في أزمنة التغيير: النظام السياسي والدين.. الضرورة والتاريخ الحديث
السبت 12/يناير/2019 - 12:31 م
طباعة
اسم الكتاب - أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسيّ
الكاتب – د رضوان السيد
الناشر – أبو ظبي
في سياق قراءته لتجربة الحركات الإحيائية والإسلام الحزبي في العالم العربي، خلال المئة سنة الماضية، للمفكر العربي رضوان السيد يضم هذا الكتاب مقدّمة تمهيدية، وأربعة أبواب تعالج قضية الدولة الوطنية، وموقف حركات الإسلام السياسيّ منها من عشرينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا.
ويمكننا القول: إن الأطروحة الأساسية للكتاب هي أن نظرية تطبيق الشريعة صارت في حقبة محدّدة صيحة الحرب التي تقود حركات الإسلام السياسيّ وتوجّهها في هذا الجزء من العالم، خصوصاً بعد أن أخذت السلطة السياسية طابعاً عسكرياً في كلّ من تركيا وسوريا والعراق ومصر منذ بداية الخمسينيات، وعوضاً عن مواصلة نضالها ضدّ الاستعمار، وظاهرة التغريب، والمؤسسات الدينية التقليدية والعريقة، مثل: الأزهر، وجّهت حركة الإسلام السياسيّ كلّ جهودها لتقويض نموذج الدولة الوطنية، الذي تشكَّل في حقبة الحربين العالميتين بوصفها غير معنيّة بتطبيق الشريعة الإسلامية، لكن هل تغيّرت هذه الصورة بعد انتصار حركات التغيير العربية خلال العقد الثاني من القرن الحالي؟.
يرى الكاتب أن الربيع العربيّ ربما عجّل مع أمور أخرى استحضار المشكلات المتراكمة في الساحة العربية الإسلامية في العقود الماضية، وأن الحركات الجهادية وحركات الإسلام السياسيّ لا تزالان تهدّدان الدولة والدين معاً؛ الدولة بوصفها هيئةً تقوم بإدارة الشأن العام، والدين بوصفه سكينةً وليس أيدولوجيا للسطو على الدولة والشعب، ومناط هذا كله إخفاق مشروع الدولة الوطنية؛ إذ آل زمام أمور كل دولة إلى صالح جهات إقليمية ودولية، وبرزت ظاهرة التوريث الجمهوريّ، وانصرفت الدولة إلى القمع الداخليّ، ونشر المذابح والانقسامات، والتعامل مع الشعب بمنطق الغلبة والاستحواذ والقتل، لكن هذه الأوضاع العربية على الرغم من امتلائها بالانسدادات فما زالت حافلةً بالإمكانيات والممكنات.
كما يقول المؤلف في خاتمة الكتاب.
فباندلاع الحركات الشبابية عام 2011م انتهت مقولة الاستثناء العربيّ والإسلاميّ، وانفتح الأفق على الدولة المدنية العربية المستعادة في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان، ومع ذلك فإن جراحات المراحل السابقة فغرت أشداقها في كل مكان، وليس في دول الأنظمة العسكرية الاستبدادية وحدها، ولا ينتهي الكتاب إلا بدقّ ناقوس الخطر؛ بسبب وقائع كانت موجودةً قبل الربيع العربيّ واستفحلت بعده، وهي التدخّل العسكريّ والأمنيّ السافران من قبل إيران؛ لتمزيق المجتمعات، وتقسيم الدول، أو التلويح بذلك.
قراءة غنية
قراءة غنية ومحفزة على إعادة النظر من جديد في مشروعه؛ سواء على صعيد دراسته لعلاقة الإسلام بالدولة في الأزمنة الحديثة، أو على مستوى إعادة قراءته العميقة لتاريخ النظرية السياسية في التراث الإسلامي.
