خليل كَلْفت والإطاحة بحكم المرشد
الأربعاء 11/نوفمبر/2015 - 01:24 م
طباعة
الكتاب: الإطاحة بحكم المرشد لتفادي حرب أهلية مدمرة
المؤلف: خليل كلفت
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015
يتناول الكتاب تطورات الثورة المصرية في النصف الأول من عام 2013، في الفترة الحاسمة التي جرى فيها الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة من ناحية، والشعب والجيش من ناحية أخرى.
وكان الصراع بين الشعب والإخوان المسلمين يدور عبر مليونيات الجماهير الشعبية طوال العام، الذي حكمت فيه الجماعة مصر، في ظل رئاسة المعزول محمد مرسي، وحتى منذ ثورة يناير 2011، وجاء تتويجه في موجة 30 يونيو 2013، الثورية الكبرى التي وضعت نهاية حاسمة للحكم الإخواني شعبيًّا وسياسيًّا.
وخليل كَلفت مثقف وناشط يساري وناقد أدبي وكاتب قصة قصيرة وكاتب ومؤلف ومفكر سياسي واقتصادي ولغوي ومعجمي ومترجم مصري، ولد في النوبة بأسوان في مصر في 9 أبريل 1941.
ويعتبر خليل كَلفت في المجال اللغوي- عموماً- حجة قوية، وإسهاماته العديدة في هذا الأمر ترشحه لذلك، وقد نشرها في مجلات (قضايا فكرية، وابن عروس)، وهي دراسات عن الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية، وتجدد النحو وتطويره، وتخليصه من كافة المعوقات التي تعرقل تطور ونمو اللغة ذاتها، ويجعلها متأخرة عن كل اللغات الأخرى الحية. يضاف إلى ذلك أن خليل كلفت بدأ حياته ناقدًا حصيفًا وواعيًا، ونشر دراساته ومقالاته في جريدة المساء، التي كانت تصدر صفحة شبه يومية، وكان يشرف عليها الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل، وكتب خليل عن الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي مجموعة مقالات صدرت في كتاب مستقل بعد ذلك في السبعينيات، وكتب عن الشاعر الفلسطيني توفيق زيادة وبشر بأدباء المجلة وكتب مقالًا كبيرًا عنهم، قبل أن يصبحوا كُتابًا كبارًا، أبرزهم سعيد الكفراوي وجار النبي الحلو، وخاض معركة أدبية أحدثت دويًّا كبيرًا في أواخر الستينيات مع الكاتب الأردني الجنسية، والذي أقام في مصر طويلًا الراحل غالب هلسا، ونشر أيضًا خليل بعض دراساته وإبداعاته الشعرية، والقصصية في مجلة جاليري 68، وهو يعتبر أحد الأعمدة النقدية الكبيرة في ذلك الوقت.
ولولا أن العمل السياسي خطف خليل كلفت من النقد الأدبي، لأبدع كثيرًا في هذا المجال، ولكنه لم يستطع إلا أن يشارك في صياغة وجدانات وعقول جيل كامل، وكتب بقلم اسم مستعار عددًا من الإبداعات السياسية أهمها (الإقطاع والرأسمالية الزراعية في مصر- في عهد محمد علي إلى عهد عبدالناصر) وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اليابانية، ونقله الباحث الياباني ايجى ناجاساوا)، الذي ترجم أيضًا سيرة عالم الاجتماع سيد عويس، أيضًا صدر لخليل دراسات أخرى عن أسلوب الإنتاج الآسيوي، والبورجوازية البيروقراطية، والقومية العربية)، وفي عام 1982 صدر له كتاب (الكارثة الفلسطينية)، منتقدًا بعض الأفكار السياسية التي رآها آنذاك مدمرة للقوة الباقية للمقاومة.
والكتاب الذي بين أيدينا كُتِب في فترة حرجة من تاريخ مصر؛ حيث ترجع المقالات التي يحتويها الكتاب إلى الفترة من أواخر 2012 إلى يونيو 2013؛ حيث سيطرت جماعة الإخوان المسلمين على مقاليد الأمور في مصر بداية من البرلمان وصياغة دستور إخواني إلى الوصول لرأس السلطة في مصر، فجاء منهم رئيس الجمهورية المعزول محمد مرسي، وتعبر مقالات خليل كَلفت المتضمنة في هذا الكتاب عن مدى الصراع بين دولتين: إحداهما مدنية بقيادة القوى السياسية والثورية في مصر في مجابهة دولة دينية أو ما أطلق عليه "دولة الإخوان"؛ حيث توضح تلك المقالات قوة الصراع وأطرافه وطبيعة القوى المتصارعة. مقدمًا نقدًا تحليليًّا للأحداث وطارحًا لتساؤلات مهمه، لتلك القوى، ليس هذا فقط بل مقدمًا مجموعة رؤى لحل الصراع وفك الاشتباك، مهتمًّا بالتأكيد على مدنية الدولة وانتمائه الطبقي والثوري.
