الثقافة الجديدة تتساءل وتفتح الملف: مفهوم الخلافة وهم عاطفي أم واقع تاريخي؟!

الجمعة 17/أكتوبر/2014 - 10:32 م
طباعة الثقافة الجديدة تتساءل
 
في العدد الخاص الذي صدر مؤخرا عن مجلة الثقافة الجديدة وكان محوره ( نظام الحكم في الإسلام) تضمن مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تعاملت بعمق وجرأة مع هذه القضية ومنها (مفهوم الخلافة بين الوهم العاطفي والواقع التاريخي ) للدكتور مصطفي رجب، ونظرية الإمامة للدكتور محمد السيد اسماعيل  والفتنة الكبرى ..ثمة بداية وليس ثمة نهاية  والخوارج وفكرة الحكم لعمر مصطفي لطف والخلافة والأبوية في فكر حسن البنا للشريف منجود وعلاقة الإسلام بالحكم في رؤى الباحثين القدماء والمحدثين لأيمن مسعود، وسوف نحاول في هذا العرض تقديم ملخص وافٍ لبعض هذه الدراسات:

بين الوهم والواقع

الدكتور مصطفي رجب
الدكتور مصطفي رجب
يتساءل الدكتور مصطفي رجب في دراسته ( مفهوم الخلافة بين الوهم العاطفي والواقع التاريخي): هل تقوم فكرة الخلافة أو الإمامة أو الولاية على أساس تشريعي؟ وهل هذا الأساس يجعل إقامتها واجبة أو جائزة ؟ ويناقش الأدلة على وجوب الإمامة، فصحب مذهب وجوب الإمامة عدد من الأدلة بثبوت قوة مذهبهم وهم هذه الأدلة:

الدليل الأول: إجماع الأمة

الدليل الأول:  إجماع
روت كتب التاريخ الإسلامى أن الصحابة بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة الرسول بادروا إلى عقد اجتماع في سقيفة بنى ساعدة، اشترك فيها كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وتركوا أهم الأمور لديهم وهو تجهيز النبي ودفنه وتداولوا في أمر الخلافة فيما بينهم، وهم وإن كانوا اختلفوا حول شخص الإمام أو الخليفة الذى يجب أن يبايع، أجمعوا على ضرورة وجوب وجود إمام ولم يقل أحد مطلقًا إنه لا حاجة لنا من قيام إمام أو خليفة، وكان أبو بكر قد خطب في الناس في السقيفة وقال: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئًا وسيجزى اللّه الشّاكرين" (آل عمران/ 144). فذلك الإجماع على هذا الوجه اليقين دليل قاطع على وجوب الإمامة.
والذى يقدح في هذا الدليل امتناع عدد من الصحابة- أبرزهم على بن أبى طالب عن البيعة أو شهود هذه الواقعة، لأسباب لا مجال لبحثها هنا، وإن كانوا بايعوا بعد استقرار الأمر، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن هناك تحفظات شرعية/ عقلية على إمكانية تحقق فكرة (الإجماع) من الأساس.