. إذ يرى السيد أن الإصلاحية الإسلامية سعت منذ الربع الأخير في القرن التاسع عشر لتجاوز التقليد وفتح باب الاجتهاد، ولذلك لم تنظر إلى الدين بوصفه مهدداً من الخارج، بل هو مهدد نتيجة الجمود في حركة التفكير، أما التهديد الأكبر –بالنسبة لها– فقد كان يتمثل في واقع الدول والمجتمعات الإسلامية التي ينبغي أن تمضي في سبل التقدم التي مضى فيها الغربيون لكي تنجو من العواصف الغربية الهائجة. بيد أن هذه الاستجابة ما كانت سريعة، لتتفاقم الأمور لاحقاً في ظل قدوم الاستعمار وسقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة لاحقاً في سنة 1924، التي مثلت برأي السيد مرحلة جديدة في سياق الوعي المتأزم الناجم عن السيطرة الاستعمارية على العوالم غير الأوروبية ومنها العالم الإسلامي، والتي عنت انتقالاً من إشكالية الإصلاح في السياق الأوروبي بغرض التقدم بالمعنى الغربي، إلى إشكالية الهوية والخصوصية. وفي هذا السياق يشير السيد إلى ملاحظات تشارلز آدمز في كتابه «الإسلام والتجديد في مصر» 1933، الذي بين كيف أن مئات الجمعيات التربوية والاجتماعية ظهرت عشية الحرب العالمية الأولى وفي أثناء العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ومن ضمنها جمعيات: «الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، وإحياء السنة، والجمعية الشرعية والشبيبة الإسلامية في بلاد الشام). وقد اختلط في هذه الجمعيات والجماعات الديني بالقومي والوطني والمحلي والخيري والاجتماعي، وبالتدريج وخلال فترة قصيرة انفصل الديني الإحيائي عن الوطني والقومي، فالحركات الوطنية والقومية انصرفت لاستعادة الشرعية من طريق الكفاح من أجل الاستقلال وإقامة السلطات الوطنية، أما النزعة الإحيائية الإسلامية فقد انقسمت إلى قسمين: الإحيائية السلفية التي استكانت إلى قيام الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبد العزيز آل سعود، والإحيائية الأصولية خارج المملكة العربية السعودية التي انصرفت إلى بناء شرعية بديلة عبر الجمعيات التي تعتمد أسلوب بيعة المرشد، فصار التنظيم هو المحور أو هو الدائرة التي تعتصم بها الشرعية التي يراد بناؤها.
وقد عرفت الحقبة الممتدة من الثلاثينيات إلى الستينيات اكتمال مقولات الحاكمية وتطبيق الشريعة، وهو ما أخذ يعني «تحولاً مرعباً»- وفقاً لتعبير السيد- في المنظومة المفاهيمية ضمن إسلام أهل السنة والجماعة، بإحلال الشريعة محل الأمة، وإحلال التنظيم محل العقيدة، واعتبار التنظيم مكلفاً بتزعم النظام لإعادة الشريعة والشرعية إلى الدولة والمجتمع. وبذلك صار الموضوع الوهمي الثابت في أخلاد فئات واسعة من العامة والمتعلمين المتدينين، إنما هو استعادة الدين أو استكمال ما نقص منه نتيجة التغريب (بعكس مرحلة الإصلاحية التي لم تكن تخاف على الدين سوى من الجمود)، ووفقاً لهذه الرؤية فإن مهمة الدولة الأساسية تصبح في تطبيق الدين أو شريعته، ويصبح الدين بيد المسيطرين في النظام السياسي. بينما كانت أكبر شكاوى تاريخنا الديني والسياسي هذا الأمر بالذات، أي وضع الدين بيد السلطة السياسية بحيث تستخدمه كيف شاءت (وهو أمر أشرنا إليه سابقاً في رؤية السيد لموقف ابن حنبل من مسألة خلق القرآن)، وسواء أكانت ذات أيديولوجية دينية أم مدنية أم بين بين، فإن أي جهة تحصل على شرعية باسم الدين تصبح قوتها مطلقة، فتفسد الدين من جهة، وتفسد إدارة الشأن العام من جهة أخرى.
وفي هذا السياق يتساءل السيد: من أين أتى اعتبار النظام السياسي ضرورة للدين أو ركناً من أركانه؟ فهذا الأمر كان موجوداً لدى الشيعة الإسماعيلية والاثني عشرية، لكنه ليس موجوداً لدى أهل السنة والجماعة، وهم سواد المسلمين الأعظم. فعلماء الكلام المسلمون من السنة والمعتزلة، وفقهاء المذاهب الكبار جميعا لطالما اعتبروا الإمامة أو رئاسة الدولة شأناً مصلحياً وتدبيرياً واجتهادياً، لا علاقة له بالتعبديات ولا بالعقائديات، أما في أطروحة الحاكمية والنظام الكامل فإن الشأن السياسي صار شأنا اعتقادياً، ويمكن أن يحكم على من لا يقول به بالكفر. ورغم أن السيد يؤكد على أننا قد عانينا وما نزال من ديكتاتوريات الجمهوريات الوراثية، إلا أن الإسلام السياسي خلق مشكلة مستعصية داخل الإسلام ذاته، من خلال تغييره لمفهوم الدين داخل الإسلام السني، ولذلك يرى أننا بأمس الحاجة اليوم إلى حركة نقدية لمسألة «تحويل المفاهيم» التي مارسها الإسلاميون لأكثر من نصف قرن، فأوشكت أن تغير من طبيعة الدين، وأن تتسبب في انشقاقات اجتماعية ودينية عميقة، ذلك أن الالتباسات لم تعد تقتصر على وضع الدين في خدمة الدولة، أو الدولة في خدمة الأحزاب الدينية، بل أنها باتت تشمل تغيير علائق الأفراد بدينهم صغاراً وكباراً.
