دعوة قديمة لتجديد العلوم الدينية في "التراث وقضايا العصر"
الثلاثاء 08/ديسمبر/2015 - 11:43 م
طباعة
• اسم الكتاب: التراث وقضايا العصر
• المؤلف: د. محمود إسماعيل
• الناشر: رؤية للنشر والتوزيع 2005
رغم مرور عقد كامل على إصدار هذا الكتاب للدكتور محمود إسماعيل الباحث المتميز في الفكر الإسلامي والذي قدم لنا الكثير في مجال الدراسات الإسلامية والخاصة بالتاريخ السياسي والاجتماعي للفكر الاسلامي في موسوعته القيمة. سيسيولوجيا الفكر الإسلامي، إلا أن هذا الكتاب يعد واحد من أهم الكتابات التي تناولت اشكالية التراث والمعاصرة، فقلما نجد كاتباً يتمتع بهذا الكم المعرفي والمناهج العلمية التي يتناول بها دراسة ظاهرة ما أو اشكالية ما. فيعد هذا الكتاب واحداً من تلك الكتب التي ناقشت قضية، التراث والمعاصرة، عن قرب وقدم حلولاً جوهرية ما زلنا في احتياج لها الآن.
ويتكون الكتاب من خمسة مباحث هامة وما زالت تشغلنا حتى الآن، ففي المبحث الأول والذي عنونه بـ "تجديد العلوم الدينية.. لماذا؟" يعرض أسباب احتياجنا ليس فقط لتجديد الخطاب الديني كما يتردد الآن بل تجديد العلوم الدينية مستنداً إلى مجموعة من الأسباب التي تتمثل في:
1- تعاظم المد الأصولي في الأقطار الإسلامية – مع اختلاف الدرجة من قطر إلى آخر – وطرحه خطاباً متطرفاً – أبعد ما يكون عن روح الاسلام السمحة – يقول بالتكفير والحاكمية ويحتكر التأويل والتفسير للنصوص الدينية، مستنداً إلى كم هائل من المرويات ظنية الثبوت والدلالة، مدعياً احتلاك الحقيقة بصددهما.
2- تعاظم المد الأصولي التكفيري على المستوى العالمي، الأمر الذي أفضى إلى نتائج وخيمة على المستوى السياسي والديني، اذ تحولت الأصولية الدينية إلى ارهاب دولي.
ويأسف محمود إسماعيل ونحن معه على فهم المؤسسة الدينية الرسمية واختزالها الدعوة لتجديد الخطاب الديني في اصلاح خطبة الجمعة، وتدريب الدعاة على التقنيات الاعلامية الحديثة.
وإذ ينادي محمود إسماعيل بتجديد الخطاب الديني أو تجديد العلوم الدينية فهو يستند على أن التراث الفقهي الاسلامي "ليس مقدساً" ومن ثم يمكن تجديده أخذاً مبدأ "الاجتهاد" الذي يعد الأساس الثالث لعلم الفقه، بعد القرآن والسنة. لذلك عرف القدماء والمحدثون علم الفقه بأنه "علم استنباط الأحكام".
ينتقل بنا د. محمود إسماعيل إلى علم آخر من العلوم الدينية ألا وهو علم التفسير، حيث إن تجديد علم الفقه مشروط بتجديد علمين أساسيين هما علم التفسير وعلم الحديث، لذلك يرى د. محمود إسماعيل ان تجديد الخطاب الديني المعاصر لا يمكن أن يتم بمعزل عن تجديد هذين العلمين.
ورغم محاولة المفسرين وضع ضوابط متفق عليها في "أحكام القرآن" ظل الخلاف قائماً لعاملين أساسيين هما:
أولاً: ان النص القرآني نص "غيبي" يحتمل التأويل، شأنه في ذلك شأن النصوص المقدسة السابقة، ويحسب الدكتور محمود إسماعيل أن ذلك دليل ثراء وتيسير – لا غموض والغاز – بحيث يمكن لنصوصه التشريعية خصوصاً الوفاء بحاجة واقع متغير، ولقد وقف الخليفة عمر بن الخطاب على تلك الحقيقة عندما دعا إلى "تجريد القرآن" وهو بصدد تشريعه لحكم دولة امبراطورية كبرى بعد الفتوحات الإسلامية.
