باحثة تونسية: الفن سبيلاً حقيقياً لمقاومة الإرهاب وثقافة الموت
الإثنين 13/نوفمبر/2017 - 12:12 م
طباعة
قالت الكاتبة والباحثة التونسية الدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني، أنّ علينا التفريق بين مستويات ثلاثة في واقعنا الراهن: الواقع؛ الذي يحاول الإرهاب السطو عليه، والممكن؛ وهو القضاء على التنظيمات الإرهابية، والمستحيل؛ وهو ما يطلبه الفنّ، بمعنى "أنّه يدفع بالممكن البشري إلى أقصى حدوده"، مشددة على ضرورة التمسك بالتخييل والحلم، بما أنّ الفنّ بوابة ينبجس منها الأمل دائماً.
وقالت فى حوارها المنشور على صحيفة حفريات ، إنّها تراهن على الفن بوصفه سبيلاً حقيقياً يمكن أن يقاوم الإرهاب في معناه الواسع. وتساءلت: "كيف للفنّ أن يقاوم ثقافة الموت"، مؤكدة في الوقت نفسه أنّ "المطلوب ليس مقاومة الإرهاب من جهة كونه تنظيماً عسكرياً"، ذلك أنّ "التنظيمات الإرهابية هي تنظيماتٌ عسكريةٌ حربيةٌ، ولا يمكن للفنّ أن يشنّ حرباً على أيّ كان، كونه منظومةً رمزيةً، أو نشاطاً رمزياً لا يملك أيّة ترسانةٍ حربيةٍ".
الكاتبة المتخصصة في الفلسفة الحديثة والجماليات، حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة الحديثة ببحث حول كانط، وعلى التأهيل في الفلسفة في اختصاص فلسفة الفنّ والجماليات، وهي أستاذة الفلسفة في التعليم العالي في جامعة تونس المنار. لها مؤلّفات متنوّعة، منها:
- الفنّ يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا (بيروت، جداول، 2011)، جرحى السماء، رواية (بيروت، جداول، 2012)، هنا تُباع الشعوب خلسة (تونس، 2013)، الثورات العربية، سيرة غير ذاتية (بالاشتراك مع فتحي المسكيني، تونس، 2013)، الثورة البيضاء (بالاشتراك مع المسكيني، تونس، 2013)، اضحك أيّها الدهر الشرقي، ديوان شعر (الجزائر، 2013)، تحرير المحسوس، لمسات في الجماليات المعاصرة (بيروت، دار ضفاف، 2014)، "لن تُجنّ وحيداً هذا اليوم" رواية (بيروت، 2014)، الفنّ في زمن الإرهاب (بيروت، دار ضفاف، 2016).
والى نصّ الحوار:
* كيف تقدمون تجربتكُم الفلسفية ومساركُم العلمي والأكاديمي للقارئ؟
- اشتغلت، أوّلاً، على الفلسفة الحديثة، وعلى فلسفة كانط تحديداً، وهو الفيلسوف الألماني الذي أعطى صياغة دقيقة للمشروع الحديث بشكل عامّ، وهو الذي جعل من العقل البشري السقف الكونيّ الذي تشتغل تحت رايته كلّ أنشطة البشر، فجعل من شعار "تجرّأ على استعمال عقلك" شعاراً لفلسفة التنوير.
أن تُحبّ يعني أن تبني عالماً جديداً، تخترع فيه ذاتيّةً غير الذاتيّة القائمة على الأنانيّة والنرجسية وعلى التملّك
إنّ الإنسانية الحديثة لم تفعل شيئاً آخر غير محاولة إرساء هذا الشعار الذي يدفع بالشعوب إلى التحرّر، والخروج ممّا يسمّيه كانط حالة القصور العقليّ، وهي الحالة التي تنزل بالبشر إلى مرتبة الرعاع بجعلهم تحت الوصاية الدينية أو السياسية. لقد جعل كانط من فلسفة التنوير حقلاً لتحرير الشعوب من مرتبة القصور العقلي والسياسي والوجودي إلى مرتبة المواطنين الأحرار. إنّ الحرية هي السقف المطلق، أو هي المقدّس الوحيد الذي دافعت عنه فلسفة كانط عامّة، وقد كانت نقطة انطلاقي الأكاديمية.
