البابا "بولس السادس".. أبو الإصلاح في الفاتيكان
الثلاثاء 06/أغسطس/2024 - 09:27 ص
طباعة
روبير الفارس
"لا يوجد شيء جديد يخشاه الله " هذا هو الشعار الذي رفعه بابا الفاتيكان بولس السادس الثاني والستون بعد المائتين بين 21 يونيه 1963 و6 أغسطس 1978 والذى من خلال تطبيقه لهذا الشعار في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي جدد دماء الكنيسة حصل علي عدة القاب منها "بابا الإصلاح" و"بابا الحوار" و"بابا المصالحة" و"البابا الرحالة" و"بابا المجمع". فأما "بابا الإصلاح"، للإصلاحات الإدارية والطقسيّة العديدة التي أدخلها مبتدئًا بالقداس الإلهي حسب الطقس اللاتيني والذي لم يكن قد عدل منذ مجمع ترنت عام 1563 مرورًا بغيرها من القضايا الطقسية البارزة التي أقرها المجمع الفاتيكاني الثاني على رأسها لغة الطقوس الدينية فجعل الصلوات باللغات المحلية غير اللاتينية – أي اللغات المفهومة - إلى جانب الإصلاحات الإدارية التي شملت إشراك العلمانيين – من غير رجال الدين - في إدارة الكنيسة بشكل أكبر، فضلاً عن تخفيف مظاهر العظمة والبذخ المرافقة لشخص البابا واستحداث إدارات ولجان ومجامع جديدة في الفاتيكان ومأسستها. و"بابا الحوار" و"بابا المصالحة" لأنه أبدى انفتاحًا كبيرًا على غير الكاثوليك لاسيمّا الكنائس الأرثوذكسية الشرقية توجت برفع الحرمان المتبادل منذ العام 1054 بين الكنيستين – حيث كانت الكنيستين تعتبر كل منهما محرومتين اقرب الي معنى الكفر وكذلك الحال مع الإنجليكان، وأما "البابا الرحالة" لأنه أول بابا يغادر الفاتيكان في رحل خارجيّة حول العالم منذ أن اعتكف البابا بيوس التاسع عام 1870، كما أنه أكثر بابا قام برحلات في زمنه، شملت مناسبات هامة كإلقاء أول خطاب لبابا الكنيسة الكاثوليكية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويعرف باسم "بابا المجمع" نسبة إلى المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أكمل دوراته الثانية والثالثة والرابعة وختم أعماله وأصدرها بدساتير ووثائق، في 8 ديسمبر 1965، وأشرف على تطبيق مقرراته.وهي قرارات اصلاحية كبري انقذت الكنيسة من الجمود واعادت اليها الحيوية لدرجة ان المجمع اصبح نبراس يطلبه كل من يريد ان يخرج من حالة الركود والتكلس . ومؤخرا تردد اصوات في الكنيسة القبطية الارثوذكسية تطالب بعقد مجمع مشابه للخروج بها من حالة الجمود الانية
في طريق الإصلاح
ولد بولس السادس باسم جيوفاني باتيستا مونتيني في ولاية لومبارديا الإيطاليّة عام 1897، والده هو المحامي جورجيو مونتيني ويعمل أيضًا كصحفي ومدير العمل الكاثوليكي وعضو في البرلمان الإيطالي، وكانت والدته غيوديتا من العائلات الريفية النبيلة في إيطاليا. درس جيوفاني في أسيزي ضمن مدرسة يديرها اليسوعيون، وفي عام 1916 حصل على شهادة الدبلوم، وانخرط في الدراسة اللاهوتية ورسم كاهنًا في 29 مايو 1920، وفي العام نفسه ختم دراسته في ميلانو مع دكتوراه في الاهوت الكنسي العام.بعد عامين من خدمة الرعايا تم تعيينه سفيرًا بابويًا في بولندا عام 1923
