التصوف يتحدي السلفية والفكر الوهابي في مجلة الثقافة الجديدة

الثلاثاء 12/يوليو/2016 - 12:07 م
طباعة التصوف يتحدي السلفية
 
صدر عدد يوليو 2016 من مجلة "الثقافة الجديدة"، الشهرية التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ويرأس تحريرها الشاعر سمير درويش، ويتضمن ملفًا بعنوان: "الصوفية.. كرامات وخرافات"، تضمن مقالات لكل من: د.محمد فكري الجزار، أشرف الخمايسي، د.عمرو منير، مروة نبيل، ناجي عبد اللطيف، عبد الرحيم طايع، إنتصار عبد المنعم، أدهم العبودي، والضوي محمد الضوي، حاولت تفنيد فكر الصوفية من جهة، ورصد ظواهر المتصوفة وسلوكياتهم من جهة أخرى، من خلال أقطاب الصوفية الكبار في ربوع مصر. وفي الإطار نفسه جاء المدخل الذي كتبه د.جمال العسكري بعنوان "التصوف حقيقة إنسانية"، ومقال رئيس التحرير، في الصفحة الأخيرة، بعنوان "ضريح الولي الغائب الذي حارب إنجلترا!". كما دار باب "تجديد الخطاب الديني" حول الفكرة ذاتها، عبر مقالين للدكتور مصطفى رجب وأحمد أبو خنيجر. أما كتاب هذا الشهر فهو كتاب "التصوف" لمؤلفيه: لويس ماسينيون، ومصطفى عبد الرازق، وقد تناوله بالمناقشة: د.محمد عبد المجيد ورانيا جابر.
حقيقة انسانية 
اكد الدكتور جمال العسكري في مقدمته للملف ان المتامل لموقع التصوف في بنيان الثقافة الاسلامية يستطيع ان يري دون مبالغة بانه منهجا تربويا للسلوك الانساني علي طريق النور نور الحقيقية الربانية سعيا للرقي بالذوق الانساني وتزكية للنفس بتنقيتها من الادران .
زوايا النفري 
وتعد القراءة التي قدمها الدكتور بليغ حمدي اسماعيل في زوايا النفري مساحات الوصل والوجد والمكاشفة من اهم الابحاث في ملف التصوف بالمجلة حيث كتب يقول يعد القرنان الرابع والخامس الهجريان عصر المصنفات الصوفية الكبرى والتي استطاعت أن ترسم طريق التصوف الإسلامي لعصور قادمة، وربما هذا العصر الذي يمكن توصيفه بالعصر الذهبي للتصوف في الإسلام قد واكب التفكك السياسي للدولة العباسية حتى أقر المؤرخون بأن سلطة الخليفة العباسي لم تتجاوز حكم وولاية بغداد، وهذا التفكك السياسي هو الذي أفقدها القدرة على السيطرة والتحكم في البلاد مما استحال الأمر عقب ذلك إلى تحول تلك البلدان إلى إمارات سياسية مستقلة عنها وبعيدة تمام البعد عن سيطرتها السياسية والعسكرية.
ورغم هذا التفكك السلطوي للخلافة العباسية وانهيار الأنظمة السيادية آنذاك بفعل عوامل مختلفة منها ضعف الخلفاء العباسيين، وبزوغ الدولة الفاطمية، والهجمات الخارجية التي تعرضت لها الخلافة العباسية مثل الحملات الصليبية المتواترة، ومن بعدها الغارات المغولية لم تفقد الثقافة الإسلامية تماسكها المعرفي أو بريقها الاستثنائي، واستطاعت فتوحات الدولة العباسية رغم انهيارها بعد ذلك أن تفتح آفاقا جديدة للحراك الثقافي والشراك المعرفية مع ثقافات أخرى غير متماثلة، وفي ظل هذه الثورة الثقافية استطاع التصوف الإسلامي أن ينتقل من مرحلة الشيخ الصوفي الذي يهتم المريدون والمعارضون بأخباره وحكاياه وبعض قطوفه اللغوية القصيرة ومواقفه الشخصية مع العامة والأمراء على السواء، إلى مرحلة جديدة وفارقة في تاريخ التصوف وهي مرحلة تصنيف المؤلفات الكبيرة ذات التخصص، مما أمكن المتخصصون أن يطلقوا على هذين القرنين علم التصوف لكثرة التصنيفات والمؤلفات، ورأينا المصنفات الصوفية التي تجري في موضوع واحد وتقتصر على قضية واحدة بعينها بخلاف ما سبق من تصنيفات كانت تتناول موضوعات وقضايا شتى.
