كمال زاخر: "هذه هي تفاصيل رحلة الأقباط مع أسبوع الآلام"
الثلاثاء 26/أبريل/2016 - 12:21 م
طباعة
يعيش الأقباط هذا الأسبوع في حالة روحية متميزة تغلفها ألحان حزينة في ذكرى آلام السيد المسيح، وفي هذا الحوار يصحبنا كمال زاخر مؤسس التيار العلماني بالكنيسة عن ذكرياته في أسبوع الآلام وتفاصيل هذه الرحلة.
في البداية ما هي ذكرياتك عن أسبوع الآلام في الماضي وأنت صغير؟
ـ طفولتي وصباي مرتبطان بـ "كنيسة سرجيوس" هكذا كنا نعرف كنيسة مار جرجس بالقللي ربما لأنها شهدت معارك راعيها القمص مرقس سرجيوس الدينية والوطنية في مرحلة المد الوطنى مع ثورة 19 وما بعدها.
وتحوى الكنيسة حامل أيقونات متميز رسم أيقوناته فنان إيطالي مبدع متأثراً بمدرسة عصر النهضة، في اهتمام بالتفاصيل حتى تخال أنك أمام لقطات تحمل نبضات صاحبها، ومن هنا جاء ارتباطي المبكر بصلوات أسبوع الألام التي كانت بدورها توقيع أحداث أيام المسيح الأخيرة على الزمن عبر الحان وصلوات وقراءات مرتبة في تسلسل يحولها إلى سيناريو تعليمي لا ينمحى، وما بين الأيقونة والصلوات تشكل وجداني حينها.
ما زلت أتذكر كيف كانت الكنيسة تغير ستائرها إلى اللون الأسود، وتتحول ألحان صلواتها إلى نغم حزين وكأنها تستحضر الحدث وتتفاعل معه، وكيف كان الكاهن الطاعن في السن "أبونا حنا" هكذا كنا نناديه، يوقف الصلوات ليشرح مغزاها ومناسبتها، وكيف كان "المعلم يعقوب" مرتل الكنيسة يحول الألحان إلى انفعالات صوتية تجعلنا مستغرقين معها.
وهل هناك تغير في معايشة هذا الأسبوع مع الكبر؟
ـ بالضرورة كان النضج يكتمل بحكم المراحل العمرية، والانتقال من الإنطباعية إلى الإدراك، أذكر أننى كنت في يوم الجمعة العظيمة ـ التي تعد أطول يوم صلاة في الكنيسة في السنة كلها ـ إذ تمتد من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، وفيها تحدث مقابلة تفصيلية بين ما ورد في التوراة والعهد القديم من الكتاب المقدس من نبوات عن المسيح وتدبير الفداء وبين ما وقع من احداث في حياته على الأرض حال تجسده، وبينهما تلاحقك الكنيسة بتفسير الحدث عبر اقوال وعظات آباء الكنيسة في قرونها الأولى، يتخللها ألحان تحمل مضمون ما يقرأ وقتها.
كنت في هذا اليوم أصطحب معي كتاب شرح إنجيل يوحنا للأب متى المسكين، أدخل إلى هيكل الكنيسة أقرأ منفرداً وكأنى في خلوة ما ورد فيه متعلقاً بأحداث اليوم على خلفية الحان الكنيسة وما تخلقه من أجواء روحانية لا توصف، فكأني قد انتقلت وجداناً وعقلاً إلى جوار المسيح على درب الصليب.
ـ هل يبالغ الأقباط في مظاهر الحزن – كمكون وجداني للمصريين - في أسبوع الآلام أكثر من الاهتمام بعيد القيامة؟
ـ ليس في الأمر مبالغة فالحزن شعور إنساني شفيف، والطقس الكنسي يتفاعل مع احتياجات الإنسان، وهي لحظات يجد المرء فيها نفسه في حالة بوح وانفعال تغسل نفسه وروحه، يختلط فيها ما هو نفسى بما هو روحي، ربما يخرج منها بمصالحة من نفسه ومع الله، ويتكلل الأسبوع بفرح القيامة فلا يبتلعه الحزن بل يتجدد عنده اليقين بأن كل ألم لا بد أن ينتهي بفرح فينتصر لإنسانيته ورجائه.