ويصف الدكتور خالد عزب تعليقا علي الكتاب في مقال مهم بانه كتاب سجالي ونضالي. سجالي لأنه يعنى بمساجلة الإسلام السياسي، في أصوله ودوافعه وتياراته وتحولاته للمفاهيم الدينية، خلال ستة عقود. وهو كتاب نضالي لأن همه طرح بدائل لإخراج الدرس الديني والممارسة الدينية من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدولة والدين وبين الإسلام والعالم.
يرى رضوان السيد أن الاسلام الصحوي أو الأصولي أو الإحيائي - الأخير يفضله المؤلف- في عشرينات القرن العشرين بوصفه احتجاجاً على التغريب، وعلى الاستعمار، وعلى التقليد الإسلامي المتمثل في المؤسسات الدينية العريقة كالأزهر، وأخيراً على الدولة الوطنية.
درس المؤلف وحلل فكر العديد من الحركات الإسلامية وكشف اصطدامها بالدولة الوطنية العربية في بدايات المرحلة العسكرية. فقد كشف صدام العام 1954 بين ثورة تموز (يوليو) و «الإخوان» عن أمرين مهمين. الأمر الأول: وجود تنظيم حديدي أو حزبي صارم وعقائدي مثل الأحزاب الشيوعية الصاعدة وقتها في آسيا وأفريقيا.
الأمر الثاني: أن التنظيم ومنذ بداياته في الثلاثينات من القرن العشرين استطاع تركيز الشرعية بالمعنى الإسلامي لذلك، باعتبارها انحسرت في العالم الإسلامي، وتوشك أن تنحسر عن المجتمعات.
درس السيد أصول هذه الفكرة، فقد كان حسن البنا شديد الوعي بالمسألة منذ البداية عندما سمي تنظيمه «جماعة» وهو مصطلح عريق، يعني الإجماع، ويعني السلطة الدينية والسياسية الشائعة في المجتمعات، والتي تهبها إسلامها المكتمل، ومشروعيتها الواثقة من شتى النواحي، ويبرر السيد ذلك بأنه منذ مطلع القرن الثاني الهجري ظهرت مجموعات صغيرة من العلماء تطلق على نفسها اسم أهل السنة أو أهل الحديث. ثم أضاف بعضهم في النصف الثاني من القرن الثاني إلى اللقب مفردة (الجماعة) فصاروا معروفين باسم (أهل السنة والجماعة). تطور هذا المصطلح من مواجهة المعتزلة والشيعة في الدين، إلى جماعة سياسية لا تعتنق نظرية الإمامة، وترى أن السلطة شائعة في المجتمعات التي تهب إمارة المؤمنين شرعيتها، ولذا فأساس اختيار الإمامة وشرعيتها عندهم هو الاختيار من الناس وبخلاف أكثر جماعات الهوية التي ظهرت في عشرينات القرن الماضي، فإن حسن البنا سمى جمعيته أو تنظيمه (جماعة) – وهذا يعني عنده أن «الشرعية» تركزت فيه.
الجانب النضالي والنهضوي في أطروحات هذا الكتاب يتمثل في اقتراح أفكار للخروج من مأزق الإسلام السياسي، وآفاقه المسدودة، هذه الأفكار التحليلية التي طرحها السيد يرى لها شرطاً واحداً هو الإصلاح السياسي، وإقامة الحكم الصالح بعد انقضاء الأنظمة العسكرية الوراثية بقيام الثورات. وكان السيد يعتقد أن الإصلاح الديني يمكن أن يتقدم على الإصلاح السياسي، وإن كان العكس ممكناً. بيد أن بروز الإسلام السياسي والجهادي في موجة ثانية بعد اندلاع حركات التغيير العربية أوصل المؤلف إلى قناعة مفادها أنه لا بد من إنقاذ الدولة الوطنية العربية بالإصلاح السياسي، والحكم الصالح، قبل أو في موازاة القيام بإصلاح ديني جذري، بنقد التحويلات الشاسعة التي أحدثها الإسلاميون في مفهوم الدين والتدين وفي علاقة الدين بالدولة، وفي تجديد وفتح التقليد الديني، بحيث تتصدى المؤسسات الدينية لمهماتها الباقية والضرورية في التعليم والفتوى وفقه العبادات وفقه العيش، وإعادة المشهد الديني إلى سويته.
هذا الكتاب هو استكمال لما سبق أن أصدره السيد تحت عنوان «الصراع على الإسلام»، وطرح فيه أن هناك صراعاً على ديننا، أو صراعاً للقبض على قلب الدين وروحه من جانب أهل العنف باسم الإسلام، والأنظمة العسكرية العبودية، والنظام العالمي وفي طليعته الولايات المتحدة. والكتابان يذهبان إلى أننا بصدد حروب في قلب الإسلام ذاته، ليس بين المعتدلين والمتطرفين، كما زعم الأميركيون، بل بين الذين يريدون أن يبقى دينهم على سويته حاضناً للسكينة الاجتماعية والثقافية والعيش مع العالم، وبين أولئك الذين يعملون على تقسيم المجتمعات والدول، وتدمير أعراف العيش ومصارعة العالم باسم الإسلام.