إنّ كانط في الحقيقة، هو من صاغ مكاسب الفلسفة الحديثة في شكل فلسفةٍ عقلانيةٍ، دافع فيها عن العقل، وذلك يعدّ أهمّ مكسب من مكاسب الحداثة.
* كيف فكّكتم علاقة "الفنّ بالإرهاب" ضمن كتابكم الصّادر حديثاً لدى دار ضفاف؟
"الفنّ في زمن الإرهاب"؛ هو آخر كتاب نشرته ضمن منشورات "ضفاف" (بيروت 2016)، وهذا الكتاب يضمّ أكثر من مئتي صفحة، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل؛ في تأويل الإرهاب، والقسم الثاني؛ الفنّ كمقاومة للإرهاب، والقسم الثالث؛ في إيتيقا المقاومة.
لم تكن هذه الأقسام الثلاثة مجرّد مفاصل شكلية أو منهجية أو إجرائية؛ بل كانت لحظات مهمّة جداً ضمن الإشكالية الكبيرة التي حاول "الفنّ في زمن الإرهاب" أن يعالجها، وقد خصّصت الفصول الستّة الأولى من القسم الأوّل لتحديد مفهوم الإرهاب، وانطلقت من وضعيّة الدّمار التي عاشتها بعض الدول العربية تحت راية "الربيع العربي".
قمت بتفكيك مقولة الإرهاب، بوصفه أجندة عالمية، لكنّه يستثمر في الإسلام السياسي الذي صار يحكم صلب ضرب من "الردّة إلى اللاهوت"، والخلط بين الدين والدولة، وقد حدث هذا الأمر في تونس بشكلٍ خاصٍّ.
ميّزت بين "العنف والإرهاب" و"العنف والعبودية"، وشدّدت على الإبداع شكلاً لاختراع الحريّة، كما اشتغلت، في هذا القسم الأول، على واقعة "شارلي إيبدو"، على ذلك الصراع العنيف الذي وقع بين الفنّ والإرهاب: كيف تمّ اغتيال الكاريكاتوريين الفرنسيين بسبب ما قاموا به من سخرية من المقدّس العربي الإسلامي. هذا المقال هو الفصل السادس من القسم الأول، تحت عنوان "الضحك والإرهاب" أو "في الرسوم القاتلة"- دفاعاً عن الفنانين، ولا عن الإرهابيين، وحاولت أن أجد مسافةً نقديةً عمّا وقع في الحقيقة؛ أوّلاً: لا ينبغي أن نسخر من مقدّسات الشعوب، فثمّة الكثير من الموضوعات التاريخية والسياسية القابلة للسخرية، ويمكن أن نسخر منها بعيداً عن مقدّسات الشعوب.
وثانياً: ينبغي أن نرسي حريّة الإبداع على نحو مغاير. إنّ السؤال الأساسي في هذا القسم الأول، هو: كيف يمكن أن نتّخذ مسافةً نقديةً مما يحدث تحت راية الإرهاب أو حتى تحت راية الإبداع الفني؟
أمّا في القسم الثاني؛ فقد كان الموضوع الأساسي هو: كيف تكون مقاومة الإرهاب؟ كيف يكون الفنّ حقلاً لمقاومة الإرهاب؟
إنّ الفنّ لا يقاوم الإرهاب على شاكلة الحلّ الأمني أو الحلّ العسكريّ، وإن كان هذان الحلّان ضروريّين دون شكّ، فمقاومة الفنّ للإرهاب هي مقاومة ثقافية ورمزية بعيدة المدى، وليست مقاومة حربية في المدى المنظور.