فقد كتب عن الثورة والثورة المضادة في مقال مهم يوضح فيه كيف تولد الثورة المضادة من رحم الثورة نفسها، فيقول: "وبالطبع فإن الثورة والثورة المضادة لا تنفصلان، وهما تُولَدان معًا في ذات لحظة تفجّر ثورة سياسية، وتختفيان معًا عندما تنتصر إحداهما بصورة حاسمة فتسحق الأخرى وتُلحق بها هزيمة نهائية. وتتمثل الثورة السياسية الديمقراطية بطبيعتها في الفعل الثوري لمختلف القوى الديمقراطية الطامحة إلى الحرية والاستقلال الوطني الحقيقي، وفي مقدمتها الجماهير العاملة والطبقات الشعبية التي تسحقها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية التي تؤدي إلى تفاقمها وتدهورها نظرية، وممارسة أيديولوجيات وسياسات وبرامج الطبقة الرأسمالية التابعة ودولتها وسلطتها ونظامها، هذه الطبقة التي تتحول بكل مؤسساتها إلى ثورة مضادة مدجَّجة بالسلاح في ذات اللحظة التي تتفجَّر فيها الثورة. وهناك ترابُط وثيق وتفاعُل عميق بين استراتيجية الثورة واستراتيجية الثورة المضادة. وعندما تكون الثورة كبيرة وشاملة وممتدة في المكان والزمان تغدو استراتيجية الحرب الأهلية ضد الثورة هي الاستراتيجية النموذجية للثورة المضادة. والنموذجي في هذه الحالة هو انتصار ثورة الشعب الأعزل على الثورة المضادة أي الطبقة الحاكمة بكل قوتها العسكرية مهما كبُرت. وهنا تتمزق الطبقة الحاكمة ومؤسساتها إربًا ويتوقف الباقي على طبيعة قوى الثورة والشروط الموضوعية والذاتية للثورة؛ حيث يتبلور بصورة تدريجية نظام جديد من نفس النوع الاجتماعي لطبقة رأسمالية تابعة جديدة أو تنفتح آفاق أخرى رأسمالية صناعية استقلالية أو اشتراكية وفقًا للسياق التاريخي العيني للثورة السياسية المعنية وفي ارتباط وثيق بطبيعة الحال بحالة العالم. ولأن الحرب الأهلية تهدِّد على الأرجح بهزيمة الطبقة الحاكمة ونظامها ومؤسساتها، أي هزيمة الثورة المضادة، فإن من المنطقي تمامًا أن تعمل الطبقة الحاكمة وثورتها المضادة على تفادى الحرب الأهلية، ذلك أن من الجنون أن تشنّ حربا أهلية على الشعب لتنتهي بهزيمتها والقضاء عليها وعلى نظامها."