ثم قام البابا بيوس الحادي عشر منه بتدريس مادة التاريخ في الأكاديمية البابوية للديبلوماسيين كما عهد إليه وظائف إداريّة مختلفة في كوريا الرومانيّة عام 1931. وفي عام 1937 تم تعيينه مساعدًا لأمين سر دولة الفاتيكان خلال حبرية البابا بيوس الحادي عشر؛ وعند وفاة هذا البابا وانتخاب بيوس الثاني عشر والذي كان أصلاً أمين سر دولة الفاتيكان عام 1939 غدا بولس السادس من أقرب مساعديه في الشؤون الإدارية، وكان يلتقي البابا كل يوم صباحًا حتى عام 1954، وهو ما أدى إلى تطوير علاقة وثيقة نوعًا ما مع البابا. وطوال سني الحرب العالمية الثانية كان مونتيني من أهم الشخصيات في وزارة الخارجية وأمانة سر الدولة الفاتيكانيّة، وأغلب المراسلات أو من توّجه إليهم التصريحات والرسائل البابويّة تصدر بإشرافه، وذلك بحكم كونه المسؤول عن رعاية "الشؤون العاديّة" أي الغير مسيحية في أمانة سر الدولة؛ وأشرف على إنشاء المكتب البابوي لشؤون أسرى الحرب واللاجئين، وقد تلقى هذا المكتب بين عامي 1939 و1947 نحو عشرة ملايين طلب من المعلومات، ونحو أحد مليون طلب عن مفقودين. كان مونتيني معارضًا للحكم الفاشي وانتقد موسوليني عدّة مرات علنًا، ورغم توجيه الحكومة الإيطالية وبصفة رسميّة طلبات للفاتيكان بوقف التصريح ضد الدولة الإيطالية وانتقاداها تنفيذًا لاتفاقية لاتران فإنّ الفاتيكان دافع دومًا عن تصريحات المونسينيور مونتيني. في عام 1944 غدا مونتيني إلى جانب تارديني كلاهما في رئاسة وزارة الخارجية الفاتيكانيّة. خلال سنوات الحرب، فتح البابا بناءً على طلب مونتيني، المقر البابوي الصيفي في كاستل غاندولفو كمقر لإقامة اللاجئين، كما فتح مراكز وكنائس أخرى بتوجيه ودعم من البابويّة، وشمل ذلك أيضًا تقديم الطعام والمأوى وغيرها من المساعدات الماديّة. كما شارك مونتيني في إعادة تنظيم الكنيسة المتنقلة والكهنة المكلفين لقاء وتوفير الحماية لمئات من جنود الحلفاء والناجين من معسكرات الموت والاعتقال واليهود، وساهم عن طريق البابويّة، في تحرير روما وإسقاط النظام الفاشي فيها.
رئيس أساقفة ميلانو
بعد وفاة الكاردينال شوستر في عام 1954 عين البابا بيوس الثاني عشر مونتيني رئيسًا لأساقفة ميلانو أظهر مونتيني خلال رئاسته أسقفية ميلانو اهتمامًا بظروف العمل والقضايا العماليّة واتصل شخصيًا بالنقابات والجمعيات وألقى العديد من الخطب ذات الصلة، واعتقد بأن الكنائس أكبر المؤسسات الغير نفعية في المجتمع الحديث والمكان الأكثر راحة وملائمة للعناصر الروحية اللازمة، ودشن خلال فترة رئاسته أسقفية ميلانو أكثر من مائة مبنى جديد لخدمة الكنيسة والتأمل، وانطلاقًا من رئاسة أسقفية ميلانو أخذ النقاد يعتبرون مونتيني ضمن الجانب الليبرالي في الكنيسة. فضلاً عن ذلك استخدم مونتيني طرقًا حديثة في الإدارية الرعويّة، فأكد على أهمية الإصلاح الطقسي كما أرساه البابا بيوس الثاني عشر على المستوى المحلي، واستخدم الإعلام من خلال وضع ملصقات ضخمة في شوارع المدينة خلال لقاءاته الدوريّة مع السكان عام 1957، وبحسب بعض الإحصاءات فإن البابا قد خطب نحو 7000 خطاب خلال توليه رئاسة أساقفة ميلانو ليس فقط من الكنيسة بل من المصانع وقاعات الاجتماع والمنازل والمدارس والمكاتب والثكنات العسكرية والمستشفيات والفنادق وغيرها من الأماكن حيث يجتمع الناس. كان هدفه من ذلك، تقريب الكنيسة إلى العالم المادي الملموس.
