نواب الله الذين يستخدمون السلطة العليا لقتل إبداع البشر

الأربعاء 16/مارس/2016 - 01:00 م
طباعة نواب الله الذين يستخدمون
 
اسم الكتاب: نواب الله 
الكاتب: أحمد الشهاوي
الناشر: الدار المصرية اللبنانية 2016
في السجن الآن الباحث إسلام البحيري والروائي أحمد ناجي وصدر حكم بحبس الشاعرة فاطمة ناعوت وهناك سلطات لمصادرة الكتب من مجمع البحوث الإسلامي، وفي قلب هذا الليل القاتم على حرية الإبداع والفكر يأتي كتاب "نواب الله" للشاعر الكبير أحمد الشهاوي، ليطرح أكثر من إشكالية تتعلق بالتراث الإسلامي، ومدى فهمه وتطبيقه على أرض الواقع، والتشوهات التي تعرض لها التاريخ والدين الإسلامي؛ بسبب مصالح السياسيين والقادة وأحيانا الفقهاء، وصولًا إلى الظواهر السلبية بل والمدمرة التي انتقلت إلى عصرنا الحديث من كتب فقهية مسمومة وموجهة لعصور بعينها، هي في الأساس عصور انحطاط .
يبدأ الكتاب بأحد أهم القضايا في الواقع الثقافي والأدبي والعلمي وهي حرية الرأي والتعبير وتداول الكتب ونشر الثقافة، من خلال استعراض ظاهرة سلبية هي حرق الكتب، ويعدد الجرائم التي ارتكبت باسم الإسلام أو الرغبة في الاقتصار على تدريس علوم الدين، كما يشير إلى الفتاوى المتطرفة التي نالت من سماحة الإسلام على مر العصور ومازلنا نعاني منها حتى الآن، ومنها حرق الخصوم أو قتلهم والتمثيل بجثتهم، وهي الأفكار التي يتبناها الآن تنظيم داعش، بل ويطرح أفكارا ورؤى مختلفة تشير إلى مدى الترابط والتواشج بين فكر داعش والقاعدة وفكر الإخوان والسلفيين.
كما يلفت الكتاب الانتباه إلى بدايات شخصيات مؤسسة لجماعة وفكر الإخوان مثل حسن البنا وسيد قطب وعمل كل منهما في الأدب قبل التوجه للكتابة في الدين، مشيرًا إلى تحقيق البنا لكتاب أحد شعراء العصر العباسي الذي كان يلقب بـ«صريع الغواني»، وكذلك الآثار الأدبية والنقدية التي تركها سيد قطب والتي تم طمسها أو التغاضي عنها والتركيز على إنتاجه في الدراسات الدينية.. أسئلة كثيرة يطرحها الكتاب من خلال أفكار تستند إلى البعد التاريخي لتأصيل الأفكار المتنوعة التي أدت لنشوء جماعات متطرفة تسيء للإسلام ويعتبرون أنفسهم نواب الله على الأرض، دون أن يقرءوا سطرًا في التاريخ أو الحضارة الإسلامية، وتمكنوا من إصابة الفكر الديني والثقافة بالعديد من التشوهات على مر الأزمان.
من مقدمة الكتاب
ويقول الشهاوي في مقدمته للكتاب: "لم أكتبْ لأحقِّقَ مالا، أو أجدَ ما يُحققُ لي حياةً كريمةً عند التقاعدِ أو قبله، أكتبُ فقط، لأنَّني لا أعرفُ سوى أن أكتبَ، وحيثُ لا مهنةَ لي غير الكتابةِ، أما الآنَ وبعد الآن فيكتبُ المهندسون والأطباءُ والصيادلةُ ومرتادو المقاهي ولاعبو الكرة، والعاطلون عن الحلمِ وعن العملِ وعن المواهب، والسماسرة وربات البيوت و....
لكنَّ دائمًا هناك نُقصانًا في كتاباتهم لا يدركُهُ سوى الخُلصاء من أهلِ الكتابةِ، إذْ ليس كلُّ كتابٍ، هو بالضرورةِ كتابٌ حتَّى لو نُشِرَ ونَشرتْ عنه الصحافةُ، وتناوله النقادُ والعارفون بقصد التحية والمجاملة والتكريم وأداء الواجب.