ثانياً: تباين ثقافات المفسرين باختلاف الزمان والمكان: كذا تباين مواقفهم السياسية ونزعاتهم المذهبية ووضعياتهم الطبقية، وكلها أمور طفت على الجانب المعرفي في التفسير، بحيث جرى توظيف "التأويل" لخدمة غايات دنيوية في المحل الأول، وقد فطن الإمام علي بن أبي طالب إلى تلك الحقيقة، فحكم على القرآن الكريم بأنه "حمال أوجه" ونبه إلى خطورة استغلال ذلك فيما شجر من خلاف بين الصحابة إبان "الفتنة الكبرى".
ثم ينتقل بنا إلى علم الحديث حيث تشكل السنة النبوية المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، ومن هنا تكمن خطورتها وأهميتها، لأنها لا تتعلق فقط بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لتعلقها بطبيعة التشريعات والنظم التي تمس الواقع المعيش، ورغم قدسيتها إلا أنها لم تسلم من التحريف والتزييف نتيجة تعاظم ظاهرة الوضع والانتحال حتى في عصر صدر الإسلام، ناهيك عن استشراء هذه الظاهرة في العصور التالية.
وبرغم الجهود التي بذلها علماء الحديث في هذا الصدد من اعتماد منهج "الجرح والتعديل" فإن هذا المنهج ذاته لم يسلم من الانحياز، إذ عكس المحدثون معاييرهم النقدية المتأثرة بمصالحهم الاقتصادية وولاءاتهم السياسية وانتماءاتهم المذهبية ودرجة ثقافتهم على هذه الجهود بصورة سلبية، وحسبنا حكم "الذهبي" بأنه "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة"!!
وينتقل بنا الدكتور محمود إسماعيل إلى المبحث الثاني والذي عنونه بـ "مشروعات نهضوية في الفكر الاسلامي" فيقدم لنا أول مشروع نهضوي قام به "الفارابي" حيث يتفق جل الدارسين على ان فلسفة الفارابي عبرت عن واقع سياسي – اجتماعي خاص، ولكنهم اختلفوا في رصد وفهم هذا الواقع. فجاءت أحكامهم متضاربة متناقضة.
وأخيراً يقول الدكتور محمود إسماعيل انه بالرغم من قناعة الفارابي بأهمية الدين في كسب التيارات المحافظة إلى مشروعه، لم يعتمد المنهج الاصولي النص، بل عول على العقل باعتباره أداة قادرة على التجريد والاستنباط، واستكناه العلل والاسباب والوصول إلى اليقين، كما أعلى الفارابي من قدر "الانسان" فقال بحرية ارادته واختياره وأناطه بمهمة اختيار الحكم. "فالسعادة لا تتحقق إلا بفعل اختيار" و"ينبغي ألا تطلب لذاتها، لأنها الخير المطلق"، وتلك قيمة مستمده من أخلاقيات الإسلام التي انتهكت في عصره: ومن أجل تحقيق وحدة الأمة، أقر الفارابي بوجود دول شيعية، يمكن أن تصبح نواة لدولة كبرى تشمل "دار الاسلام".
ثم ينتقل بنا الدكتور محمود إسماعيل إلى جماعة إخوان الصفا ويؤكد على أن من يقرأ رسائل اخوان الصفا يقف على حقيقة دعوتهم ضد العنصرية والطائفية والطبقية، واعتمادهم إيديولوجيا عامة تفيد من سائر الأديان والعقائد والفلسفات، لذلك نهلوا من سائر المعارف المتاحة وأفادوا منها في تأسيس مذهب خاص بهم من إحدى وخمسين رسالة، في كل جوانب المعرفة، وأصبحت هذه الرسائل بمثابة برنامج عملي في التثقيف والتنوير. وقد وجد إخوان الصفا في فساد الخلافة الثيوقراطية والنظم العسكرية ما يؤكد اقتراب النهاية، واستشرفوا تعزر التغيير عن طريق التثقيف والتنوير تأسيساً على العقيدة الصحية والمعرفة العلمية، انتظاراً لموافقة الظروف.