أمّا القسم الثالث من الكتاب؛ فقد كان حول "إيتيقا المقاومة" التي تتّخذ من الحبّ حقلاً للمقاومة في معنى استعادة مشاعر الفرح والحب والسعادة، لإعادة مشاعر الفرح إلى العالم- على طريقة ما كتبه آلان باديو أو بول ريكور- الفنّ: هو خلقٌ لقيم الحبّ والفرح، وهو وعدٌ بالسعادة أيضاً. وينتهي الكتاب بفصلٍ مثيرٍ حول المستقبل، سمّيته "قلق في المستقبل"؛ لأنّه ثمّة قلقٌ عميقٌ تعيشه كلّ الإنسانية راهناً، قلقٌ حول ما يمكن أن يكونه المستقبل؟ وهل هو ممكن أصلاً؟
*هل "الإرهاب ينبّئ حقّاً بوجود خللٍ في الحداثة"؟
- هذه القولة هي فاتحة من فواتح الكتاب، وقد وضعتها في بعض فصوله، وهي ليست مقولتي في الحقيقة؛ بل هي مقولة ذكرها الدكتور فتحي المسكيني في بعض ما كتب.
تقول هذه القراءة: ليس الإرهاب ظاهرةً تأتينا من الماضي؛ بل هي ظاهرة ولدت مع الحداثة نفسها، في معنى أنّ الحداثة بما تمتلكه من ترسانة تكنولوجية، وبقيامها على مجتمعات الاستهلاك، وقد فرضت على البشر شكلاً آخر من الحياة، فحولتهم إلى أفراد هشّين سلبيّين واستهلاكيّين ونرجسيّين، لقد أصيب كلّ الأفراد، في ظلّ الإمبريالية العالمية، بنوعٍ من الهشاشة الوجودية، وصاروا أفراداً سلبيّين، يستهلكون فقط، ويتحمّلون ما يمكن أن تفرضه هذه المنظومة العالمية تحت راية الحداثة، وعليه تؤوّل هذه القراءة الإرهاب بوصفه جزءاً من أجندات عالمية، وليس مجرّد عطبٍ في الذاكرة العربية الإسلامية.
* كيف يكون الفنّ حقلاً لمقاومة الإرهاب فيتصدّى لثقافة الموت، ليصير وعداً بالسعادة؟
- ذلك هو الرهان الأساسي لكتابي "الفنّ في زمن الإرهاب"؛ كيف للفنّ أن يقاوم ثقافة الموت؛ لأنّ المطلوب ليس مقاومة الإرهاب من جهة كونه تنظيماً عسكرياً. صحيحٌ أنّ التنظيمات الإرهابية هي تنظيماتٌ عسكريةٌ حربيةٌ، ولا يمكن للفنّ أن يشنّ حرباً على أيّ كان، كونه منظومةً رمزيةً، أو نشاطاً رمزياً لا يملك أيّة ترسانةٍ حربيةٍ، وقد استأنست، في الحقيقة، بآراء فلاسفةٍ معاصرين؛ بل إنّ الكتاب ككلّ هو استئناس فلسفيّ بجملةٍ من آخر ما حدث في العقل الكوني الحديث؛ لأنّني لا أريد أن أستعمل عباراتٍ من قبيل (شرق/ غرب)، فالعقل لا هويّة له، والاستمرار في هذه الثنائية هو استمرار– إن شئنا - في تكريس نوع من القراءة الإيديولوجية التي يمكن أن تدعم الهاوية بين الشعوب أكثر، وهذا الأمر ليس من رهانات الفلسفة.
تفكّر الفلسفة في نوعٍ من الكونيّة التي يحلو فيها العيش معاً، فالعالم الكبير الذي يجمع الإنسانية كافّة لا ينبغي أن نودعه بأيدي دعاة الهويّات أو الأصوليات؛ لأنّ ذلك لا يؤدّي إلّا إلى صدامٍ بين الهويّات.