ـ كيف ترى مناسبات هذا الأسبوع من أحد السعف لأحد القيامة؟ وما هي أكثر واقعة تترك أثراً في نفسك؟
ـ كانت المعركة بين اليهود وبخاصة قياداتهم الدينية وسلفييهم المتشددين وبين المسيح تتصاعد، وكان دخول المسيح إلى أورشليم المدينة المقدسة نقطة تحول في المواجهة، تشكلت مع الاستقبال الجماهيرى الحاشد من سكان وشعب المدينة للمسيح، وكانت نداءاتهم في حشود المستقبلين تحمل إنذاراً ليس فقط للقيادات الدينية بل والقيادات السياسية ايضاً "خلصنا يا ابن داود" "مبارك الآتي باسم الرب"، هو إذا قد نودي به ملكاً ومخلصاً وهو المسيا المنتظر.
تلتقط الكنيسة هذا الخيط وتنسج منه سيناريو الأحداث، وقد سبق هذا الإسبوع الذي تُوَقِّعَهُ الكنيسة على زمن أسبوع الألام، سبقه "سبت لعازر" الذي ترصد فيه الكنيسة إقامة المسيح لصديقه لعازر الذي مات قبل أربعة أيام "وقد أنتن" بحسب تعبير مريم ومرثا أختي لعازر، وهي اللحظة التي عقد اليهود فيها العزم على التخلص من المسيح، وهو القرار الذي تدعم باستقبال المدينة للمسيح.
تتابع الأحداث في ايام الأسبوع لتفسح مكاناً للقاء المسيح مع الناس وتعليمه عن الملكوت والأبدية، وتشاور يهوذا لتسليم المسيح للقيادات الدينية اليهودية، ثم بلاغاتهم ضده للحكام المستعمرين "الرومان" فالقبض عليه، وبين المؤامرة والتنفيذ ، يجتمع المسيح مع تلاميذه ليقطع معهم عهداً جديداً فيما عرف بالعشاء الأخير والذي صار عهداً أبدياً، ثم ترصد الكنيسة وقوفه أمام المحققين مرة في محاكمة دينية ثم أخرى في محاكمة مدنية، وخلالهما تتكشف صفقات التآمر بين الدينى والمدنى لينتهى الأمر إلى الحكم بادانته والقضاء بصلبه، ليصلب ويموت، ويدفن قبل غروب شمس الجمعة، بحسب الشريعة اليهودية التي تقضى بألا تبقى الأجساد معلقة مع دخول يوم السبت.
فى هذه اللحظات تستحضر الكنيسة واقعة الدفن فتضع على المذبح صورة صغيرة للمسيح بعد إنزاله عن الصليب وتضع فوقها خليطاً من حنوط واطياب وورود حمراء وتلفها في قطعة من قماش كتان أبيض، تماماً كما حدث قبلاً بعد موت المسيح، وتترك الصورة على المذبح وعند الرأس والقدمين تضع شمعدانين مضاءين إشارة إلى الملائكة التي شهدتها العذارى وقت ذهابهما للقبر بحسب عادات ذاك الزمان.
ثم تتوقف الكنيسة أمام هذه الليلة ـ ليلة السبت ـ لتسهر في إبداع لاهوتي مذهل لتكشف لنا أسرار هذه الليلة، والتي فيها يحقق المسيح الفداء الحقيقي وينتصر للإنسان إذ ينزل "إلى أقسام الأرض السفلية" بحسب تعبير الكنيسة والكتاب المقدس، ويخرج آدم وبنيه من الجحيم وينطلق بهم إلى الملكوت، محرراً ومنقذاً.