ويمكن توصيف هذه الحقبة الزمنية بأنها ثمة انتقال التصوف من مرحلة إبداع الكلمة والجملة والعبارة إلى مرحلة الخبرة الصوفية الواسعة والشاملة، وربما اتساع دائرة العلوم الإسلامية آنذاك وظهور عواصم عديدة للثقافة الإسلامية وانتشار العلوم الإسلامية وشيوع المدارس الدينية وفتح أبواب الاجتهاد الفقهي مع دعوات تجديد الفكر الديني هو الذي ساعد على ظهور علم التصوف في سلطة مجازه اللغوي. ومن أبرز هذه المصنفات التي راجت في عصر التصوف الذهبي معتمدة على سلطة المجاز كتاب ( اللمع في التصوف ) لأبي نصر السراج الطوسي، وكتاب ( قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ) لأبي طالب المكي، وكتاب ( الرسالة في علم التصوف ) لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، وكتاب ( ختم الأولياء ) للحكيم الترمزي، وأخيرا كتاب ( المواقف والمخاطبات ) لعبد الجبار النفري. 
اِنْفِرَادُ المَشْهَدِ:
مِنْ جَمَالِيَّاتِ المواقف والمخاطبات لمحمد بن عبد الجبار النفري انتفاء سيرة ذاتية لشخصه وحياته وقلة الاهتمام التاريخي بتكوينه الصوفي وانعدام وجود ترجمة ذاتية تسطر حكايته وحكاياه، مما جعل كتابه المواقف والمخاطبات إرثا شرعيا لقارئه، ووطنا مشاعا للراغبين في النهل والاستئناس، وهذا ما جعل كتاب النفري سفرا استثنائيا مدهشا بخلاف كافة مصنفات المتصوفة، لأنه بلا سيرة ذاتية تقتنص فيمكن للقارئ والمريد والكاره أيضا أن يستقرئ المواقف والمخاطبات في ضوء هذه الإشارات المتضمنة بسيرته وحياته، وكم من مؤرخ وناقد ومتتبع لسير أقطاب التصوف في الإسلام استعان بسيرهم من أجل تفسير مضمون العاقبة لمصنفاتهم وسطورهم التي لا تزال خالدة الذكر والتداول.
ولحظات الاقتناص تلك تضطر القارئ دوما إلى التماس فرضيات القراءة، ومعالجة النص التراثي بآليات ومناهج نقدية معاصرة غير تاريخية، وعدم الاعتماد على أطر منهجية معتادة من أجل تحقيق الوصول إلى المنطق الداخلي الذي يحكم هذه النصوص الصوفية التي تكترث كثيرا بالترميز اللغوي والإشارات صعبة المراس والتأويل النقدي المباشر لها، وهذا يجعلنا نشير إلى السؤال المكرور حول النصوص التراثية الدينية وهو هل من منهج واحد لقراءة النص التراثي الديني ؟ الإجابة بالقطعية تفي وتشي بأن المنهج التاريخي النقدي هو الأقرب لتناول جملة كبيرة وعريضة من نصوص التراث، لكن في حالة المشهد الصوفي يبدو الأمر مغايرا، لجملة من الأسباب أيضا أبرزها طبيعة النص الصوفي الذي يتسم بالعمق الذي يبعده كثيرا عن التناول التاريخي القريب لشخصية الشيخ الصوفي وللعصر الذي يمثله أيضا، علاوة على أن النص الصوفي الواحد متعدد الشكل متنوع المضمون وهذا التنوع يجعله محصنا وبمنأى عن التناول النقدي المعتاد، بل يمكننا أن نرصد حالة نقدية صوب النصوص الصوفية، وهي أنه بقدر ما يحاول المؤرج أو الناقد لتحليل وتأويل النص الصوفي ساعيا في ذلك إلى خلق مساحات أوسع من الفهم والتلقي، بقدر ما يزيد هذا التناول غموضا عليه، فهو يضئ مساحات ويترك مساحات أخرى معتمة.