في العام 1957 ترأس مونتيني بتكليف من البابا بيوس الثاني عشر، الاجتماع الثاني لمنظمة العمل الكاثوليكي والتي تضم علمانيين كاثوليك من 58 دولة و42 منظمة وطنية، كان قد شكلها البابا بيوس الثاني عشر في عام 1951، وكانت تلك فرصة لمونتيني لكي يعبّر بوضوع عن رؤيته الخاصة للحوار المسكوني والانفتاح على العالم الحديث.
عندما أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرون الدعوة لعقد المجمع الفاتيكاني الثاني عين الكاردينال مونتيني ضمن اللجنة المركزية للتحضير عام 1961، وطلب منه البابا الانتقال والسكن في الفاتيكان. وكان خلال فترة انعقاد المجمع عضوًا في لجنة الشؤون الفوق عاديّة لكنها لم تشارك كثيرًا في النقاشات حول مختلف القضايا، وكان مستشاره المونسينيور جيوفاني كولومبو أبرز مساعديه خلال المجمع وهو من سيخلفه على كرسي ميلانو.
بابويته وبرنامجه
وعندما اصبح مونيني هو البابا بولس السادس افتتح البابا الدورة الثانية من المجمع وحدد أولياته بأربع أوليات:
إصلاح الكنيسة الإداري والطقسي.
فهم أفضل لعقائد الكنيسة الكاثوليكية.
السعي لوحدة المسيحيين.
الحوار مع العالم.
طلب البابا من آباء المجمع، الابتعاد عن تكرار أو إنشاء تعريفات جديدة معقدة ومتعصبّة للدين وطلب استعمال كلمات بسيطة حول كيف ترى الكنيسة نفسها، كما أعرب عن شكره لممثلي الطوائف المسيحية الأخرى لحضورهم، وذكر أيضًا أن العديد من أساقفة الشرق لم يتمكنوا من الحضور لأن الحكومات الشيوعية لم تسمح لهم بالمشاركة. في ختام الدورة الثانية أعلن البابا للمجمع أنه سيقوم بزيارة "الأراضي المقدسة" والتي لم يقم أحد من أسلافه بزيارته منذ القديس بطرس.
في 14 سبتمبر 1964 افتتحت الدورة الثالثة من المجمع، والتي وجد عدد من الآباء واللاهوتيين أن الوثيقة التي أصدرتها تعتبر أهم وثيقة خرجت من المجمع وهي دستور نور الأمم، ناقشت خلال البنية التنظيمية للكنيسة وعلاقة الأساقفة بالبابا وخلصوا إلى إقرار الحرية الدينية،
في 6 أغسطس 1964 أصدر البابا بولس السادس أولى رسائله العامة المعنونة "كنيسة المسيح" والذي حدد بها الخطوات التي سيسعى خلالها لترسيخ التعاون مع الكنائس غير الكاثوليكية سعيًا إلى إعادة الوحدة، كما عرض فيها ملخصًا عن العقيدة الكاثوليكية. وقد جاءت الرسالة في أعقاب زيارته إلى القدس مطلع ذلك العام ولقاءه فيها لفيفًا من قادة الكنيسة الأرثوذكسية فيها. وفي 3 سبتمبر 1965 أصدر البابا رسالته الثانية "سر الإيمان" والتي تحوي بدورها التعليم العقائدي لحبريته، أما رسالته الثالثة والبارزة فهي "ترقي الشعوب" التي صدرت في 26 مارس 1967 وشكلت التعليم الاجتماعي لحبريته وألحقها في 24 يونيو برسالة عامة أخرى هي "العزوبة الكهنوتية" دافع فيها عن جواز قبول الكهنة أو الراغبين في الانخراط في سلك الكهنوت بالزواج. أما خامس رسائله فقد أصدرها في 1 يوليو 1968 بعنوان "الحياة البشرية". هذه الرسائل العامة التي ناقشت الجوانب اللاهوتية والاجتماعية، يمكن تلخيص الجانب اللاهوتي منها بتصريح البابا نفسه في 25 أبريل 1968: "إن في الحياة الكاثوليكية أمورًا عديدة يمكن إصلاحها، وتعاليم يمكن التعمق فيها وإكمالها وعرضها في لغة أقرب إلى الأذهان، وقواعد عدة يمكن تبسيطها لتلائم زماننا، لكن ثمة أمرين أساسيين لا يجوز أن يصبحا موضوع جدل في الكنيسة، وهما الحقائق الإيمانيّة والشرائع التأسيسيّة في الكنيسة".