الأدلة على أن الخلافة كانت اجتهادًا بشريًا وليست أمرًا شرعيًّا

من القرآن الكريم:
 - التفرقة بين النبوة والملك أصل قرآنى واضح لقوله تعالى {ألم تر إلى الملإ من بنى إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اللّه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّا تقاتلوا قالوا وما لنا ألّا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلّا قليلا منهم واللّه عليم بالظّالمين (246) وقال لهم نبيّهم إنّ اللّه قد بعث لكم طالوت ملكًا، قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إنّ اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم واللّه يؤتي ملكه من يشاء واللّه واسع عليم (247) وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينة من ربّكم وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (248)} (البقرة: 246- 248).
- عدم وجود نص في القرآن بالخلافة، وإثبات وجودها بما يسمى (الإجماع) فيه افتئات على القرآن الكريم واتهام له بالنقص لقوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا" (المائدة/107)
- عدم وجود نص في السنة النبوية بوجوب إقامة الخلافة، وإثبات وجودها بما يسمى عندهم (الإجماع) فيه افتئات على النبي بالتقصير في تبليغ رسالة الله لقوله تعالى: "يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته" [المائدة/119]، وقد ثبت من السنة أن النبي لم يستخلف ففي سنن أبى داود بتحقيق شعيب الأرناؤوط (4/ 563) عن ابن عمر، قال: قال عمر: إني لا أستخلف فإنّ رسول الله لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله أحدا، وأنه غير مستخلف.
قال النووى في "شرح صحيح مسلم": حاصله [أى حاصل الحديث السابق] أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف، ويجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي في هذا، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر.
الدليل الثانى: وجود الإمام ضروري لدفع أضرار الفوضى عن المجتمع الإسلامي وتنفيذ الواجبات الدينية والدنيوية
يقول الماوردى: "لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفعل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجًا مضاعين"، بمعنى أنه يتوقف على قيام الإمام، القيام بالواجبات الدينية والدنيوية سواء أكانت هذه الواجبات فردية أم جماعية، وكذلك دفع أضرار الفوضى حيث يقوم الإمام بمثل هذه الواجبات.
وحيث إن ابن خلدون يعبر عن الإنسان بأنه مدني بالطبع وأنه لا بد أن يعيش في مدينة وأنه يعجز عن أن يعيش بمفرده، وحيث إن حاجات الإنسان متنوعة وهذا يؤدي بدوره إلى توزيع الأعمال والصناعات فيقوم العمران، ثم إن العمران البشرى فيه لا بد أن يحدث الاختلاف والتنازع، ما يؤدي فيه إلى المشاحنات والحروب والهرج وسفك الدماء والفوضى فيما بينهم، فإن ضرورة قيام الإمام في هذه الحالة ليسوس بينهم ويمنعهم من التهالك والتحارب.
وقال الإيجى (المواقف، ص 346): "فإنهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضى ذلك إلى التنازع والتواثب، بل ربما أدى إلى هلاكهم جميعًا، وتشهد له التجربة والفتن عند موت الولاة إلى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش وصار كل أحد مشغولاً بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه، وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين".
وهذا دليل عقلي لا نقلي، والرد عليه أنه لا يماري أحد في ضرورة وجود حاكم، لكن في تسميته (خليفة) وإسباغ صفة دينية عليه ترفع قراراته إلى حد القداسة إشكال كبير وتدليس لا أساس له.
الدليل الثالث: إقامة العدالة الكاملة في المجتمع الإسلامى
قال ابن أبى الربيع (شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبى الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق الدكتور (حامد ربيع)، القاهرة، طبعة جمعية المعارف المصرية، 1969م، ص80: 91) عن المملكة "إن لها أربعة أركان هي الملك والرعية والعدل والتدبير، وقصد بالعدل الدين كما عرفه بأنه حكم الله المتعالي في أرضه" وفي قوله هذا تشابه مع رأى الغزالي الذي قال: "الدين والسلطان توءمان ولهذا قيل الدين أس، والسلطان حارس وما لا أُس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع".
وعلى هذا فعلماء السياسة القدامى من المسلمين يرون أن العدل الكامل لا يتحقق ولا تكفل للناس سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ولا تتم وحدتهم ولا تنتظم أمورهم إلا بوجود الإمام أو الخليفة، لأن الإمامة أو الخلافة إنما تعنى الحكومة الإسلامية القائمة على أساس من الدين، فالعدل الكامل لا يتمثل إلا في الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فهو خالق النفس البشرية وأعلم بها، وحينما يصبح هو الواضع للدستور الذى يكبح جماح هذه النفس يتوحد بذلك وحده المصدر من حيث الخلق والتشريع.
وهذا الدليل يرده الواقع التاريخي باغتصاب معاوية للخلافة بحد السيف وقتل معارضيه السياسيين لمجرد إبدائهم آرائهم، مثل حجر بن عدى الذى قتله معاوية لمجرد الرأي وهو لم يشارك في أية حرب ضده.