الملمح الآخر الذي يمكن رصده ونحن بصدد اقتناص المشهد الصوفي هو تحولات المعرفة داخل النص وتطورها، فبرغم أن النص الصوفي يبدو تراثيا بحكم موقعه الزمني، إلا أن المعاصرة والجدة والحداثة من أبرز سماته مما يجعل تداخلا بين موقفي الاتصال التراثي والمعاصر وهذا التداخل يشكل صعوبة لدى الناقد وهو يتناول نصا صوفيا بالغ الترميز. ولعل سمة التداخل هذه امتزجت فيها البلاغة التخييلية بالغاية التواصلية التداولية وهو الملمح الأكثر بروزا في المواقف والمخاطبات لاسيما المواقف التي تمثل مشهدا افتراضيا، يقول النفري: ” يا عبد، اخرج من همك تخرج من حدك “، ويقول أيضا: ” يا عبد، الوجد بما دوني سترة عن الوجد بي، وبحسب السترة عن الوجد عن الوجد بي تأخذ منك البدايات، كنت من أهلها أم لم تكن من أهلها”.
البَحْثُ عَنْ لَحْظَةِ اقْتِنَاصٍ:
أما إمامنا وشيخنا القطب عبد الجبار النفري يمثل صندوقا أسود لا يمكن العثور على حقيقة تاريخية بشأنه إنما بشأن سفره العظيم المواقف والمخاطبات، وكم من مستشرق أجنبي أرهق لهثا وبحثا وتنقيبا عن مَعْلَمٍ يمكن من خلاله العبور إلى وقفات النفري ومخاطباته، وجلَّ ما استطاعوا تسطيره عنه مثل ما أورده جوزيبي سكاتولين في كتابه ( التجليات الروحية في الإسلام )  أنه من مدينة ( نَفَّر ) وهي مدينة بابلية قديمة بالقرب من الكوفة، اسمها الأصلي ( نيبور )، وكان فيها معبد ( آكور)  الذي عُبِدَ به الرب إنليل المعروف  بسيد الهواء،  واستحالت المدينة بعد ذلك مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي.  وكل ما وصل إلينا من حكايته شيئان فحسب، ما رواه الصوفي الكبير عفيف الدين التلمساني في شرحه للمواقف والمخطابات بأنه كان كثير السفر كثير الترحال في البراري، لا يسكن إلى إنسان، ولا يستوطن بمكان،مستوحشا المكان وربما الزمان أيضا، وهو شخصية تعتاد التخفي عن قصد، والابتعاد عن الأنظار متعمدا ذلك، ويروي عفيف الدين التلمساني أنه توفي بمصر المحروسة. أما الشئ الثاني الذي وصل إلينا واضحا جليا هو كتابه المواقف والمخطبات وهو رؤية للكون والأشياء من زوايا استثنائية تفوق كل المعارف الصوفية وكل البيان البلاغي البشري، والنفري هو صاحب المقولة الأشهر في تاريخ التصوف والتي رددها بعده مئات مئات المتصوفة وهي مقولة ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة “.