وحول حق التظاهر في المسار الثوري وموقف مكتب إرشاد جماعة الإخوان من الثورة، وأن جماعة الإخوان نفسها هي الثورة المضادة التي تعلقت في زيل مبارك ونظامه يقول خليل كلفت: ".. قد تفجرت الثورة في أماكن الدولة والنظام متمثلةً في الميادين والشوارع وأمام رئاسة الجمهورية والوزارات والمحافظات ومديريات ومراكز وأقسام الشرطة ومحيطاتها جميعا. ولم يكنْ هذا كفرا بل كان ثورة شعبية مجيدة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ضد الاستغلال الرأسمالي التابع والاستبداد والطغيان والظلم الاجتماعي والدوس على كرامة الإنسان. وبالطبع فإن ذهاب الشعب إلى تلك الأماكن قد قوبل بالعنف الدموي والقتل الوحشي وبدايات الحرب الأهلية بين الشعب وثورته السلمية من جانب، والرئيس المخلوع السابق الذي أمر قوات وأجهزة أمنه بشنّ تلك الحرب من جانب آخر. وكان لا مناص من المواجهة "العسكرية" بين الثورة متمثلة في الشعب وطلائعه والثورة المضادة متمثلة في مبارك ونظامه وقوات وأجهزة أمنه. ذلك أن الدفاع عن النفس من جانب الملايين من بنات وأبناء الشعب في مواجهة حرب أهلية شاملة بدأها مبارك كان لا مناص من أن يُجبر الثورة على الانتقال من الطابع السلمى إلى الحرب، فمواجهة الحرب لا تكون إلا بالحرب الدفاعية الثورية العادلة وليس بالاستسلام للثورة المضادة. وما يجرى الآن لا يخرج عن نفس المعادلة، فالثورة المضادة متمثلة في مكتب الإرشاد والجماعة وحزبها والرئيس المخلوع اللاحق (قريبًا بإذن واحد أحد) والإسلام السياسي بكامله والنظام الحالي بكل أركانه ظلت تلاحق الثورة الشعبية في إطار تحالف ذيلي وثيق مع الحكم العسكري في عهد المجلس الأعلى المخلوع مؤيِّدًا له في قمعه وعنفه وحتى مذابحه (في محيط ميدان التحرير وماسبيرو ومذبحة بورسعيد الأولى وفي غيرها) وفي دوره كغطاء سياسي وأيديولوجي للحكم العسكري، وعندما بدأ الحكم الإخواني برئاسة مرسي للجمهورية يكشف عن وجهه القبيح أمام الشعب كله، من خلال قيام مكتب الإرشاد بتوظيف السلطات الفرعونية لرئيس الجمهورية في البلطجة الرئاسية الرسمية والبلطجة التشريعية الرئاسية والبرلمانية اللادستورية وفي القمع والإرهاب والترويع والعنف الدموي والقتل والمذابح (وأكثرها دموية مذبحة بورسعيد الثانية ومحيط الاتحادية) في سياق اتجاه مباشر نحو الحرب الأهلية وبالتالي تدمير البلاد والعباد.
وسواء في "بيت" الجماعة كما قالوا عن مقر مكتب الإرشاد في المقطم، أو في "بيوت" الجماعة كما قالوا عن مقارهم، أو في "بيوت الدولة" في الميادين والشوارع والمنشآت العامة، كما تزعم الدولة، عندما تذهب القوى السياسية والثورية إلى هذه البيوت أو تلك، يكون الإخوان والسلفيون وميليشياتهم وقوات وزارة الداخلية، وهي ميليشيات وقوات متداخلة ومندمجة في كثير من الأحيان، هم مَنْ يبادرون بالعنف والترويع والتعذيب والقتل والمذابح وليس القوى الثورية والسياسية التي تكون كعادتها في موقف الدفاع عن النفس. وليس هؤلاء وأولئك معتدين عدوانيِّين متوحشين عندما تذهب القوى السياسية والثورية إلى بيوتهم الإخوانية أو الحكومية فحسب، بل إنهم يبادرون بالعدوان على القوى السياسية والثورية والتنكيل بها عندما يذهبون إليهم ليطاردوهم حيثما "ثقفوهم" في "بيوتهم" السكنية والجامعية والإعلامية وغيرها. وبهذا تكون التحركات الشعبية والبيوت الشعبية مهددة دوما وحيثما كانت بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولا يقتصر عدوانهم الوحشي على البشر من ليبراليِّين ويساريِّين وعلمانيِّين وسحرة فرعون ومَنْ إليهم فهم يمارسون بلطجتهم ضد المنشآت القضائية كما حدث عند محاصرة المحكمة الدستورية العليا فترة غير قصيرة في ديسمبر ويناير الماضييْن لمنعها من الانعقاد تفاديا لاتخاذها لقرارات "محتملة" ببطلان مجلس الشورى وتأسيسية الدستور، وضد المنشآت الإعلامية كما حدث عند محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي مرتين، والاعتداءات الانتقامية على عدد من كبار الإعلاميين، وكما حدث في الاعتداء والحرق والحصار ضد عدد من المؤسسات الصحفية، وبالطبع ضد العديد من القادة السياسيِّين."
