التدين العقلاني
الأربعاء 05/أغسطس/2015 - 09:42 م
طباعة
لن تسلك مقاربتي لموضوع التدين العقلاني مسار نقد أطروحات التدين الوجداني كإشاراتي السالفة في مقالتي "تدين الأوهام"، ولن تنحو تجاه دحض التدين الشكلاني المؤسس على تتبع جامد للنصوص وتركيز فائق على الزي، وإغفال بارد لمقاصد النصوص وجوهر التدين. ذلك بأن كلا الموضوعين أثارا اهتمام الباحثين وعلماء الدين وألفوا فيهما الكثير، ولداع ثان وجيه هو أن نمطي التدين سالفي الذكر صارا -حسب تصوري- متجاوزين بسبب قصورهما الذاتي وعجزهما عن مواكبة حركة الواقع.
ويبقى الجدير بالبحث والمناقشة اتجاهين كبيرين يشغلان مدرسة ما أسميه التدين العقلاني؛ الأول شائع وذائع الصيت وله أثر بالغ في واقع التدين منذ قرون خلت ولا يزال يسيطر. أما الثاني فمغمور، دُرست معالمه وطُمست محاسنه، وبالرغم من ذلك فهو حاضر باستمرار، وأتصور أنه قادر على قيادة حركة التدين في القادم من الأيام وأنه الأنسب للمستقبل.
تميزت سلفية القرن 19م بعلمائها المتنورين الذين ساهموا باقتدار في اليقظة الفكرية التي شهدها المشرق العربي آنذاك، وبقدر ما دعا جمال الدين الأفغاني ومحمد عبد وعبد الرحمان الكواكبي إلى التمسك بالقرآن وصحيح السنة وهدي الخلفاء الراشدين، اصطحب خطابهم النفس العقلاني متأثرا بما استجد من فنون وعلوم عند الغرب.
وتواصل تأثير هذه العقلانية الإسلامية المتعددة الأقطاب في القرن 20م بالجهود العظيمة التي بذلها رشيد رضا ومن بعده العلامة محمد الغزالي ثم الدكتور يوسف القرضاوي.
غير أن التدين العقلاني الذي استقرت معالمه مع القرضاوي والذي يجد له جذورا في أعماق ما ألّفه الإمام الشافعي خلال القرن الثاني الهجري، ودون الخوض في تفريعات ليس المقام مناسبا لبسطها، كاد أن يحصر نشاط العقل في التفاعل بالنص، وجعل العقل يأبى الحركة إلا فلك النص، الشيء الذي وَلّد عند المتدين شعورا بالإلزام في كافة مناحي الحياة حاضرا ومستقبلا؛ ألم يقل الشافعي أن "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم" .
وإذا سمح هذا المنهج للعقل أن يشتغل متوسلا التأويل والقياس، فإنه للأسف وربما بفعل لا إرادي، حاصر قدرات العقل الجبارة وجعلها لا تتحرر إلا بوجود النص، وعوض أن تتجه إلى التمكين لمناهج العقل الخالص غير المتناهية، صارت تولد عبر العقل(القياس) نصوصا جديدة متاخمة للنص الذي انتهى واكتمل:{اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة/3).
إن هذا المنهج لا يمكنه أن يوظف العقل إلا في حدود ضيقة، أي تحت سيطرة النص، ومن هنا يفتح الباب لتأبيد الإلزام الديني في كل نازلة يعالجها العقل في ضوء النص، كما سيعزز التوجه الذي مافتئ يتهم العقل بالقصور ويشك باستمرار في قدراته، وحينها يسهل اتهام هذه المنظومة بمنابذة العقل وتقييد الحرية الإنسانية وتأسيس أرضية الحكم الثيوقراطي.
وفي المقابل شهدت الساحة الفكرية الإسلامية مدرسة انتصرت للعقل الخالص والمنطق الأرسطي. وإن لم يكتب لها الانتشار رسميا بفضل منطق القوة، فإنها حافظت على وجودها متوسلة قوة المنطق، كيف لا ومؤلفات القدامى والمحدثين لا تكاد تخلو من استعارة اجتهاداتها بخصوص قضايا دينية شائكة؟ !
كان ابن حزم الأندلسي أبرز من مثّل هذه المدرسة، إذ قام منهجه على تحديد دائرة النص التي تضم كافة مستويات التدين، وعلى تحرير نشاط العقل الذي يوظف علم المنطق بكل مفرداته ومناهجه.
كان يبدو العلامة ابن حزم مبالغا في الاعتداد بالعقل إذ منحه استقلالية تمكنه من إنتاج علم صحيح (مذهب صحيح على حد قوله) استنادا إلى ما تدركه الحواس أثناء تفاعلها الدائم بالمحيط.
وما اشتهر ابن حزم بإباحته الغناء والموسيقى إلا لأن منهجه قضى بأن الغناء الملهي لا نص يحرمه، وأن الإنسان حر إن شاء خاض غمار فنونه، وإن شاء تركها وانشغل بذكر الله.
قد يستجيب هذا النوع من التدين القائم على التسليم لأحكام الدين والتشبث بمناهج التحليل العقلي لفطرة الإنسان الميالة إلى التدين والراغبة في الحرية والإبداع. كما أن بإمكانه إغراء الكثير من الناس بدفعهم إلى الانجذاب نحو التدين.
حين يميز هذا المنهج بدقة بين الدين والعقل فإنه يستمد قدرة تمكنه من تخطي الحواجز الدينية والفكرية والأيديولوجية... التي تعيق التواصل بين الناس، ويوفّي البيان في توضيح مقصد عالمية الإسلام، فضلا عن أنه يسمح بإقامة فواصل منهجية بين الأحكام الدينية والقضايا السياسية.