الخلافة والنبوة
الخميس 14/يوليو/2016 - 07:08 م
طباعة
ثمة دواعي كثيرة تدفعنا للتساؤل عن علاقة الخلافة بالنبوة، أولها ظنية ثبوت الأحاديث التي تربط الخلافة بالنبوة، وتضاربها أحيانا، إذ لا ترقى إلى الحجة القاطعة التي توحي بتنبؤ علمي عن التحول، أو تَبني منهجا محكما للتغيير.
وثانيها خلط العقل الاسلامي، خاصة بعد عهد الخلافة الراشدة، بين مقام النبوة ومنصب الخلافة. فهل سيعود نظام الخلافة القديم لإلغاء حدود الوطن؟ وهل نقبل أن يتصرف الخليفة أو أن يجتهد سياسيا بإيحاء يشير إلى أنه يُنْفِذ إرادة الرب؟ أليس كل ما يمس الجانب السياسي؛ من طبيعة نظام الحكم وولاية العهد وتوقيت مدة الحاكم، خاضع لرجحان المصلحة وحصافة الرأي؟
لا أنكر أن ما أذهب إليه في الموضوع جاء نتيجة ضغط قوي فرضته كبرى تحولات الاجتماع الانساني، كما لن أبوح سرا إن قلت لكم أن ما أهم بالخوض فيه شائك وشائق للغاية، تردد إزاءه العلماء المسلمون، لكنهم تحلوا بالشجاعة حينها فكتبوا مقدمات تهدي إلى الرشد، وتعين على الحسم في عصر يطبعه التعقد.
يعرض ابن خلدون في المقدمة تعريفا للسياسة قائلا: "السياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم" . تردد هذا المفهوم على لسان ابن خلدون وعلماء آخرين، وهو يوحي بمعاني بات ينبذها الفكر الانساني المعاصر، وأقصد هنا الدولة الدينية والحق الالهي في الحكم. غير أن ابن خلدون، رائد علم الاجتماع السياسي، عمق التحليل في مقدمته المشهورة ليشير إلى أن حكم النبوة لا نظير له، ذلك أن حيثيات نشأته لا يمكن أن تتكرر.
يشير ابن خلدون إلى أن ما عاشه النبي صلى الله عليه وسلم في تجربته السياسية مع الصحابة جرى "كله بخوارق العادة من تأليف القلوب واستماتة الناس دونه، وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرتهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة" .
ثم اتصف حكم الصحابة من بعده، صلى الله عليه وسلم، بالرشد والعدل ومخالفة بعض قرارات النبي السياسية (عدم قسمة أرض السواد، إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم...)، وأضافوا مقتبسين من التجربة الانسانية أشياء لم يفعلها النبي كفرض الخراج، وكتابة المصحف، وإحداث الدواوين، واتخاذ دار السجن. وأضاف التابعون أشياء أخرى كسك النقود وتنظيم البريد، وجاء من تبعهم بإحسان بأشياء لا تحصى، كتدوين العلوم، وابتكار علوم جديدة، مثل علوم الدين واللغة والتاريخ والعلوم الانسانية.
لكن غياب ضبط كاف لعلاقة الدين بالسياسة سمح للحكام بإحلال منصب الخلافة في مقام النبوة، بالرغم من كل الطوام التي سجلها التاريخ عليهم، فلم يجدوا حرجا من أن يخطبوا في الناس قائلين: "الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فالفضل مني". أو قائلين: "أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله" .
كان التاريخ الوسيط حافلا بمشاهد حكومة "الوحدة الالهية" التي ألفها الحكام بغير إذن من الرب، سواء عند المسليمن أو عند المسيحيين. غير أن الفساد داهم الكتلة المسيحية وأدعياء السماء بداية، لكونها سبقت العرب باستقبال الرسالة، ثم إن الفساد الذي طالها تسرب إلى الأصل؛ أي إلى تحريف الكتاب المقدس. فلم يطق التاريخ الحديث والمعاصر استمرار التخلف والظلم باسم الرب، فأوجد مبررا منطقيا لنشوب نضال وطني ضد التحالفات المقدسة والامبراطوريات المؤَيَّدَة بسلطة الكنيسة التي كانت تسعى إلى إخماد ثورات هدفها "تقاسم السلطة مع الرب".
أما الكتلة الاسلامية، فتراكمت أعطاب خلافتها المقدسة إلى آخر العهد العثماني، حيث فشت سياسة التتريك العنصرية، فاتجه التاريخ إلى تقوية حركات استقلالية وطنية تنشد التحرر وتعارض الاستبداد وترفض التخلف الذي تَسَيَّد باسم السماء. وفي هذه الأثناء تكاثفت الجهود لوأد تجربة بناء الدولة الاسلامية الحديثة في مصر، فمن ناحية جابهتها الحركة الوهابية باسم الدين، ومن ناحية أخرى أفشلتها القوى الاستعمارية (بريطانيا) تأمينا لمشاريعها الاستغلالية، وخوفا من إشعاع نجاحها بباقي أرجاء العالم الاسلامي.
إن خطاب الخلافة والنبوة بعيد عن الدين لأنه لم يتحر صحة النقل لبناء التصورات والعقائد، وهو يقفز على التاريخ متجاهلا منطقه وفلسفته، كما أنه غائب عن الواقع لكونه لم يستوعب نوع وكم التطورات التي راكمتها تجربة الدولة الحديثة، ومحجوب عن الرشد إذ لم يُقَدِّر أخطار الاصطدام بالفرقاء.