إذاً؛ "كيف يكون الحبّ مقاومة للإرهاب؟" تبدو هذه الجملة حاملةً لنوعٍ من اليوتوبيا البعيدة، وقد استأنست بآلان باديو فيما كتبه "في مدح الحبّ"، فيقترح كيفيةً "لإعادة ابتكار الحبّ من جديد"، هذه المقولة هي لرنيمبو، وقد اشتغل آلان باديو تحت راية هذا الحدس، وهكذا نرى معاً كيف أنّ الفلاسفة أنفسهم يجدون حدسهم لدى شعراء، أو الأدباء، ويلتقطون الحدس من أجل تفعيلها في الواقع، ومن أجل اقتراح حلول ناجعة للإنسانية حتى لا تبقى الفلسفة مجرّد تأمّلٍ، أو كوجيتو مغلق على ذاته يجلس في ركنٍ ركينٍ من العالم، فكيف يمكن استعادة الحبّ؟ كيف يمكن "إعادة ابتكار الحبّ من جديد"؟
يقترح علينا آلان باديو- الفيلسوف الفرنسي الكبير- ضرورة أن نخترع شكلاً جديداً من الحبّ، مناقضاً للشكل الإمبريالي الرأسمالي؛ لأنّ الرأسماليّة اخترعت منظومةً تكنولوجيةً سهّلت الحياة اليومية المادية، لكنها أنتجت، في الوقت نفسه، منظومةً وجوديةً للعالم، وأنتجت شكلاً معيّناً من الحياة يقوم على الاستهلاك، وعلى تحويل كلّ شيء إلى بضاعةٍ تُستهلك وتُباع وتُشترى، فالمنظومة الرأسماليّة حوّلت الحقل كلّه، البشري وغير البشري، إلى نوعٍ من السوق الكبيرة التي يمكن أن نشتري فيها حتّى مشاعرنا؛ لذلك ينبغي أن نقاومها بشكلٍ جديدٍ من الحبّ، وهذا الشكل الجديد ليس هو الحبّ الاستهلاكي؛ بل الحبّ هو أن ترى العالم وأنت مع شخص آخر، يعني شكلاً من الصّداقة مع الآخر، أو شكلاً من الصّحبة، ويمكن للحبّ أن يُولد ضمن الفنّ، فكلّ عمليّات الإبداع هي عمليّات تعبيرٍ عن الحبّ، حبّ الحياة، وحبّ الآخر؛ فأن تُحبّ يعني أن تبني عالماً جديداً، تخترع فيه ذاتيّةً جديدةً غير ذاتيّة الفرد الرأسماليّة؛ لأنّ ذاتيّة الرأسماليّة قائمةٌ على الأنانيّة والنرجسية وعلى التملّك، في حين أنّ الذاتيّة الأخرى هي ذاتيةٌ رمزيةٌ تعد بإمكانية "أن نرى العالم ونحن اثنان"، هذا ما يقوله آلان باديو بالضبط بشكلٍ أو بآخر، يعني ذلك أنّه علينا أن نتجاوز ما يُسمّى "الحبّ تحت التهديد"؛ لأنّ هذا الحبّ تُؤمّنه الإعلانات الإلكترونية، كأن نقول على صفحات التواصل الاجتماعي: "من يريد أن يحبّني؟" أو "من يريد أن يدخل معي في شكلٍ من الصّداقة؟".
إنّ الحبّ الذي يتحّدث عنه آلان باديو لا يصدر عن شخصٍ هشٍّ؛ بل يصدر عن لقاءٍ يجعلني أحبّ أن أرى العالم من جهتين: "أنا وهي"، أو "هو وأنا". إنّ استئناسي بهؤلاء الفلاسفة لا يأتي على سبيل استيراد الأفكار وضخّها في لغة الضّاد فحسب؛ بل هو للتساؤل عن الكيفيّة التي يمكن أن نفكّر بها اليوم ونحن نستثمر ونستفيد ممّا فكّر فيه فلاسفة آخرون، فالفلاسفة لا هويّة لهم بالمعنى الضيّق للكلمة؛ بل هم الذين يشرّعون للإنسانية، ويقترحون حلولاً لعالمٍ أجمل، وهذا هو ما نتمسّك به.