ويستمر خليل كلفت في مناقشة العلاقة بين الإخوان وهم في السلطة وبين القوى الثورية والمدنية في أعلى نقاط الصراع بينهما، في مقال هام ضمن هذا الكتاب وقد كتب في 29 يونيو 2013 تحت عنوان "خطاب مرسي إعلان للحرب الأهلية" مفندًا خطاب محمد مرسي الأخير وموقفه من تلك الثورة الشعبية ضده وجماعته فيقول: "تَدْخُل الدولة الدينية الإخوانية السلفية الآن، ضد قوى سياسية متنوعة تشترك في أنها لا تنتمى إلى الإسلام السياسي، في مواجهة حاسمة تقرِّر مصيرها ومصير حكمها وكذلك مصير مصر لوقت طويل. وتتعدد السيناريوهات المتوقعة والتي ينطوي بعضها على مخاوف كبرى. ويُقال: إن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يمكن أن يتخذ قرارًا حاسمًا بالحفاظ على التنظيم الإخواني في مصر، مُضَحِّيًا بالحكم الإخواني، عن طريق أحد السيناريوهات الفرعية مثل استقالة مرسي أو دعوته إلى انتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء الشعب. وذلك في حالة اقتناع التنظيم الإخواني تمامًا بأن هزيمة الإسلام السياسي ستكون حتمية نظرًا إلى الحجم الهائل للرفض الحاسم من جانب كلٍّ من المجتمع المدني والمجتمع السياسي للحكم الإخواني السلفي وللدولة الدينية. ويبدو لي أن سيناريو التراجع الإخواني لن يكون مجديًا في حالة اتخاذ قرار التراجع؛ نظرًا لأن الرفض الشعبي للحكم الإخواني قد تجاوز مثل هذه التاكتيكات الإخوانية المحتملة حيث يتبلور اتجاه حاسم إلى إسقاط النظام وإلى إسقاط حكم المرشد والحكم الديني وحلّ جماعة الإخوان المسلمين وحلّ جميع أحزاب وجماعات وحركات الإسلام السياسي. ولن يجلب التراجع الإخواني السلفي سوى استمرار الهجوم الشامل على الحكم الديني. وهكذا صار الإخوان المسلمون بين ناريْن: التراجع يؤدي إلى تشجيع الهجوم الشامل ضدهم من جانب القوى المتنوعة التي تشن هذا الهجوم عليهم؛ أما اتخاذ القرار البديل أي المواجهة المسلحة على طريقة شمشون (عليَّ وعلى أعدائى يا رب) أي قرار الحرب الأهلية إلى أن يتحقق النصر المبين على القوم الكافرين أو الشهادة فإنه لا يؤدي إلا إلى مواجهة مسلحة قصيرة أو حرب أهلية خاطفة تنتهي إلى هزيمة نهائية لن تقوم بعدها قائمة للإسلام السياسي في مصر ربما لعقود طويلة، وهذا نظرا لضعف الإسلام السياسي عسكريًّا وسياسيًّا في مثل هذه المواجهة غير المتكافئة. ويبقى بالطبع الخطر الماثل في أن يؤدي التراجع التاريخي في مصر، مثل باقي بلدان ما يسمَّى بالعالم الثالث، مع ما يصاحبه من تدهور اجتماعي- اقتصادي وسياسي وفكري وثقافي شامل، إنْ لم تُثْبِت الثورة أنها قادرة على انتشالنا منه، إلى إعادة خلق وتطوير إسلام سياسي جديد في الأجل الطويل. وهكذا تظلّ مسألة سيناريوهات الأيام أو الأسابيع المقبلة مرهونة بقرارات نهائية قد يتخذها الحكم الإخواني إنْ أدرك الخطر الذي يمثله عليه هو بالذات اتجاهُه الحالي المؤدي إلى الحرب الأهلية. وهناك بالطبع ما يُقال عن ترتيبات محتملة أو ممكنة بين الإسلام السياسي والحكم القادم بعد خلع مرسي وحكمه؛ غير أنني أظن، وبعض الظن إثم، أن البيئة السياسية والمجتمعية في مصر ستكون غير ملائمة لعقد أو استمرار ترتيبات قابلة للحياة للتعايُش السلمي مع الإسلام السياسي الذي قاد مصر إلى مشارف الحرب الأهلية؛ ولا أظن أن الحكم القادم سيكون معنيًّا بعقد ترتيبات مع الإخوان المسلمين والسلفيِّين. والشعب الذي انتصر على الحرب الأهلية التي شنها مبارك على الشعب في بداية ثورة يناير 2011، عندما نجح في كسر مقاومة قوات وزارة الداخلية وأجهزتها غير الخفية؛ جدير بأن ينتصر على الحرب الأهلية الجديدة التي يشنها الإخوان والسلفيون ضده."