وفي ليلة الأحد تجتمع الكنيسة مجدداً وقد أزالت ستائرها السوداء وأحلت محلها ستائر بيضاء، وتتوقف على الأداء الحزين لألحانها، وتبدأ في الصلاة بنغمة الفرح، فقد قام المسيح بالحقيقة قام.
ـ هل ترى أن أفلام الآلام المسيح استطاعت أن تعبر فعلًا عن حجم هذه الآلام؟
مهما كان التعبير الإنساني عن آلام المسيح سيظل محدوداً في ترجمتها، فهي متجاوزة ما ندركه عنها؛ لأنها تحمل معان متخطية بعدها البشرى، نحن أمام لحظة فارقة رهيبة، أمام إله تخلى طوعاً وحباً عن عظمته من أجل الإنسان حتى إلى الموت، فكيف يمكن أن نترجم بمحدوديتنا عن هذه المعاني وهذا الحدث؛ لذا سيظل البحث الإبداعي يلهث وراءها وسيجد فيها أبعاداً متجددة دوماً.
ـ أمسك السيد المسيح السوط وقلب موائد الصيارفة عندما دخل الهيكل هل فعلا الكنيسة لا تهتم بالاحتفال بهذه الواقعة؛ لأن هناك إسقاطًا يقع على رجال الدين ولمن تمسك السوط الأن في الكنيسة؟
ـ الكنيسة تفرد في طقسها مساحة لهذه الواقعة ضمن صلوات الأسبوع ولا تغفلها بل تنبه لها بقوة وتقرأ أحداثها وتفاصيلها كما وردت بالأناجيل بل وتلحقها بعظة ضافية للقديس اثناسيوس الرسولى أحد أبرز معلمي الكنيسة، والكنيسة كانت وما زالت تمسك السوط للخطية وتحذر رعيتها من السقوط فيها، فهي لا تشخصن تعليم المسيح.
وعلينا أن نفصل بين تعليم الكنيسة وبين ما ينسب إلى كوادرها، وبين نقاء الكنيسة واختلالات البشر حتى لو كانوا في صفوف المعلمين أو المتقدمين، ولا نقيس معطيات الكنيسة على إفرازات مراحل التراجع.
ـ ما هي أكثر شخصية كتابية تتفاعل معها في أسبوع الآلام؟ وما شكل هذا التفاعل؟
ـ الشخصية المحورية في أسبوع الآلام بل وفي كل السنة الليتورجية (سنة الكنيسة) هي شخصية "يسوع المسيح" ولا يمكن أن تزاحمها شخصية كتابية أخرى، والتفاعل يكون في محاولة سبر أغوار شخص المسيح عبر مزيد من القراءة في خبرات الآباء والكنيسة، ومحاولة ترجمة هذا في الحياة اليومية ونقله إلى اجيالنا المتعطشة لمن ينير لها الطريق.
ـ كيف ترى صلوات البصخة الطويلة في الكنيسة؟ وهل تحتاج فعلا لتغيير؟ وكيف يتفاعل معها الشباب الذين يعشقون السرعة الآن؟
ـ في معركة الحياة نحتاج لفترات توقف نلتقط فيها الأنفاس، ويحتاج المحارب لاستراحة، وحتى الآلة تحتاج للتوقف للتزود بالوقود وللصيانة، وصلوات أسبوع الألام هي عطف على مفهوم التوقف والتزود والصيانة.