الواقع التاريخي لممارسات الخلفاء

وإذا كان اضطهاد الأمويين لآل البيت مبررا- من وجهة نظرهم- فماذا نقول عن التعذيب والتنكيل والقتل الذي حل بهم من أبناء عمومتهم العباسيين؟!
لقد نجح العباسيون في استغلال إثارة عواطف العلويين والفرس وغيرهم ضد الأمويين، وجعلوا شعار دعوتهم (الرضا من آل محمد)، وما إن سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ حتى استأثر العباسيون بالثمرة وأعلنوا- في الكوفة- أبا العباس السفاح خليفة للمسلمين!
وقد سام العباسيون العلويين خسفًا وتنكيلاً في عهد أبى جعفر المنصور بعد إعلان محمد بن عبد الله بن الحسن- المعروف بالنفس الزكية- مقاومتهم بسبب نقضهم العهد واغتصابهم خلافة المسلمين، واختفي- وبرفقته أخوه إبراهيم- من وجه المنصور الذى أخفقت كل سبل خداعه في الإيقاع به، فألقى القبض على آل الحسن، وأمر بسوقهم- من المدينة المنورة- إلى الكوفة على إبل دون وطاء، وحشدهم في سجن مظلم كانوا لا يعرفون فيه الليل من النهار، وقد مات كثيرون منهم نتيجة ما تعرضوا له من تعذيب وتنكيل.
أمام هذا الواقع المأساوي، والإلحاح الشديد من الأنصار، ظهر محمد النفس الزكية، وأعلن الثورة بالمدينة المنورة في أول شهر رجب عام 145هـ، وكانت ثورته ثورة بيضاء، فقد منع أنصاره من سفك الدماء أو الثأر لأنفسهم وذويهم، وأرسل عماله إلى اليمن ومصر وخراسان والبصرة وغيرها.
فأرسل المنصور- بعد فشله في خداع النفس الزكية- جيشه إلى المدينة المنورة، ووقعت حرب ضارية بين الطرفين، حمل فيها النفس الزكية سيفه ونازل العباسيين في شجاعة نادرة حتى قتله (قحطبة بن حميد)- 14 رمضان 145هـ-، وقطع رأسه، فأرسلها عيسى بن موسى- ولى العهد وقائد الجيش- إلى المنصور الذى أمر أن يطاف بها في شوارع مدينة الكوفة.
ولم يكتفِ العباسيون بقتل النفس الزكية، وإنما أقاموا مجازر رهيبة في صفوف أبناء الإمام الحسن بن على-رضى الله عنهما- وفي صفوف المخلصين من أتباعهم، فقتلوهم، ثم صلبوهم، حتى ضج سكان المدينة بالشكوى، فأمر عيسى بن موسى بإلقائها في مقابر اليهود!