ثم ينتقل بنا الدكتور محمود إسماعيل إلى مشروع نهضوي ثالث هو الفيلسوف ابن سينا، الذي انطوت فلسفته حسب الدكتور محمود إسماعيل على أبعاد مادية، دون أن يكون مادياً صرفاً، بل ان هذه الأبعاد أثارت عليه ثائرة الفقهاء المحافظين الذين اتهموه بالإلحاد وأحرقوا الكثير من كتاباته. كما انطوت على ابعاد مثالية دون أن يكون "هرمسيا" تهويميا، كما حكم عليه بعض الدارسين المحدثين، الامر الذي جعل الدكتور محمود إسماعيل يجزم بأن الغاية التنويرية في الفلسفة النبوية كان لها الأسبقية على الجانب المعرفي. لقد كان مثل "اخوان الصفا" من حيث شمولية مرجعياته مع استقلالية مذهبه الفلسفي الذي يخطئ احد الدارسين في القول بأنه "احتوى جميع المذاهب".
ويتناول بعد ذلك المشاريع النهضوية لابن حزم الأندلسي وابن ماجه وابن طفيل وصولاً إلى ابن رشد والمهدي بن تومرث والذي ينهي به هذا المبحث، مؤكداً عند ابن رشد أنه حسم مسألة العلاقة بين الدين والعلم فأثبت – بالبرهان – تكامل العلاقة بينهما، ودعا إلى قراءة الدين و"القياس العقلي" لاستيعاب العلم، وانتهى إلى وحدة المقاصد بين العلم والدين، معولاً على التنوير منادياً بإصلاح "المجتمع" أولاً والأفراد ثانياً بتحريرهم من استعباد الحكام وفقهاء السلطة، الذين اعتبرهم مسئولين عن تضبيب الوعي وترسيخ الفكر الاجتراري الغيبي والأسطوري.
ثم يعرج بنا الدكتور محمود إسماعيل إلى المبحث الثالث الذي عنوانه "التصوف بين السلطة والمعارضة" حيث ان الخلاف حول تقويم وتثمين تلك الظاهرة لا يزال قائماً، فكثيرة هي الدراسات التي ترى في التصوف ظاهرة إيجابية لارتباطه بالإسلام من حيث الميل إلى الزهد في الحياة الدنيا، والانصراف إلى التقرب إلى الله عن طريق المزيد من العبادة والنسك، طلباً للآخرة. ناهيك عن البعد الأخلاقي التربوي المتمثل في بناء الفرد روحيا بالبعد عن نداءات النفس وغرائز البدن.
وثمة تقويم آخر يرى في الظاهرة مروقاً على الاسلام وتأثراً بمعطيات فكرية مأخوذة عن العقائد الأخرى السماوية وغير السماوية، فضلاً عما نجم عن التصوف من سلوكيات شاذة كالتواكل واسقاط الفروض وانتشار الرذائل والاعتقاد في الكرامات والخوارق والخرافات.
ورغم هذا فلم يكن التصوف معزولاً عن المجتمع، بل نشأ من خلال أزمته وتطور مع تطور معطياته، فلقد اشترك المتصوفة مع قوى المعارضة في رفض الواقع والدعوة لتغييره ومحاولة تجاوزه، وان اختلفوا حول الاسلوب والوسيلة، فبينما عولت المعارضة على "الثورة" تبنى المتصوفة أسلوب تقويم السلوك المفضي إلى الاصلاح.
ثم يتناول الدكتور محمود إسماعيل في المبحث الرابع من الكتاب "عروبة مصر بين الاثنوغرافيا والتاريخ"، إذ يرفض بداية التشكيك في عروبة مصر، ودعوى البعض إلى طرح "الفرعونية" بديلاً، ويقول مهاجماً "والأنكى حين يحاول أصحاب هذه الدعوة "الفرعونية" تزكية تلك النزعة بمحاولة مراهقة وخاطئة برهنة مقولتهم بذرائع معرفية تنتهك المعرفة أساساً. وتنم عن جهل بتاريخ مصر وجغرافيتها، وفقر مدقع بأولويات التراث المصري العربي".
