في اللحظات التأسيسية الأولى أو بعد عصر التدوين العربي الذي تزامن مع وضع فلسفة للتشريع ممثلة في أصول الفقه ذات طابع إلهي أم أنها امتداد لما كان سائدا في البلاد الإسلامية من أعراف تدخل في نطاق "الجاري به العمل".
يقول الكاتب: إن هناك الدين وهو الأخلاق الكلية العامة التي تخاطب البشر جميعا وهي جوهر الدين وكل الأديان ويعبر عنها في الإسلام الآيات الواردة في القرآن المكي، أما الآيات الواردة في القرآن المدني فهي آيات التشريع وهي تشرع لجماعة متحركة بالوقائع والأحداث ومن ثم فالنص بالضرورة يتضمن بعدا اجتماعيا له علاقة بالواقع الذي يجيب عن أسئلته. فالكاتب يرى أن النص التشريعي في الحالة المدنية له بعد اجتماعي يجيب عنه، وله واقع اجتماعي يتحرك فيه، ومن جهة أخرى هي لحظة الواقع الاجتماعي الذي يتجادل النص معه. هو يذهب إلى أن النص يتم تحميله مع التطور التاريخي للجماعة باجتهاد الجماعة في حركتها ومسيرتها وتحولاتها وتعقيداتها، وهو يرى أن ذلك هو التدين – أي إضافة رؤية الجماعة للدين، ويشرح كيف أن المؤسسة الدينية في الخبرة السنية ممثلة في الإمام الشافعي قد أسست لما يطلق عليه الرؤية السنية للنص والتشريع بحيث قطعت بشكل يكاد يكون كليا مع الواقع الجاهلي الذي اشتغل عليه النص القرآني وعالجه. إذ يسوق القاضي عبدالجواد ياسين أمثلة متعددة على معالجة النص القرآني للواقع الجاهلي، كما في حالات الزواج مثلا وكيف كان حوار النص القرآني بالأساس مع هذا الواقع، وبالطبع ضرب حالات متعددة مثل الجهاد وكيف أن الذهاب من جانب الفقه الإسلامي السني إلى أن آيات الجهاد تتجاوز ذلك الواقع إلى استنتاجات تفضى- كما يذهب– إلى مواجهة العالم كله وقتاله! عبدالجواد ياسين وهو يناقش علاقة التشريع بالنص كان متحررا بكل ما تعنيه الكلمة من عبء أي قيود مذهبية أو فكرية أو أيديولوجية، وهذه مسألة تعز في واقعنا المعاصر، لقد كان منحازًا فقط للانتصار للأخلاق الكلية العامة في الدين الإسلامي التي تحترم العدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية لأبعد مدى. التدين في الخبرة السنية– وفق عبدالجواد ياسين- حيث أضاف على الدين حمولة اجتماعية ظنها من جاء بعدهم من المسلمين دينا وهي تدين، أي أن التدين هو ميراث رؤية الجماعة لذاتها وللنص بعد اكتماله ومن هنا فهو يرى أن العقل السلفي تأسس مع رؤية الفقهاء القدامى للنص بعد اكتماله وإغلاقه بهذا الاكتمال ولأن الواقع متحرك فإن الجماعة خاصة الفقهاء والسلطة يسعون لفتح النص من خلال تأويله بما يتسق والمستجدات الجديدة. سوف نرى اليوم تحميلا هائلا للدين من خلال استدعاء التدين في عصر قديم، وهو ما يحتاج منا لموقف جديد يؤسس لعلاقة بين النص والواقع والتشريع بحيث تمنحنا كمسلمين معاصرين فرصة العودة لقيم النص الديني مع التخفيف من آثار التدين القديم وحمولته على الدين. لكل أمة تدينها، أي فهمها للدين، ولكل عصر تدينه، وهو ما يحتاج منا لاجتهاد جديد نبنى به تديننا المعاصر حول العلاقة مع العالم والعلاقة مع الإنسان والعلاقة مع التنمية والنهوض من التخلف، والعلاقة مع النظم السياسية، والقدرة على تقديم إجابات تديننا عن أسئلة عصرنا.
كما يمكن القول: إن كتاب القاضي عبد الجواد ياسين "الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع" مساهمة مهمّة حاولت أن تلقي أضواء كاشفة عن هذه الإشكاليات المؤرّقة، وتجيب على نحو جادّ عن الأسئلة التي طرحناها وخاصة منها السؤال الأخير. إننا نستطيع أن نقدّم فكرة أولية عن مضمون الكتاب بإعادة تركيب العنوان الفرعي، أقصد "التشريع والنص والاجتماع"؛ فالكاتب دافع عن أطروحة مفادها أن التشريع الوارد في النص أملاه واقع اجتماعي، هو نفسه ذلك الذي تزامن مع لحظة الوحي الأولى؛ أي واقع مكة/المدينة في القرن السابع الميلادي، وأن الحلول المضمّنة في النص، والتي عالج من خلالها المشاكل التي واجهها المسلمون الأوائل، والقوانين التشريعية المنصوصة في الكتاب لم تخرج عن نطاق العرف السائد في شبه الجزيرة العربية، إلاّ في مواطن قليلة عدل فيها الوحي من تلك القوانين العرفية حتى تتوافق مع الأخلاق الكلية.