الخلافة والأبوية

وفي ورقته المهمة الخلافة والأبوية في فكر حسن البنا.. تطلعات جماعة تسرق مفتاح الجنة كتب الباحث الشريف منجود يقول
حين تطالع أفكار حسن البنا تجد أنك أمام تجربة كاملة معقدة تعتمد على مفهوم الإمامة والأبوية، وهى تجربة ليست بجديدة على مفهوم الدين عامة كما في كهنوت العديد من الديانات القديمة والحديثة، وخاصة في نماذج الفرق الإسلامية التى ظهرت مع بدايات المُلك العربي والإسلامي كالباطنية وهى أشبه إلى مفهوم التنظيم والتشعب والممارسات، فنموذج حسن البنا هو تقريبًا نفس نموذج حسن بن عطاء، والخوارج وفرق الشيعة وغير ذلك من الفرق التى حاولت أن تسيطر على عامة الأمة بالعمل السرى تارة والمواجهة العنيفة تارة أخرى، فالتاريخ الإسلامي شاهد على الصور العدائية التى مارستها بعض الجماعات الساعية إلى السلطة أو السيطرة، فقد ظلت تتناحر عبر زمن كبير إلا أنه في النهاية خاب مسعاها وانهارت أيديولوجيتها في مقابل التزام عامة المسلمين بتعاليم النبي والبعد عن التطرف والانشغال بالسؤال والاختلاف، ولعل المبدأ الذى سيطر على أفكار هؤلاء هو الحاكمية التي مارسها ويمارسها أعوان الفكر السلفي وهو ما سنبينه.
يكشف حسن البنا عن منهج جماعة الإخوان المسلمين، وهو منهج نسبه صاحبه إلى صحيح الدين، ويقر بفروض ما أنزل الله بها من سلطان لكن ولأنه يشعر بأحقيته في فرض أشياء ووجوب أشياء أخرى يؤكد على أن الجهر بدعوة الإخوان وتوجيهها للناس فريضة، بل وحماية هذه الدعوة هي أيضًا فريضة، ويقر - في رسائله- بالحب لمن والاها وللعداء لمن ناوأها، وهى صيغة تفي بمدلول التحزب والإقصاء والعدوان على الآخر المخالف له والتي ينص عليها كلمة (عداء) في تصريح البنا، فإذا ما استدعيت كلمة عداء وما تحمله من شر تجد منطق آليات الخطاب الديني السلفي الذى تبلور فيما بعد في فكر سيد قطب، الذى يعتقد أن الناس إذا عاشوا بمنهج الله ونظامه فهم في دين الله وإن كانوا في منهج غيره أو نظامه، فهم في دين غير الله ..ويضيف الشريف قائلا.
يضعنا تاريخ الإخوان المسلمين أمام تجربة مذهبيه شبيه بالمذاهب والفرق الإسلامية التاريخية القديمة؛ حيث شكلانية البناء للفرقة أو المذهب، وكذا المنهج الباعث إلى إنشاء الفرق غير أنها ليست جماعة أصيلة أي ذات بناء ومضمون فريد، وإنما هي استنباط خرج من حضن مذهب ما كبير واتخذ طريقه كمذهب سياسي. 
ودعوتي هذه مبنية على أن الإخوان المسلمين لم يأتوا بعقيدة، بمعناها المذهبي، جديدة عما أتى به أصحاب المذاهب التاريخية القديمة، بل ربما تجد شبه كبير بين طرح الأفكار وطرق الوصول إليها، ومن هنا نستنتج أنها شبيهة بتلك المذاهب المنبثقة من أحضان مذهب كبير، ودورنا هنا هو محاولة معرفة الانتماء المذهبي والمقاربة بينه وبين أي المذاهب انبثاقًا.
من خلال عرض الأفكار الرئيسية للإخوان المسلمين ومحاولة توصيفها في إطار معرفي نابع من مفاتيح الفرق التاريخية يتأتى لنا الكشف أولاً: عن البناء الشكلانى وهو ما يعرف بالهيكل التنظيمي أو الهيكل المقدس الثابت عبر طبقات الفرقة، وربما لا نجد كثيرًا من الفرق التى اهتمت بالبناء الشكلي الهيكلي غير فرقة الشيعة وما انبثق منها من مذاهب وفرق كالإسماعلية والباطنية وغيرهما، حيث اهتموا قبل الخوض في أي مسألة أن يبنوا هيكلهم ومن خلال هذا الهيكل جاءت العقيدة وتأصلت، فكانت فكرة الإمامة وصار تأصيلها الغرض الأسمى للبناء المذهبي الشيعي ومن تابعهم، بل وصار محور العقيدة فيما بعد، ولعل الإخوان المسلمين قدموا هذا النموذج بل وأصلوه من خلال مؤتمراتهم الأولى لمرشدهم الأول.علاقة الإسلام بالحكم
وفي بحث علاقة الاسلام بالحكم كتب ايمن مسعود يقول لقد  سعى كل الحكام -عبر تاريخ البشرية- إلى كسب التأييد الذى يقيم دعائم ملكهم، وسواء كان هذا التأييد شعبيًّا أو إلهيًّا، فإن هؤلاء الحكام جذبوا إلى بلاطهم طوائف من المداحين والمؤكدين لهذا التأييد.
الأمر ليس سلبيًّا وليس - بالضرورة- دلالة على نفاق هذه الطوائف، فإن منهم من كان مقتنعًا بالفعل بقوة هذا التأييد، سواء للتميز الشخصي الذى عكسته صفات الحاكم، أو لرغبة الناس في وجوده، إلا أن العناوين الرئيسية للتاريخ تحتفل أيما احتفال بالشاذ والمنكر والغريب من صنوف هذا التأييد.
وظهرت حول أنظمة الدولة كتابات شارحة، تؤدي دورها في نقل الحدث التاريخي، وأخرى حزبية تؤسس لوجهات نظر معارضة.. واحدة ترى وجوب الطاعة لولى الأمر لأنه خليفة رسول الله أو لأنه الحاكم بأمر الله، أو لأنه ظل الله على الأرض أو لأنه خليفة الله المباشر في حكمه... وأخرى ترى وجوب الخروج عليه لأنه عدو لله سرق الأمر من مستحقيه، أو لأنه طاغية وجبار أو لأنه غير كفء أو لأن هناك من هو أكثر كفاءة منه...
الطريف في الأمر أن كلا الفريقين -والفرق الأخرى- تستدل جميعًا بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة وبأقوال الفقهاء وبمقتضى الواقع! ولكل فريق وجهة نظره التي يبنيها من خلال هذه الاستدلالات!