ويقع الدكتور محمود إسماعيل في الخطأ الذي يرفضه من الجماعات المتأسلمة بتجهيل الأخر والادعاء بامتلاك الحقيقة والتعالي واتهام المخالف في الرأي بالعمالة حيث يقول "الدعوة إلى الوطنية المصرية" كبديل للقومية العربية إذن دعوة مشبوهة، ولا يخالجنا أدنى شك في عمالتها "ولا وطنيتها" بل نجزم بتمويلها بالدولار الأمريكي برغم ادعاء أصحابها بانطلاقها من شعار "مصر للمصريين" ويستطرد الدكتور محمود إسماعيل هجومه على هذا الفريق بقوله "ان هذه المحاولات جميعاً برغم انطلاقها من رفض هوية مصر العربية، كانت مرتبطة بالوجود الاستعماري. وبدور مشين للرجعيات العربية، لذلك انطوت على هشاشة فكرية ومغالطات تاريخية في آن".
وينتقل بنا الدكتور محمود إسماعيل إلى المبحث الخامس والذي عنونه " نحو مصالحة بين المذاهب الإسلامية" والذي يؤكد فيه على أن جذور الخلاف بين المذاهب انما تدور حول مسألة "الإمانة" وهي مسألة سياسية وليست ذات أدنى صلة بالعقيدة – حسب الدكتور محمود إسماعيل – فالخلاف حولها مشروع، وتعدد الآراء والرؤى بصددها تنوع محمود ينم عن ثراء الشريعة الإسلامية، حيث أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم يحددا تصورا بعينه أو صيغة معينة في الحكم بل تركا مبدأ "الشورى"، أما عن تطبيقها فأمر مناط بالمسلمين أنفسهم "وأمرهم شورى بينهم" وحسب معطيات الزمان وملابسات المكان ومعطيات الواقع.
ثم يدعو الدكتور محمود إسماعيل إلى حوار موسع بين المذاهب الدينية يقوم على عدة حقائق أهمها:
1- إن نشأة الفرق الإسلامية ارتبطت بواقع تاريخي ظرفي تمثل في احداث "الفتنة الكبرى" التي تمحورت حول الصراع على "الخلافة" وهذا يعني ان الصراع كان صراعاً سياسياً ليس إلا.
2- إن معتقدات هذه الفرق جميعاً لم تثبت على حال واحدة، انما تغيرت وتطورت وفق تغيير معطيات الواقع الاجتماعي ومن ثم السياسي، بل ان معتقدات بعض هذه الفرق قد تحولت تحولاً كاملاً عن أسسها وصيغها الأولى.
3- إذ يعترف التاريخ بأن بعض التيارات المذهبية قد تطرقت، فإن جنوحه نحو "الغلو" كان نتيجة تأثير معطيات تاريخية "سوسيو – سياسية" اذ تعرضت بعض الفرق للاضطهاد فحوصرت وطردت إلى الأطراف، وحرمت من حقوق الممارسة السياسية. ثم يقوم بعرض بعض المذاهب للتدليل على تهافت الخلاف بينها وبين بعضها البعض فقام بعرض مذهب الاباضية والاثنى عشرية والشيعة الزيدية والدروز والنصيرية. منتهياً إلى عدد من الحقائق المهمة.
1- ان جميع المذاهب الإسلامية المعاصرة مسلمة موحدة، فهي تتفق جميعاً حول "الأصول" وإذ وجد بعض الاختلافات حول "الفروع" فهو أمر طبيعي ومنطقي، تأسيسا على حقيقة كون الفقه الاسلامي ذا طابع دنيوي، والاختلاف بصدد بعض مسائله دليل ثراء وتيسير ورحمة.
2- ان معتقدات تلك المذاهب جميعاً – بعد الاتفاق على الأصول – لم تكن ثابتة، بل تغيرت بتغير الزمان وتعدد المكان وتباين الظروف والأصول.
3- أن عملية "المراجعة" التي يقترحها الدكتور محمود إسماعيل يجب ان يضطلع بها فقهاء كل مذهب على حدة. كتمهيد لحوار عام بإشراك فيه أهل الاختصاص من الفقهاء والمؤرخين والمفكرين ذوي الدراية بتاريخ المذاهب الإسلامية من ناحية والاحاطة بمشكلات العصر وتوجهاته من ناحية أخرى.
4- اذا ما أسفر الحوار عن "صيغة مشتركة" يجب اجراء دراسات معمقة حول تلك الصيغة، والترويج لها ثقافياً واعلامياً لتصحيح الأخطاء والرد على المزاعم الموجهة إلى الاسلام حالياً.