الكتابةُ هي التي تُغيِّرُ، وهي القادرةُ على إحداثِ ثُقبٍ غائرٍ فيمن يقرؤها، بحيث يصيرُ إنسانًا آخرَ أثناء وعقبِ الانتهاءِ منَ القراءةِ .
فرغم مُرور سنواتٍ على الإمساكِ بالقلمِ، ومُمارستي الكتابةَ طُوالَ العُمر، ما زلتُ أخشى الورقَ والحبرَ، وأهرُبُ من الكتابة ذاهبًا نحو القراءة، إذ كلُّ كتابةٍ مسئوليةٌ جسيمةٌ، ومحفوفةٌ بخطرِ مُساءلة الذاتِ وتقويمِ الآخر .
الكتابةُ صعبةٌ ومرهقةٌ، والله يُحبُّ من عباده من يقرءون أكثر ممن يكتبونَ، ولذا خاطبَ نبيه بـ "اقرأ "، ولم يقلْ له "اكتبْ " .
فرُبَّ كتاب واحد أهمُ من مئةٍ، وكما أنَّ للذهب ميزانًا خاصًا، فإنَّ للحرفِ ميزانًا أكثر حساسيةً، لأنَّ الكلامَ يُحي ويُميتُ، ولو أحصينا الذين ماتوا ب" سكتة الكلام " سنجدهم الأكثرية، وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور، إضافةً إلى البشرِ الذين لا نعرفُهم، كما أنَّ الذين يحيونَ بالكلام نسبة من أهل الأرضِ لا يُستهانُ بها .
فنحن من يخلُقُ الأحلامَ، ونشرِكُ قارئنا فيها، وندعوه لأنْ يكونَ مكان الكاتبِ ويتوحدَ معه، وهذا لا يتحققُ إلا في حال الصدقِ والحقيقةِ، وبدونهما يكُونُ فعلُ الكلام ناقصًا وغيرَ مُجْدٍ، ولا يُعَوَّلُ عليه، والحلم الذي يحلمُ المبدعُ به، هو من كان حلما حيًّا ودائمًا، حتى لو كان من المستحيلِ تحقيقه، إذْ كلُّ أمرٍ نراه الآنَ ونُمارسُهُ كان قبل لمسِه خيالًا شاطحًا، ومن المستحيلات الأربعة كما هو شائع بين الناس .
والكتابةُ كالحُبِّ لا يمكنُ التخطيطُ لها مُسبقا، لكن لا بد لها من رُوحٍ ونفسٍ وقلبٍ، تتسمُ جميعها بالشفافية والصحة من أمراضٍ كالغيرةِ والحسدِ والحقدِ والكآبةِ التي تصيبُ البشر من ناقصي العقول والنفوس؛ لأنَّ نصفَ نفسٍ لا يمكنُ لها أن تنتج كتابةً سويَّةً .
فالفلاح في قريتنا عندما يدفنُ بذورَه تحتَ الأرض يعرفُ أنها ستنبتُ، ولكن على أي شكلٍ؟ لا يعرفُ، لكنَّهُ يحدسُ، ويُمَنِّي نفسه أنَّ الترابَ سيطرحُ له تبرًا، مثلما يُقال في كتبِ الأسبقين، هو أكثرُ البشر تفاؤلا، ولديه آمالٌ غالبًا ما تتحققُ جميعها، إذ يعرفُ أنه في نهاية الدورة الزراعية سيحصدُ محصُولا، الكاتب- الشاعر أيضًا لن تطرحَ أرضُه إلا إذا حرثها بمحراثِ القراءة والفهم والوعي ومعرفة الذات أولا قبل معرفة الآخر .
الكاتبُ يلدُ، ويُولدُ، وإذا باضَ فلنْ تكونَ بيضتَهُ كبيضةَ الديكِ، واحدةً منسيةً، لا يذكرُها سواه .
وهناك من الكتَّاب من يكتبُ لسنواتٍ طويلةٍ دُونَ أن يكشفَ سرَّهُ؛ ولذا ينبغي لنا ساعة الكتابة من النظرِ عميقًا إلى الداخل، والتمهل، والتأمل، والتركيز .
