فتحي ليسير.. يوميات المحنة التونسية زمن «الترويكا»
الأحد 28/مايو/2017 - 04:42 م
طباعة
الكتاب: دولة الهواة: سنتان من حكم الترويكا في تونس
المؤلف: فتحي ليسير
الناشر:دار محمد علي للنشر 2016
"يمكن للمرء أن يموت في سبيل وطنه، ولكن ليس له أن يكذب في سبيله". هذه المقولة الشهيرة للفيلسوف مونتسكيو قد يجوز تنزيلها في شكل تلخيص موجز للمقاربة التي انتهجها المؤرخ الجامعي فتحي ليسير في كتابه الجديد "دولة الهواة: سنتان من حكم الترويكا في تونس" والذي يعدّ أولى المحاولات الأكاديمية الرامية لتأريخ تجربة مخاض الانتقال الديمقراطي العسير بعد حدث 14 يناير 2011.
ففي متن هذا الكتاب الصادر مؤخرا عن دار محمد علي للنشر ، والذي من المنتظر أن يثير جدلا ومماحكات عديدة في الأوساط الجامعية والسياسية والإعلامية بتونس ، يغوص فتحي ليسير في أعماق تاريخ "ساخن" مازال حاضرا بقوة في وجدان ومخيلة وذاكرة التونسيين الذين عايشوا تجربة حكم أحزاب الترويكا بقيادة حركة النهضة، محاولا التمسك بالضوابط المنهجية العلمية الصارمة وبناصية الكتابة الموضوعية التي لا تخلو من نقد لاذع ومواقف تعكس مفهوم "المثقف العضوي" الذي لا يمكن قطّ أن يرابط فوق الربوة مكتفيا بالمشاهدة.
يقول شيخ "قبيلة" المؤرخين التونسيين الهادي التيومي معلقا على ما ورد في مؤلف "دولة الهواة": "يجد القارئ في تضاعيف أبواب الكتاب الثلاثة: الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي ورئيس الجمهورية المؤقت، معطيات غزيرة عن فشل الإسلاميين "الهواة" في تحقيق أهدافهم السياسية وتغيير طبيعة المجتمع بفضل النضال المستميت للحداثيين والمجتمع المدني، وعن السلفية الجهادية، وعن الاغتيالات السياسية، وعن انهيار الاقتصاد، وعن استشراء التهريب، وعن تفاقم احتجاجات البطالين في الجهات المهمشة، وعن دور القوى الإقليمية والدولية، وعن الحوار الوطني الذي قادته المنظمة الشغيلة وأفضى إلى إزاحة الترويكا سلميا من السلطة، وعن السلوك الإشكالي للرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي".
ويضيف الأستاذ المتميّز بجامعة تونس الأولى: "إن الاطلاع الفاحص على مادة وثائقية غزيرة جدا تميّزت بالحرص على الاعتدال في الأحكام وبالانحياز النزيه وباستعمال لغة أصيلة أصلية وقورة لا تجرح ولا تهين، هو ما يجعلنا ندرك خصال فتحي ليسير في كتابه هذا. فكلّ من يقرؤه يستحضر ما قاله ميكيافيلي: أفضل الذهاب إلى جهنم للحديث في شؤون السياسة مع المغضوب عليهم على أن يبرّح بي الضجر في الجنة مع الأغبياء".
هذا وقد تمّ تقسيم مضمون الكتاب الذي هو من الحجم الكبير إلى ثلاثة أبواب ، ورد الأول تحت عنوان: "محمد المنصف المرزوقي: رئيسا إيكونوكلاست؟"، وجاء الثاني معنونا بـ" قارة المجلس الوطني التأسيسي أو سيّد نفسه الذي كثر شاكوه وقلّ شاكروه"، أما الثالث فقد حمل عنوان "حكومتا الترويكا".