ويضيف ايمن "نظرة سريعة في مقدمة ابن خلدون تضعك على عتبة فهم الأمر انحيازًا إلى الحاكم القائم على أمور الدين والدنيا معًا، كما جاء في تفسيره لمصطلح الخلافة: "والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين والسياسة".
فالخلافة إذن عند القدماء منصب ديني يقوم صاحبه مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو على الأقل يستمد تأييده من الله تعالى! وهم في سبيل ذلك يقفون كل موقف ممكن من النصوص الدينية التي يمكن أن يستخرجوا منها دلالة طاعة ولى الأمر وترتيب رتبته في مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، كقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم..." أو كأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي منها: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، أو ما أطلقوا عليه "الإجماع"، كإجماع الفقهاء على ضرورة الخلافة الإسلامية، أو إجماع الصحابة على الخلفاء الثلاثة الأوائل وفق نقلهم الذى خالفه الواقع في كثير من الأحيان!
القدماء إذن، وباعتبار أنهم اعتقدوا أن الخلافة شأن دينى، لم يبحثوا خارج إطار النص الديني المقدس لإثبات وجهة نظرهم! أما العلماء المحدثون الذين رفضوا اعتبار الخلافة شأنًا دينيًّا، فقد انساقوا في هذا الإطار ردًّا منهم على أقوال القدماء، فأصبحت مساحات الاختلاف دينية بحتة، رغم أنهم يرون أن الخلافة أمر دنيوي" والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة... وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة..." رغم هذا النص الواضح الذى خلص إليه الشيخ على عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، فإن الكتاب في مجمله تفنيد للأدلة الشرعية التي ساقها الأولون تدليلاً على رأيهم!
الأسبقية من أهم العوامل التي أدت بهذا الصراع الفكري إلى التوجه الديني! وأقصد بالأسبقية هنا أسبقية التناول الفقهي والتاريخي للأمر منذ الدولة الأموية.. والعجيب أن هؤلاء الفقهاء والمؤرخين تجاهلوا آليات قيام الخلافة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وكيف اختلف المهاجرون والأنصار في قيامها! صحيح أن معايير التفضيل كانت دينية، ولكن العوامل المنظمة لاختيار الخليفة وآليات بناء الدولة وشئونها التنظيمية كلها خلا منها الشرع تمامًا، وتركها -بعد أن استقر الدين في النفوس- لعموم المجتمع؛ يختار تفصيلاتها كما يقرر.
الخلط 
عامل آخر يضاف إلى هذا الخلط في دينية الحكم أو دنيويته، وهو عدم اتضاح الفارق بين الدين والدولة، فالعرب قبائل متفرقة؛ لكل منها حياة وعادات وتقاليد وآلهة خاصة ونظام إداري مستقل وربما لهجة مختلفة... فلما جاء الإسلام دينًا ارتبك العرب في البداية، ولم يستطيعوا تحديد الأمور التي يتعرض لها الدين دون غيرها، فهو لا يقتصر على بيان عقيدة الإيمان بالله فقط، أو العبادات المترتبة على العقيدة، ولكنه منفتح على السلوكيات الاجتماعية والشخصية والعديد من أمور الحياة، حتى أن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم تصديقه للخبر وتهديده للقائلين به بالقتل بعد عودة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من لقاء ربه كلقاء موسى به... عمر نفسه قال كما جاء في تاريخ الطبري: "إني قد كنت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إلىَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنى قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا".
هذا -إذن- هو أفق التوقعات الذى سيطر على الخيال الديني وقتها.. هذا الدين الذى جاء ليغير كل شيء، ويطرح بديلاً راقيًا ورائعًا لكل سلبيات الحياة التي عاشها العرب قبله، بل لسلبيات الحياة التي عاشها الإنسان بشكل عام! لا بد -إذن- لهذا الدين أن يدبر أمر الدنيا كما دبر أمر الآخرة! هذا هو ما توقعه عمر -رضى الله عنه-، ولكن عمر لم يؤول الدين ولم يستنطقه بما لم ينطق به، فعدل عن موقفه بعد أن هدأت أعصابه وتخلص من الاضطراب الذى سيطر عليه!
أما الحكام بدءًا من الدولة الأموية، فقد استنطقوا الفقهاء ليخلعوا عليهم قداسة دينية؛ تُحرّم الخروج عليهم، وتضع في يدهم مقاليد الأمر والنهى، بتفويض من الرسول الذى يخلفونه أو حتى من الله الذى يعتبرون أنفسهم ظله على الأرض! لا بد لهم من حصن ديني انتزعوه بأقوال الفقهاء الذين ربطوا بينهم وبين الدين، وجعلوا الذى يموت وليس في عنقه بيعة جاهليًّا يلقى الله على جاهليته، وساووا بين المرتدين والمخالفين لحكم أبى بكر- رضى الله عنه-، فأطلقوا عنوان "حروب الردة" على الحروب التي خاضها أبو بكر توطيدًا لدعائم الدولة، رغم أن عمر بن الخطاب وصف "مالك بن نويرة" بالمسلم بعد أن قتله خالد بن الوليد ولم يعترض أبو بكر على هذا!

شارك