ربيع العرب وأثره على تفريغ الشرق من المسيحيين
الأربعاء 03/فبراير/2016 - 05:31 م
طباعة
اسم الكتاب: المسيحيون وربيع العرب
تحرير: جعفر العقيلي
الناشر: مركز القدس الأردن 2015
في مقدمه لكتاب المسيحيون وربيع العرب والذي يجمع أوراق مؤتمر ناقش هذا الموضوع، وشارك فيه عدد من القيادات والباحثون المهتمون بهذا الشأن كتب السيد غريب الرنتاوي، يقول: "مع اندلاع ثورات "الربيع العربي" وحراكاته، احتدم الجدل في عدد من الدول والمجتمعات العربية، حول حاضر المسيحيين العرب والمشرقيين ومستقبلهم، وأين يتموضع هؤلاء في الصراع الدائر بأشكال ومستويات مختلفة من العنف، بين قوى التغيير وأنظمة الحكم السائدة، مع أن الجدل حول مكانة مسيحيي المنطقة ومستقبلهم، سابق انطالقة ثورات "الربيع العربي"، وقد شهد صعودًا وهبوطًا متفاوتًا تبعًا للظروف الخاصة بكل دولة، وما يتميز به مجتمع عربي عن آخر.
وكان نزول الشباب والشابات الذين تدافعوا، وبمشاركة نشطة من مختلف المكونات، إلى الشوارع والميادين مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، اصطدمت بوقائع صلبة وعنيدة، بعضها كان عصيًّا على التذليل.. إذ أظهرت الدولة "العميقة" في عدة دول عربية، قدرتها على مواجهة رياح التغيير، والالتفاف عليها، ولم تكن انحناءاتها أمامها، سوى "مناورة".
كما أن القوى السياسية والاجتماعية، الدينية في أغلب الاحالات استطاعت من جهة أخرى، بتنظيمها المتفوق وإرادتها الموحدة، أن تفرض قيادتها وأجندتها على حركات التغيير الديمقراطية والمدنية، وتمكنت أكثر من غيرها، من الوصول إلى سدة الحكم أو المشاركة الفاعلة فيه، من دون أن تمتلك خطابًا مدنيًّا- ديمقراطيًّا متجذرًا، يسمح باعتماد "المواطنة المتساوية" جميع أبناء الأمة، ويحفظ حقوق الأفراد من دون تمييز أو إقصاء أو إنكار.
القلق
إن القراءة الإحصائية لواقع المسيحيين العرب والمشرقين، تدعو للقلق والفزع، وتنذر بأن هذه المنطقة مهد المسيحية وموطنها الأول مهددة بفقدان هذا المكون الأصيل والتاريخي من مكوناتها، فالأرقام تتحدث عن هجرة ما يقرب من ثمانمائة ألف مسيحي عراقي خلال السنوات 2003 – 2013، ولم يتبق في مناطق السلطة الفلسطينية سوى أقل من خمسين ألف مسيحي، ومسيحيو سوريا يتعرضون للتشريد والتهجير على يد قوى أصولية متشددة، وفي لبنان يكاد المسيحيون يشكلون ثلث سكانه بعد أن كانوا نصفهم أو أزيد قليلًا، والهجرة تفعل فعلها في أوساط مسيحيي مصر والأردن، ويعاني المسيحيون الفلسطينيون في إسرائيل من إجراءات تمييزية تتمثل في محاولات السيطرة على أمالك الكنيسة وفرض الخدمة الإلزامية على أبنائهم في الجيش، فضلًا عن بقية أشكال التمييز المعروفة.
والحقيقة أن الجدل الدائر حول حاضر ومستقبل المسيحيين العرب والمشرقيين تكشف عن جملة من المقولات الخاطئة، وأكد مجموعة من الفرضيات، ليس في هذه التوطئة، متسع للوقوف عندها جميعها؛ لذا نكتفي بالتشديد على بعضها..
أولًا: تتصل بالنظر إلى المجتمعات المسيحية بوصفها "كتلًا صماء لا مجال فيها للتعدد والتعددية، وتأسيسًا على هذه النظرة التبسيطية، التي تكشف عن عنصرية كامنة، فالمسيحيون هم أبناء هذه البلد الأصليين انخرطوا بفاعلية، ومنذ عقود وقرون من الزمن، في مختلف أحداثها وتطوراتها، وكانوا حاضرين بقوة في معظم حركاتها وتياراتها السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، وتوزعوا شأنهم في ذلك شأن مختلف أبناء هذه المنطقة، وهم أبناء هذه التيارات والمدارس فكانوا يساريين وقوميين وليبراليين وديمقراطيين وشوفيين ووسطين وكانوا كذلك مواطنين منصرفين عن السياسة والعمل العام، شأن الأغلبيات الصامتة في مجتمعاتنا.