فهناك من يتزوجُ لنصف قرنٍ من الزمان ولا يعرفُ ما الحبُّ وما المرأةُ وما أسرارُ جسدها، هو فقط يفعلُ ما حكته له قبيلتُه في ليالي الصيف والشتاء، حيث فضُّ الأسرار والثرثرةُ الفارغةُ عن الفحولةِ الجوفاء، تمامًا كالكلام الذي لا يلدُ ولا يستطيعُ أن ينكِح العقولَ إذا ما استخدمتُ هنا تعبير الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي .
فمنْ لم يُنصت إلى قلبه المُتسارع أو الخفيض أو المضطرب، كيف له أن يُشخِّصَ من هم مصابون بأمراض القلب .
واعلمْ أنَّ كلَّ الذين عاشوا من الكتَّاب قد نجحوا واستمروا في الضميرِ، لأنهم كتبوا عما يعرفون فقط، دُون ادعاءٍ أو مُعاطلةٍ، أو القفزِ في فراغٍ لا يعرفونَ هاويتهُ أو هويتهُ".
الفتوى وحرية الفكر
من لم يعلم، لا يستطيعُ أن يجيبَ عن مَسْأَلةٍ من المسائل أيًّا كان قدرها، والمسائل بشكلٍ عام تتفاوتُ تبعًا للمصلحةِ والهدفِ والغرض من طرحها على العارفِ أو العالمِ أو الفقيهِ أو المُفْتي الذي يُبينُ المُشْكِلَ من الأحكام.
ومن لا يعرفُ، لا ينبغي لَهُ أن يُفْتىِ في أَمْرٍ مهما صَغُرُ شَأْنُهُ (الشئونُ الصَّغيرةُ أراها دومًا كبيرةً).
لكنْ في مصر، ومع تعدُّد جماعات الإسلام السياسي، واختلاف رؤاها، وتباين مفاهيمها واختلاطها، وانتشار أنصاف الفقهاء، جعل الفَتَاوى أمرًا يسيرًا، بحيث ازدحمت السَّاحةُ بها، وَكُلُّها تُحرِّم، وَتُجرِّم، وَتُكَفِّر الكُفْرَ الصَّريحَ، مُسْتَنِدَةً إلى الخلافِ في التوجُّه أو الرأي، فما دام المرءُ لا يتفق معهم في فهمهم للدين، فمن الواجب تكفيره، والتشهيرِ بِهِ، وتشويه سيرته، و"المفتي" منهم قَادِرٌ على أن يستندَ في دقائقَ معدوداتٍ إلى عشرات من النصوصِ التي يستخرجها من بطون كتب السلف الصالح والتي يستطيع أيضًا مُفْتٍ آخر أن يفنِّدَها في دقائقَ معدوداتٍ، مستندًا إلى نصوصٍ أخرى مناهضة أو معارضة أو نافية أو مضادة للنصوص التي رجع إليها "المُفْتِي" الأول.
وهؤلاء "المفتيون" يُفْتون عادةً لصالح الجماعة، أو المرشد، أو السلطان، أو الملك، أو الرئيس، أو لأيِّ وليٍّ للأمرٍ، في أيَّ عًصْرٍ، وفي أيِّ مَكَانٍ.
فالفتوى- في السياق الذي أتحَدث فيهِ- دومًا تَتَأرجحُ بين: الخروج من الإسلام، وإباحة الدم، والكُفر الصَّريح،....
والفتوى مُلْزِمةٌ عندهم، وينبغي البحث عمن يُنَفِّذها [اغتيال فرج فودة (1945 – 1992م)، محاولة اغتيال نجيب محفوظ (1911- 2006م)، وتكفير الكثيرين من الشعراء والكُتَّاب والمفكرين الذين ربَّما ينتظرون الاغتيال]، و"المفتي" يوقِّعها نائبًا عن الله سبحانه وتعالي، وهي حكم شرعيٌّ صادر من "مُفْتِي" الجماعة أو التنظيم، أو أي مُسَمّى آخر، وللأسف لا أحدَ من هؤلاء الذين يروْنَ أنفسهم رأسَ الإسلام يعرفُ أنَّ الفتوى أَمْرٌ جليلٌ وخطيرٌ ولها منزلةٌ عظيمةٌ في الدين، ولا ينبغي للمرء أن يتلاعبَ بها، وفقًا لمعتقداتِهِ، وأفكاره، وآرائِهِ الأيديولوجية، ولا يعرفون- أيضًا- أنَّ النبيَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يتولَّى- من مُقْتَضَى رسالته- أَمْرَ الفُتيا بنفسه منذ أَنْ نَزَلَ الوحيُ.