ومن بداية الكتاب يطرح الدكتور فتحي ليسير مختلف الاشكاليات النظرية التي تواجه المؤرخ عندما يتناول قضية راهنة فعدد من المؤرخين كما يقول «سيتعللُون كذلك بان تعقٌب الوقائع في فورانها وسيولتها وحراكها وتفاعلها امر بالغ الصعوبة فما بالك بتدوينها مع ما يقتضيه هذا التمرين الصعب والدقيق من صفاء ذهن وجلاء رؤية وهدوء ورويّة» ومع ذلك اقتحم ليسير هذا المبحث الذي تحدّث عنه في كتابه «تاريخ الزّمن الرٌاهن» قائلا «إنّنا نعتقد جازمين ان مجمل تلك التّحفّظات التي تجعل من تاريخ الزّمن الرّاهن تاريخا إشكاليا، لا تحول دون كتابة التاريخ الجارية وقائعه تحت انظار الشُهود ومن بينهم المؤرخ نفسه».
يبدأ ليسير كتابه بمدخل عام سمٌاه «في الهواية السياسية» مستشهدا بقرارات ومواقف في تجربة الترويكا تؤكد هوايتها السياسية منها حكومة 71 وزيرا ومشاورات تغيير وزاري تستغرق تسعة اشهر واستنجاد رئيس حكومة بالشارع لمعاقبة جزء من المواطنين واستعانة وزير داخلية بميلشيات حزبية واختيار رئيس حكومة في 94 عاما (مصطفى الفيلالي) وانشغال رئيس الجمهورية بتأليف الكتب في بلاد تغرق وغير ذلك من الامثلة واعتبر ليسير ان الهواية في السياسة تقود حتما إلى الهاوية ويقول في هذا الاتّجاه «لقد اثبت الذين تصدُوا للشأن السياسي والوطني بعد الثورة، من خلال بعض الاستثناءات، انهم هواة في السياسة وفي الحكم».
ومن بين اسباب هذه الهواية السياسية التصحّر السياسي الذي تركه نظام بن علي مما افقد المؤسسات حيويتها وفي هذا الاتٌجاه يقول «وهكذا نتبيّن ان عقود المعارضة الطويلة تحت الاستبداد قد انتجت اجيالا وافرادا معارضين متشبعين بثقافة الرُفض والاحتجاج» وهذا سرّ الانسياق وراء «نوستالجيا سبعينيات وثمانينات القرن الماضي حتى مطلع التسعينات منه» وهكذا نفهم عجز المعارضة «عن انتاج بدائل واقعية وانتاج خطاب يلقى القبول لدى المواطن». وبعد التقديم النظري يبدأ الباحث في رصد «الانزلاقات الخطابية» لزعماء الترويكا وخاصة الرئيس المؤقت منصف المرزوقي ويسوق عددا من الامثلة منها تصريحاته في قطر وفتح الحدود مع الجزائر والتدٌخل في شؤون مصر واتٌهام الامارات والتورُط في الحرب في سوريا وصولا الى سويسرا.
ولا يتوقّف فتحي ليسير عند المرزوقي فقط بل يرصد ايضا أداء اعضاء المجلس الوطني التاسيسي ورئيسه مصطفى بن جعفر وكذلك العريض والجبالي ويسوق بعض الامثلة عن فضيحة الاداء مثل الازمة مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومهاجمة مقره الرّسمي وإنزال العلم الاعتداء على الناشطين والمثقفين واغتيال لطفي نقض وشكري بلعيد ومحمد البراهمي والترفيع المفاجئ في الضرائب التي سموها «الاتاوات» وقد ادٌت كل هذه الحماقات السياسية الى خروج الترويكا من الحكم بعد مفاوضات طويلة في إطار الحوار الوطني.
هذا الكتاب سيكون بعد سنوات مرجعا حقيقيا في تقييم تجربة حركة النهضة وحليفيها في الحكم وهي مرحلة مظلمة في تاريخ تونس اغتيل فيها السياسيون والامنيون والعسكريون وتحوّلت فيها البلاد الى «تونستان» لولا يقظة المجتمع المدني والنقابيين وبعض الاحزاب على قلٌة انصارها ومقاومة الاعلام والمثقفين للهجمة الظلامية على بلاد الشابي المدعومة من السّلطة السياسية التي فسحت المجال واسعا للظلاميين لتكديس السلاح والسيطرة على الفضاء العمومي واحتلال المساجد والساحات العامة ونشر التعليم الديني.
هذا الكتاب كتبه ليسير بحرقة المثقف والكاتب الذي لم يصمت امام استباحة بلاده وسيكون مرجعا للمؤرخين والباحثين في تاريخ تونس للمعاصر وخاصة محنة الترويكا.