*ألا يبدو أنّ هذا الحبّ قد صار مغموساً في الموت هو الآخر؟ كيف نحرّر الحبّ من ثقافة الموت المحدقة به؟
هذه هي فاتحة كلامي حول "الفنّ في زمن الإرهاب": "إنّ الفنّ يغمس الحبّ في الموت كأنّه صلصة ميتافيزيقية؛ حيث يغرق البشر في وحل الآلهة ضدّ قوّة السرد" (ذكرتها الكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني ضمن فاتحة كتابها "الفنّ في زمن الإرهاب"، ص 11)، وهذه المقولة، مرّة أخرى هي للدكتور فتحي المسكيني، في نصٍّ له عن غارسيا ماركيز تكريماً له عن روايته "الحبّ في زمن الكوليرا".
إنّ هذا العنوان "الفنّ في زمن الإرهاب" يحاكي بشكلٍ ما عنوان غارسيا ماركيز، أو ربّما يجذبه إلى مرحلةٍ أخرى؛ لأنّ "الإرهاب"، كما "الكوليرا"، قاتلٌ ومنتشرٌ، وكلّ هذه الاستعارات موجودة، وينبغي أن نتمسّك دائماً ببصيصٍ من الأمل حتّى ونحن في زمن الإرهاب، ورغم تواجد هذه الأجندات التي تريد أن تحوّل حياتنا إلى خرابٍ ودمارٍ.
إنّ الفنّ بطبعه طوباويّ أو لا يكون، وينبغي أن نتمسّك باليوتوبيا مرّةً أخرى، رغم الإعلان عن نهايتها بأشكال مختلفةٍ في الفكر المعاصر: نهاية الإنسان، نهاية المؤلّف، أو كلّ أشكال الموت، أو الحداد الذي اندرج فيه كلّ فلاسفة الاختلاف حقيقةً، منذ رولان بارط وفوكو ودولوز وليوتار ودريدا ...إلخ، هذه هي فترة الحداد التي ينبغي أن نغلقها، ونعلن نهايتها أيضاً.
إنّ الفلاسفة الذين استأنستُ بهم في هذا الكتاب؛ هم فلاسفة "ما بعد الحداد"، أو "ما بعد فلسفات الموت"، وهذا مهمٌّ جدّاً، فالفنّ لا يولد إلّا ضمن هذا الحقل الذي يمكن أن يبشّر بالحياة على نحو مغايرٍ، أي بضربٍ من الأمل، إنّه يولد في الخراب والدّمار، لكنّه ينبّئ بالأمل، ويمنحنا إمكانيةً لمستقبلٍ آخر، لماذا؟ لأنّ الفنّ يشتغل على المستحيل.
إنّ الإرهاب سياسةٌ خبيثةٌ للعالم تقترح منظومةً سياسيةً اسمها "تنظيم الدّولة"، فوقع التشويش حتّى على مفهوم الدّولة الذي كان مكسباً حديثاً منذ قرنين من الزمن؛ فالدّولة المدنية هي مكسب حديث ضدّ حكم الملوك والأباطرة والطغاة. لقد أصبح "تنظيم الدولة" يعني "راية إرهابية"؛ فأن يولد الفنّ في كلّ ما يجري من أحداث، وأن يولد الإبداع في حقل الخراب، يعني أن نشير إلى الناس بأنّ المستحيل مازال ممكناً بضربٍ من الإمكان الذي "ليس بعدُ".
نحن إزاء ثلاثة مفهومات، أو ثلاثة مستويات، ينبغي التفريق بينها تفريقاً لطيفاً: الواقع، الممكن، المستحيل، فإذا كان الإرهاب يريد أن يسطو على الواقع في بعض البلدان العربية، ويُهدّد كلّ العالم بشكلٍ ما، فإنّ السياسات الديمقراطية، إلى حدٍّ ما، تريد أن تدير شؤون ما نسمّيه بالممكن، حتّى نكون متفائلين قليلاً، فالممكن هو أن نقضي على التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، كما وقع الانتصار عليها في الموصل، وهم اليوم بصدد مقاومتها بشكلٍ جميلٍ جدّاً، والإرهاب ينهزم كلّ يومٍ، تلك هي سياسة الممكن.