ولذا رأينا زَلَلاً واعوجاجًا وانحرافًا عن الطَّريق القويم في السَّنوات الأخيرةِ، فلا "مُفْتي" العصر له مَوْقعٌ بين الله وبين خَلْقِهِ؛ لينظرَ كيف يدخلُ بينهم؛ لأنَّه- ببساطةٍ- لم يُؤْت العلم الكافي للفصل في المسائل، كما أَنَّهُ يُصدر فتاواه، من موقع المختلفِ والمناهضِ للآخر في المجتمع الذي لا يتوافقُ مَعَهُ، وليس من زاويةِ نظرٍ مستقلةٍ لوجه الله. فهو غير قادر على الترجيح، ومن ثم فعمله مُحَرَّمٌ، بل هو آثمٌ، لأنَّ ثمةَ شُبهةً وَغَرَضًا من وراء فتواه، ضد شخصٍ بعينِهِ، أو فريقٍ، أو تيارٍ، أو اتجاهٍ، أو مَذْهَبٍ، أو مُعْتَقَدٍ. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من أَفْتَى بِغَيْرِ علمٍ، كان إثمُهُ على من أَفْتَاه" رواه أبو داود. لأنَّ المفتي- من المفترض- أن يُفْتِيَ بكلام الله أولاً، وَسُنَّة رسوله ثانيًا، أو يقيسَ عليهما، أو يستنبطَ منهما. وألا يُرْضِي شيخًا أَعلى، أو مرجعًا دينيًّا، أو سلطانًا،.... بأن يَعُودَ إلى هواه، وهوى تنظيمه أو مصلحة جَمَاعتِهِ، ولا يتبع الشهوات والهوى في الاختيار، ولأنَّ أغلبَ هؤلاء ليسوا من أهل الذِّكرِ، فهم – حقًّا وصدقًا- لا يعلمون.
وهناك فتاوى صَدَرَتْ، ورجع عنها من أصدروها؛ لأنَّهم كانوا يعلمون سَلَفًا أنَّ الأمرَ في الباطن بخلافِ ما أفتوا به؛ ولذا عادوا وتابوا (فتاوى الجماعات الإسلامية في مصر مثالاً).
فلا محاباةَ في الفتوى، أو انحياز، أو مراضاة، لأنَّ الأصلَ في الفتوى هو الفصلُ والإبانةُ والتوضيحُ، وليس التصيُّدُ، والتكفيرُ، والنَّيلُ من المسلم (المختلف)؛ لأنَّ الفُتْيَا تعتمد الأّدِلَّةَ، ولا أرى مثالاً في التاريخ أنصع من الحكم على الحلاَّج والسُّهروردي- كأبرز اسمين في تاريخ التصوف الإسلامي- بقتلهما، رغم أنَّهما معتقدان بالإسلام، ومذهبهما هو السنَّة، ولكن كان للفقهاء رأيٌّ آخر فقد أفتى علماء عصر الحُسَيْن بن منصور الحلاَّج (858 – 922م- 244- 309هـ) بإباحة دمه، فقال لهم الحلاَّج – ولم يُنْصِتُوا، أو يستمعوا إليه، لأنَّهم كانوا يكيدون له، ويفتون لصالح الخليفة المقتدر في بغداد وقتذاك:... دمي حَرَامٌ، وما يحلُّ لكم أن تَتَقولُوا عليَّ.. وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السُّنَّة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وَبقية العشرة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كُتبٌ في السُّنَّة، فالله الله في دمي"، ورغم ما قاله سُجِنَ، وُضُرِبَ بالسَّوطِ أَلْفًا، وَحُزَّت رقبتُهُ وقُطِّعتْ يداه ورجلاه، وأُحْرقت جثتُهُ.
كما أن السُّهروردي (549 – 587 هـ – 1154- 1191م) أفتى فقهاء صلاح الدين الأيوبي بقتلِهِ، وظل مقتله نُقْطةً سوداء في تاريخ صلاح الدين الأيوبي (532- 589 هـ- 1138 – 1193م)، لن تُمْحَى من التاريخ.

شارك