لكن الأزمة الحقيقية في استيعاب مضامين هذه الصلوات ومراميها وغايتها والتي اقتربنا من بعضها عبر الحوار، ولن تتفكك هذه الأزمة إلا من خلال اعادة هيكلة منظومة التعليم اللاهوتى والكنسي القبطي بجملته، وقد طرحت هذه القضية بقدر أوفر من التفصيل في كتابى "قراءة في واقعنا الكنسي"، وقد تعرضت منظومة التعليم الكنسي لتراجعات تعددت أسبابها بعضها تاريخية بسبب الإنقطاعات المعرفية لعل أبرزها ما تلا مجمع خلقيدونية في القرن الخامس الميلادي؛ بسبب الانتقال من اللغة اليونانية إلى القبطية لأسباب قومية على خلفية الصراع العقيدى، ثم الانتقال من اللغة القبطية إلى العربية فيما بين القرنين العاشر والثاني عشر بفعل تعسف الحكام وقتها.
وعندما سعى الأقباط مع الدولة الحديثة إلى العودة للتواصل مع ما انقطع، مع ارهاصات القرن العشرين، كانت العودة تفتقر للمراجع العربية الدقيقة وشهدت في بعضها استعاضة بالرؤى الشخصية عن العقيدة بحسب الآباء، وهذا يفسر طرفاً من الصراعات المعاصرة بين عديد من معلمي اليوم؛ لذا فتفاعل الشباب مرتبط بفهم واستيعاب عمق هذه الصلوات وهو مرتهن بإعادة النظر في منظومة التعليم الكنسي.
ـ في خميس العهد يغسل رجال الدين أرجل الشعب متى يتحول هذا الفعل من رمز التواضع إلى الفعل والعمل؟
فى علوم الاقتصاد يقال: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، وربما نجد شيئًا من هذا في المجال الروحي؛ حيث لا تلفت النماذج الجيدة نظر المتابعين وخاصة الإعلام، الذي لا يرى فيها ما يشد انتباهه ويحقق له انتشاراً، وعلى جانب أخر فمراجعة منظومة التعليم ستعيد الأمور إلى صحيحها، بحيث يعود الإهتمام الرعوي إلى موقعه ومساره، وربما يتطلب الأمر مراجعة منظومتي الرعاية والرهبنة لضبطهما على قواعدهما الكنسية والكتابية (الكتاب المقدس).
ـ هل ترى أن يهوذا خائن ومذنب أم عامل مساعد في إتمام الخلاص؟
فى القياسات الإنسانية هو "خائن" لمعلمه الذي اختاره ضمن تلاميذه، أما في القياسات اللاهوتية ضمن خطة الخلاص فهو رقم مهم في تنفيذها، وهو أحد النماذج البشرية المعيشة عبر كل العصور، علينا أن ننتبه لها، وندرك معها أن الخطر الحقيقى في سيطرة مشاعر اليأس على من يقع في هذه التجربة إذ يغلق دونه أبواب مراحم الله.
ـ ما هي تأملاتك الخاصة في أسبوع الآلام؟
ـ كل ما قلته قبلاً هنا هو تنويعات على التأمل في أسبوع الآلام، فضلاً عن أن هذا الأسبوع هو زاد للامتلاء أحسبه خزيناً يكفي السنة بجملتها.
ـ لماذا صلب المسيح؟
ـ يتطلب الأمر أن نقف على هوية المسيح فهو بحسب إيماننا "الله الظاهر في الجسد" والذي حل بيننا ليعيد العلاقة بين الإنسان والله والتي انقطعت بالعصيان ورفض آدم أن يبقى الله وحده مصدر معرفته، جاء المسيح الكلمة "اللوغس أي العقل" لتعود به المعرفة من الله للإنسان، ولما كان المسيح إنساناً كاملاً فقد حمل عقوبة الخطيئة "الموت" في جسده، والصليب وسيلة إعدام علتية، لذا رفع على الصليب جهاراً نهاراً ليشهده كل العالم. فالصليب كان عنوان المصالحة بين الله والإنسان.
ومن خلال موت المسيح ماتت معه البشرية وفي دفنه دفنت، وقامت معه في قيامته، لتسترد الحياة مجدداً بحسب تعبير الإنجيل.