وغالبيتهم العظمى، أبناء مدرسة شرقية مؤسسة للمسيحية في العالم.. ومن حق هذه الشريحة الواسعة من المواطنين أن يمارسوا حقهم في الاعتقاد، وأن يعبروا بحرية عن اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، من دون أن يشكل ذلك قيدًا على حقوقهم الفردية أو والمجتمع المسيحي شأنه شأن مختلف المكونات الاجتماعية والديمغرافية في العالم العربي، يعاني صراعًا اجتماعيًّا طبقيًّا، ويعيش تنازعًا بين الأجيال، ويواجه ظاهرة اتساع الفجوات بين رجال الدين "الكنيسة" والأجيال الناشئة، وهذا جدال تختص به فئة دون أخرى من فئات مجتمعاتنا ومكوناتها.. لذا يجدر إعادة النظر في هذه الأطروحة، وإمعان النظر في التعددية المسيحية التي تكاد تتماهى مع التعددية.
ثانيًا: النظر للمسيحيين بوصفهم "جالية" مقيمة، حتى إن البعض منا، كصدى لنظرية صدام الحضارات، أخذ يتعامل مع هذا المكون التاريخي من ثقافتنا وحضارتنا كامتداد للغرب وثقافته وحضارته، وأحيانًا مشروعه الاستعماري القديم والجديد، متناسيًا حقيقة أن المسيحيين العرب والمشرقيين كانوا روادًا في النهضة والتنوير في مختتم القرن التاسع عشر ومفتتح القرن العشرين، وأنهم كانوا في الصفوف الأولى لثورات الاستقلال وحركات التحرر من الاستعمار، وأنهم لعبوا دورًا مشهودًا في حفظ "العربية" و"العروبة" على حد سواء، هذا الدور الذي لم تنتقص منه بعض الأمثلة أو التجارب الشاذة، والتي لم ينفرد بها المسيحيون عن غيرهم من المكونات الأخرى السائدة في مجتمعاتنا.
تتوازى مع هذه النظرة، نظرة أخرى، أكثر عنصرية وفاشية في التعامل مع مسيحيي المنطقة باعتبارهم "ذميين" لا مواطنين، وتتأسس على هذه النظرة مواقف وسياسات وإجراءات وتشريعات تقوم على التمييز بين المواطنين على أساس الدين، وهو أمر ترفضه شرعية حقوق الإنسان ودولة المواطنة المتساوية لجميع أبنائها وبناتها، ولقد رأينا كيف أفضت هذه الأفكار الشاذة، إلى ضرب النسيج المجتمعي لعدد من الدول العربية، وكيف أسهمت في إفراغ بعض رقاعنا من مكونها المسيحي الأصيل.
وثمة نظرة، لا تقل بؤسًا عن سابقتيها، تلك التي يضع فيها أصحابها معيارًا للمسيحي الجيد يقوم على مدى تماهيه مع شقيقه المسلم وحمله لأفكاره وموروثه الحضاري، وحتى الديني، لكنَّ المسيحي الجيد في نظر هؤلاء، هو المسيحي المتخلي عن هويته الدينية والمتماهي مع الهوية الدينية لآخر، أما المسيحي "بذاته"، فيبدو عصيًّا على التقبل والقبول.
الثالثة: القول بأن المسيحيين ومنذ أن ألحت في أفق المنطقة إرهاصات الثورة والتغيير، اصطفوا إلى جانب أنظمة الفساد والاستبداد، هكذا وبالمطلق وغالبًا من دون بذل أي جهد في تفسير بعض الظواهر والمؤشرات المتصلة بهوية حركات الإصلاح والتغيير في العالم العربي وطبيعتها، وسياقات العلاقات بين هذا، والحقيقة أن المسيحيين العرب والمشرقيين كانوا جزءًا لا يتجزأ من حركة الإصلاح والتغيير الديمقراطي، في معظم الدول التي ينتمون إليها، رأيناهم على رأس حركات المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وفصائل حركة التحرر الوطني العربية، في مصر وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان والعراق. بيد أن حالة الهبوط والتراجع التي أصابت مختلف التيارات القومية واليسارية والديمقراطية العربية في العقود الأربعة الماضية، والتي رافقها صعود ظاهرة إنتاج المسيحيين على صورة وشاكلة الأغلبية، حدًّا تنتفي معه مسيحية هذه المكونات.