ولكي نقرب رؤية الكاتب عن الدين والتدين، ينبغي أن نبدأ بتحديد الإطار الموضوعي الذي كان الباحث يتحرك فيه ومن خلاله. كما يمكننا حصر الاتجاهات التي استقى منها الباحث نتائج دراسته وأسّس عليها نظرته للعلاقة بين الدين والتديّن في اثنتين: أولهما الدرس السوسيولوجي، والثاني القراءة الاستشراقية. غير أنّ د. عبد الجواد ياسين لم يتبنَّ نتائج الدرس السوسيولوجي في مقاربته للظاهرة الدينية بحذافيرها، أقصد السوسيولوجيا الكلاسيكية، وحتى نفصّل رأينا هذا نقول؛ لقد كان "أوغست كونت" مؤسّس المدرسة الوضعية في علم الاجتماع بحكم التطور الاجتماعي الحاصل، يرى في الدين مرحلة من مراحل بنية الثقافة الإنسانية ككل، حاولت من خلال آلياتها "البسيطة" التي تتيح للإنسان إمكانات للاجتهاد العقلي تقديم تفسيرات للأسئلة التي تؤرق الفكر الإنساني، وكانت النتيجة بحسب هذه الرؤية تشكيل منظومة ضخمة من الأساطير والخرافات، وهكذا تنبأت المدرسة مع ظهور "العلم التجريبي" وتطوّره بانقراض الظاهرة الدينية؛ لأنّ العلم بأدواته المنهجية الدقيقة سينوب عن الدين في تفسير الوجود.
وإذا كان د. عبد الجواد ياسين يرفض هذا التصوّر، فإنّه يقترب بشكل كبير من رؤية "ماكس فيبر"، وإن كان يطبّق مضمون خلاصات فيبر في مقاربته للظاهرة الدينية في علاقتها بالاجتماع على المستوى التشريعي القانوني، متحفظا عن تطبيق نتائجها على "الدين في ذاته"؛ فعالم الاجتماع "ماكس فيبر" يرى أنّ "كلّ تطوّر اجتماعي يخلق تطوّرا دينيا، كما أنّ كلّ تعدّدية في البنى الاجتماعية تفرز تعدّدية في الرؤى الدينية"، وهي فكرة يقول بها د. عبد الجواد ياسين على نحو انتقائي. أما تحليلات "أرنست ترولتش" فتتقاطع بشكل كبير مع التحليل الذي يقدمه عبد الجواد ياسين في كتابه هذا، إنّهما معا ينطلقان من كون الوحي حقيقة مفارقة، والاتصال البشري بالسماء ممكن من خلال الوحي، غير أنّ البنية الدينية كما يقول هذا العالم السوسيولوجي "واصلت حضورها في هذا العالم عبر البشر الخاضعين لقوانين الاجتماع فتخلقت حول الفكرة محتويات ثقافية كانت تتغير بتغير الزمان والمكان والمجتمع البشري الذي تشتغل فيه"، والفرق بين التصوّرين يكمن في كون عبد الجواد ياسين، يرى أنّ "الدين في ذاته" الذي ينكر "إيمانويل كانط" حقيقته، لا يمكن تمثله كما هو في صورته كمادة خام، إذ الدين في ذاته ينبصم ببصمة الذات على مستويين، الإدراك والتعبير، يقول عبد الجواد ياسين شارحا تصوره هذا " إنّ الفهم الناجم عن ملامسة النص ينبصم ببصمة الذات مرتين؛ الأولى عند إدراكه (تلقيه داخل الذات) ولدى التعبير عنه (تعديته خارج الذات)"، وهكذا خلافا لتصوّر "أرنست ترولتش"، الدين كمعتقد عندما يتحول إلى لاهوت أي تصور مبرهن عليه أو معبر عنه فقط يفقد حسب عبد الجواد ياسين ماهيته كحقيقة وجدانية تستعصي على التعبير، وهذا ما يفسر اختلاف التصورات العقدية في السياقات التوحيدية الثلاثة رغم مصدرها الواحد، بل واختلاف الرؤى العقدية بين الفرق الكلامية على صعيد الدين الواحد.
إنّ هذا التمييز تتجلى أهميته في قدرته على تقديم تفسير للظاهرة الدينية التي تفقد شيئا من "حقيقتها" مع التطور التاريخي، لكنها مع ذلك تظل حاضرة حضورًا عنيدًا؛ فالعقل الاجتماعي التجريبي كما يسميه عبد الجواد ياسين بشر بمراحل قادمة يغيب فيها الدين، لكن المفارقة التي يوقفنا عليها التاريخ في هذه اللحظات أن الدين لم يختف، بل ما زال يواصل حضوره على المستوى الوجداني للإنسان، إن التحليل السوسيولوجي كما يرى عبد الجواد ياسين لم يدرس إلا "التدين"، وبحكم أن هذا الأخير هو القابل للرصد، باعتباره مجموعة تشريعات يقحمها العقل الديني بتعسف في خانة المطلق، وبحكم أنه كذلك كما أثبتت الدراسات ينتج عادة من الأعراف التي تكون معتادة في مجتمع ما قبل ظهور النبي، بل ولأنها إضافة إلى ذلك تتغير وتُتَجاوز، كما هو الشأن مع التقاليد الدينية التي اخترقتها بنية الحداثة، فإن هذا العقل التجريبي يحكم بخفة وتسرع بأن الظاهرة الدينية ككل ليست إلا تجليا للحراك الاجتماعي، فيمط نتائجه التي يتوصل إليها من خلال مقاربته للتدين على الدين نفسه؛ أي الظاهرة المفارقة للإنسان، يقول عبد الجواد ياسين: "العقل التجريبي الاجتماعي، وهو يعمم نتائجه على مجموع البنية الدينية، أنكر ما هو مطلق في الدين واعتبره في مجمله ظاهرة تاريخية من صنع الاجتماع"، وهكذا فالدكتور عبد الجواد ياسين تبنى نتائج الدرس السوسيولوجي في مقاربته للظاهرة الدينية تبنيا جزئيا محصورا في الجانب التشريعي منه.