واجتهد المؤرخون العرب والمستشرقون على السواء في تحديد جملة من الأسباب التي أدت إلى غموض شخصية النفري، وغموض توقيت تصنيفه لكتاب المواقف والمخاطبات والذي اكتشفه المستشرق آرثر جون آربري في عام 1934 ميلادية، ومن هذه الأسباب أن عبد الجبار النفري عاصر محنة الحسين بن منصور الحلاج، تلك المحنة التي انتهت بقتله حتى صارت شخصيته بعد ذلك مصدرا أصيلا للإبداع الشعري والمسرحي واستحال هو نفسه أيقونة لحرية التعبير والإبداع، ويشير كثير من نقاد الأدب إلى أن نصوص الحلاج الصوفية هي المصدر الأصيل لما يعرف بقصيدة النثر المعاصرة، ولعل محنة الحلاج أجبرت كثيرين على الجنوح بعيدا عن المشهد الاجتماعي وحراكه خوفه من سوء الفهم وغضب الحكام ورجال الشريعة والخوف من تكفير الفقهاء . لاسيما وأن بعضا من مواقف النفري تجعله ينال نفس مصير الحلاج إذ يقول في مواقفه: ” وقال لي في خلافية التعرف، فوقفت فرأيته جهلا، ثم عرفت فرأيت الجهل في معرفته ولم أر المعرفة في الجهل به “، ويقول أيضا: ” من علامات اليقين الثبات، ومن علامات الثبات الأمن في الروع “. امرأة رقص صوفي
والسبب الثاني الذي دفع النفري إلى الاحتجاب وانعدام الظهور المجتمعي هو ما ذكره بعض المؤرخين عنه بأنه شيعي المذهب؛ وهو ما يبدو من خلال نصِّه الأخير في المواقف والمخاطبات الذي يشير فيه إلى الإمام المنتظر الذي يظهر وأصحابَه في آخر الزمان، بحسب الرواية الشيعية، والاعتقاد الشيعي بخصوص الإمام المنتظر متطابق مع مفردات النص النفَّري. لكنني حينما عدت إلى الموقف الأخير من مواقفه وجدته يتحدث عن ( الكنف ) وفيه تناول موضوعات سريعة كالقوة والوسائط، العلم والعمل، ولا توجد أية إشارة للتشيع حسبما وصف بذلك، أما في المخاطبة الأخيرة وهي بعنوان ( مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت)  وفيها يقول : ” أوقفني وقال لي قل لليل ألا أصبح لن تعود من بعد لأنني أطلع الشمس من لدن غابت عن الأرض وأحبسها أن تسير وتحرق ماكان يستظل بك وينبت نباتا ماء فيه وأبدو من كل ناحية فأرعى البهائم نبتك ويطول نبتي ويحس وتتفتح عيونه ويروني واحتج فيكتبون حجتي بإيمانهم ويفرق الجبل الشاهق من قعره بعد أن كانت المياه في أعلاه وهو لايشرب وأخفض قعر الماء وامد الهاجرة ولا أعقبها بالزوال هنالك يجتمعون وأكفئ الأواني كلها وتري الطائر يسرح في وكره وترى المستريح يشتري السهر بالنوم ويفتدي الحرب بالدعة “. والحقيقة أن التشيع بغير ملمح واضح في كتاب المواقف والمخاطبات سوى أنها غارقة في العرفانية والذهنية المحضة.  
المَوَاقِفُ والمُخَاطَبَاتُ: 
كما ذكرنا من قبل أن مصنف عبد الجبار النفري ( المواقف والمخطابات ) يستمد قوته ومكانته المعرفية والصوفية كون صاحبة بغير سيرة ذاتية كافية وشافية للمريد والمهموم بتاريخ التصوف في الإسلام، مما يجعل الكتاب نفسه هو الملمح الأهم والأبرز في حياة صاحبه، و هو ـ أي الكتاب ـ يعتبر بمثابة دليل ثقافي للتصوف ونموذج معرفي شديد الخصوصية الذهنية إذ يتطلب قدرا عاليا من التأويل ومن قبله رصد المشاهد المعرفية المتضمنة في المواقف، وربما أشار كثير من مؤرخي حركة التصوف إلى أن المواقف والمخاطبات مشروع جديد في التصوف الإسلامي قائم على المنحى الذهني المعرفي، وحاول كثيرون أن يربوا بين كتاب عبد الجبار النفري وبين كتاب الاعترافات لأوجستين واضع أول سيرة ذاتية في التاريخ.
خلاصة الملف 
هي الجملة التي اكد عليها الدكتور مصطفي رجب "التصوف الصحيح هو الاسلام الصحيح " 

شارك