كما أن الإسلام السياسي و"الشعبوي" في مختلف المجتمعات العربية، لم يُبق مساحات واسعة للمسيحيين العرب والمشرقيين في عملية التغيير والإصلاح، بل إننا شهدنا، وفي الوقت الذي كانت فيه مواقف انتشار مدارس الإسلام السياسي "مثل الإخوان المسلمين" اتسامها بكثير من الضبابية حيال حقوق غير المسلمين وواجباتهم ومستقبلهم، ويغلفها "اللون الرمادي". كانت بعض الحركات التكفيرية الأكثر تشددًا، تستهدف الكنائس ودور العبادة، وتتوعد مسيحيي البلاد بمستقبل مظلم، وتطالبهم بدفع الجزية وهم صاغرين، وتعرض عليهم الهجرة أو الموت في عمليات إقصاء واستهداف لدور هذا المكون ومشاركته.أو التخلي عن ديانتهم ومعتقداتهم.
الرابعة: إن مجتمعاتنا، وبفعل تأثير هذه الحركات سيما السلفية غير المنظمة منها- باتت "أقل تسامحًا" حيال "الآخر" المختلف، في الدين أو الجنس أو اللون أو الأصل، ومع انتعاش "الانتماءات الثانوية" وتفاقم الصراع "الهوياتي" القاتل- أصبح المسيحيون في بلادنا أكثر عُرضة للتمييز والاضطهاد، بل إنهم باتوا يواجهون تحديات مركبة، فمن جهة يصعب عليهم الاصطفاف خلف أنظمة قمعية وفاسدة، دون المقامرة بمواجهة غضب الأغلبية السائدة، ومن جهة ثانية فإنهم لا يجدون مكانًا مناسبًا لهم في ظل حركات ساد عليها الطابع الديني والمذهبي وهم من جهة ثالثة، يجدون مصاعب جمة، في إدامة حالة الوئام والانسجام مع مجتمعاتهم التي أخذت تنحو للتشدد الديني بفعل ما اعتمل في داخلها من تحولات جذرية، خلال العقود.
الخامسة: تتصل بأكذوبة أن "الغرب المسيحي" هو الداعم والأم الحنون لمسيحيي المنطقة، وأنه لن يتركهم لمواجهة مصائرهم الصعبة، ولن يترك المنطقة لتصبح خلوًا منهم.. هذه النظرة سقطت سقوطا ذريعًا خلال السنوات العشر الأخيرة على نحو خاص، فوجود أكثر من مائة ألف جندي أمريكي في العراق، لم يوفر شبكة أمان لمسيحيي هذا البلد من سريان وآشوريين وكلدان ولكنائسهم، ولم يحل دون هجرة ثمانمائة ألف مسيحي إلى الشتات والمنافي، بل ظهر أن السفارات الغربية تعمل على تسهيل هجرة المسيحيين وتسهيل تدفقهم إلى المدن والعواصم الأوروبية والأمريكية، لكأننا أمام مشروع "تفريغ" المنطقة من مسيحييها، وربما مرة أخرى، عملًا بنظرية "صراع الحضارات".. وهو أمر نظر إليه مسيحيو المنطقة بوصفه تعبيرًا عن مصالح الغرب، بوصفه خدمة لمصالحهم وتطلعاتهم هم بالذات، حتى إن البعض منهم بات يعتقد أن ثمة أجندة خبيثة وخبيئة خلف هذه التسهيلات تستسهل استيعاب المسيحيين وإدماجهم في المجتمعات الغربية، تفاديًا للمصاعب التي تواجه إدماجًا.
السادسة: بما أنه ما من مجتمع يخلو من التطرف والمتطرفين وأن التطرف لا يُوَلِّد إلا تطرفًا، فقد شهدت المجتمعات اتجاهات تطرف وانغلاق وانعزال في أوساطها.. رأينا دعوات للتغريب والانفصال عن المنطقة وهويتها القومية المشرقية، ورأينا نزعات فينيقية وفرعونية، ورأينا تيارات تبحث عن خلاص للمسيحيين في إطار مشروع مسيحي مستقل على حراك المجتمع وقواه السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة.. مثل هذه النزعات، وإن كانت قد اصطدمت بحقيقة تعذر الانعزال عن المنطقة، إن لم نقل استحالته، فقد شكلت وما زالت خطرًا على المسيحيين.