فرغم كونه من التيار الإصلاحي، إلا أنّ البابا فيما يخصّ القضايا الإيمانيّة كعقائد الكنيسة وسلطة تفسير الكتاب المقدس وبتولية الكهنة وموقف الكنيسة من موانع الحمل ظلت على حالها
التعليم الاجتماعي
أما على صعيد العمل الاجتماعي، فقد أدرك البابا دور الإعلام في العالم الحديث، وكان المجمع الفاتيكاني الثاني قد سمح بنقل الطقوس المسيحية عبر التلفزة والإذاعات، فأكمل البابا ذلك الطريق مؤسسًا مجلس الإعلام الكاثوليكي وأرفقه بالاحتفال بيوم خاص للإعلام بدءًا من مايو 1964، وتشجيع الأبرشيات ومجالس الكنائس المسيحية على إنشاء وتفعيل مجالس محليّة مشابهة للإعلام. كذلك، فإن البابا قد أنشأ مكتب التنسيق بين المؤسسات البابوية المسؤولة عن الإغاثة وسعيًا إلى فعالية عملها أسس ودعم بشكل كبير كاريتاس أو "المنظمة العالمية الكاثوليكية للإغاثة" وذلك بوثيقة رسميّة صادرة عنه في 16 مايو 1974.وانتقد البابا الرأسمالية المتوحشة وقال إن الفقر، هو من يولد خطر الانزلاق نحو "تصادم بين الحضارات ومستحدثات التقدم الصناعي" ويقود أيضًا إلى "خطر الانزلاق في عقائد استبدادية وصراعات مثقلة بالوعود غير أنها مبنية على أوهام".
ويذّكر البابا المسيحيين: "فإلى جانب بناء الكنائس، قد بنوا المستشفيات والمآوي وشيدوا المدارس والجامعات وكانوا في مناطق كثيرة من الروّاد، في ميدان التقدّم المادي والنهضة الثقافية" داعيًا المسيحيين التوّجه نحو بلدان العالم الثالث التي تعيش في "حالة من البؤس" ومساعدتها على الارتقاء إلى مستوى لائق بالكرامة الإنسانيّة. وعلى خلاف الرأي التقليدي السائد منذ أيام القديس توما الإكويني والذي حصر أسباب ثورة الشعب على حاكمه بأربع أسباب، وقد شجع البابا الشعوب الثورة في البلدان التي تعيش في "حالة من طغيان متمادي، يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة".
بعد ختام المجمع الفاتيكاني الثاني اتجه بولس السادس نحو إصلاح البنية الداخلية للفاتيكان ، التي نشأت بدءًا من القرن السادس عشر بخطوات تراكمية غير منتظمة، فيرجع له تحديثها وتنميطها لتلائم العصر الحديث.
الحوار مع الإسلام واليهودية
في 28 أكتوبر 1965 أذاع البابا وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بعنوان "في علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية" وتطرقت إلى الإسلام واعتبرت الأكثر إيجابية وانفتاحًا في تاريخ علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الإسلام. قالت الوثيقة "إن الكنيسة تنظر بعين التقدير للمسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحي القيوم الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض وكلّم الناس بالأنبياء، ويسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله وإن خفيت مقاصده كما سلّم إبراهيم الذي فخر الدين الإسلامي به"، وأشاد أيضًا بموقع المسيح وأمه مريم العذراء في الديانة الإسلامية وكذلك بخصوص التطابق تقريبًا في التعاليم حول يوم القيامة من قيامة الموتى ودينونة الله للناس فضلاً عن القواسم المشتركة العديدة في الحياة الأدبيّة والصلاة والصوم والصدقة. ودعت الوثيقة إلى تناسي "المنازعات والعداوات" التي حصلت في الماضي وترسيخ التفاهم من "أجل جميع الناس ولتحقيق العدالة الاجتماعية والقيم الروحية والسلام والحرية". ودعا البابا للحوار بين الاديان
وفاته
بعد كل هذا الإصلاح الإداري والاجتماعي والروحي والاعلامي والذي يحتاج الي مجلدات توفي البابا بولس السادس في 6 اغسطس 1978تاركا ميراث الاصلاح نورا في تاريخ ومستقبل الكنيسة الكاثوليكية.