أمّا الفنّ فيريد أن يطلب المستحيل، بمعنى أنّه يدفع بالممكن البشري إلى أقصى حدوده؛ لأنّ الفنّ هو إبداع، ومعلومٌ أنّ الإبداع يقوم على التخيّل، فالفنّ يخاطب البشر عبر قوّة التخيّل: "لا ينبغي أن تتخلّوا عن مصيركم، فالمستقبل دائماً ربّما يكون أفضل، وثمّة دائماً إمكانية للحلم، وإمكانية لتغيير ما يحدث"، هذا هو الفنّ، الفنّ: هو الحقل الذي ينبجس فيه الأمل، فلا ينبغي أن نتخلّى عنه أبداً، تلك هي، إذاً، المستويات الثلاثة التي أردتُ أن أميّز بينها في كتابي "الفنّ في زمن الإرهاب".
*تقترن مقولة الإرهاب بشعار "الدفاع عن المقدّس"، فكيف سيفتك الفنّ هذا المقدّس من طائلة الإرهابي حتّى لا يحوّله إلى وجهةٍ سيّئةٍ؟
- السؤال عن علاقة الفنّ بالمقدّس؛ هو سؤالٌ خطيرٌ نوعاً ما؛ لأنّ العلاقة بمقدّسات الشعوب علاقةٌ حسّاسةٌ، لكنّ الفيلسوف لا يخاف حتى الموضوعات التي تكون من هذا القبيل؛ فهو الذي يريد أن يفكّر، حتى لو كان الخطر يحدق به من جهة أو من أخرى، لقد اشتغلت على هذه الدائرة "الفنّ والمقدس" في كتابي "تحرير المحسوس" (الفصل الأخير، عنوانه "الفنّ والمقدّس")، واشتغلتُ في كتاب "الفنّ في زمن الإرهاب" على العلاقة برسومات النبي، ودافعتُ عن المقدّسات الإسلامية؛ فقد كان بوسع "الكاريكاتيريون" أن يسخروا من أشياء أخرى، وبشكلٍ آخر، فالسخرية من الشعوب بأيّ شيء لا تعني إلّا نوعاً من الإيمان بالتمييز العنصريّ، في جميع الحالات، وهي أمورٌ صارت القوانين الدولية تمنعها منذ النازية. نحن نعلم ذلك فعلاً، لكن- فلسفيّاً- ثمّة فروق أو لطائف (nuance) بين الدين والمقدّس، نقصد أنّ تنظيم الدولة أو التنظيمات الإرهابية ربّما تستثمر في حقل الدين تحت راية الإسلام، أو وفق شكلٍ مصطنعٍ أو متخيّلٍ من الإسلام، أو وفق شكلٍ من الإسلام يُشرّعون له بطريقةٍ أو بأخرى، في سياق الفتاوى والدّعاة التابعين لهم، وفي ضربٍ من تشويه نواته الأولى، وتحريف الرسالة، أو شيءٍ من هذا القبيل.
إنّهم يستثمرون في الدين، لكنّ المقدّس هو تحوّلٌ آخر؛ فمنذ القرن التاسع عشر، أصبحت مقولة المقدّس مقولةً أساسيةً، ونجد هذا الأمر عند هيدغر ضمن مؤلَّفه "أصل العمل الفني"، فحتّى الحقبة اليونانية تثبت رؤيتنا للعالم، فالمقدّس يكون مرسوماً في الأرض داخل المعابد، هو نداء للأرض، وثمّة نداء للأرض، لم يعد ثمّة مفارقة أو تعالٍ، فكلّ أشكال المفارقة هي أشكال دينيةٌ تقول: إنّ الله موجود في مكانٍ آخر، أو ربّما لا علاقة لنا به، أو شيء من هذا القبيل.
أمّا بالنسبة إلى القرن العشرين؛ فقد حدث منعرجٌ جديدٌ، ولد المقدّس في تاريخ الأديان مع أوتو ومع ميرسيا إلياد، وقد صاغه هيدغر بشكلٍ وجوداني، وتحدّث عنه هولدرلين في "الخبز والنبيذ" كذلك، (لماذا الشعراء؟) حينما غابت الآلهة، صار الشعراء يحرسون المقدّس.
أنا لا أرى أنّ التنظيمات الإرهابية تمسك بالمقدّسات؛ بل تُمسك برؤية معيّنة للإسلام، ربّما تكون رؤيةً مشوّهةً، خطيرةً ومخيفةً أيضاً، لكنّ مقدّسات الشعوب تكمن بعيداً؛ بل إنّ الفنّ نفسه هو شكل من استئناف المقدّس، فمقدّسات اليوم: هي "نجوم فنية"، أو "نجوم سينمائية"، أو "شهداء القضايا العادلة".
جيفارا، مثلاً؛ بطلٌ يصل إلى نوعٍ من القداسة، يثير ضرباً من الحماسة الكبرى والمحبّة تجاهه، فيصبح مقدّساً في معنى (Idole)، فمفهوم المقدّس، إذن، أوسع من الدّين بكثير.
*في محاربتنا للإرهاب، أو لكلّ الرافضين للحياة، ألا ينبغي أن نجعل الفنّ تمريناً للمواطنة؟
- الفنّ يخترع فضاءات المواطنة؛ فعندما تذهب لمشاهدة مسرحيّة، تجد نفسك في شكلٍ من الانتماء إلى المشترك، فالمسرحية تخترع ذلك المشترك، وتجعلك تشارك الناس، لا أن تتفرج عليهم فقط؛ بل تشاركهم الحدث الفنّي، لأنّ مفهوم الفرجة يبقى فيه نوع من السلبية.
إنّ الحدث الفني يخترع الانتماء إلى المشترك، ويخترع شكلاً جديداً من الجماعة، على خلاف الجماعات الهووية (الجماعوية)، مثلاً؛ الوجود المشترك يجعل أغنيات "فيروز" حدثاً فنيّاً جميلاً جدّاً في الوطن العربي، ويجعل قصائد "محمود درويش" حدثاً شعريّاً يجمع كلّ المشاعر العربية، إذاً؛ الفنّ، وفق هذا المعنى الأول للمواطنة، يخترع ويساهم في تدعيم مشاعر المواطنة، وفي خلق المواطنة بين الناس، كيف يحدث ذلك؟
يخلق الفنّ الذاتية الفاعلة، ويراهن على إخراج الفرد من سلبيّته، وأنانيّته، ونرجسيّته، وانغلاقه على ذاته، إلى نوعٍ من الذاتية الفاعلة؛ ليصبح ضمن "حدثٍ عموميّ"، فالفنّ يخترع "فضاءً عموميّاً".
أمّا المعنى الثاني للمواطنة فيتحدّد ضمن القول: إنّ للفنّ رسالة مواطنيّة، تحمل قيم الحرية، وقيم العيش معاً، وقيم المحبّة، وقيم الانفتاح على الآخر، وقيم قبول الآخر، والمشاركة، وقبول الاختلاف، فكلّ الأحداث والآثار الفنية تدافع عن قيم معيّنة، وليست مجرّد موضوعات أو منتوجات للبيع أو للاستهلاك، إنّها تحمل رسائل مواطنية، وتشارك في بناء المجتمع المدنيّ، الذي يساهم الفنّ في بنائه، بخلقه مشاعر "المشترك" بين الجماعة، وانتصار للحياة ضدّ ثقافة الموت.
*لطالما أكّدتم في كتاباتكم أنّ الإرهاب هو الجدار الذي ينبغي أن يتصدّع بنيانه بواسطة الكتابة، فإلى أيّ حدّ كانت الكتابة بالنّسبة إليكم مشخّصة للوجع ومعالجة له في الآن نفسه؟
- أنتِ تقصدين الكتابات السياسيّة، أو مقالات الرأي السياسي التي نشرتها: الكتاب الأوّل عنوانه "الثورات العربية (سيرة غير ذاتية)"، وهو مؤلَّفٌ مشتركٌ مع الدكتور فتحي المسكيني.
والكتاب الثاني: هو كتاب "الثورة البيضاء" (كتاب مشترك)، والكتاب الثالث: هو كتاب في التهكّم الأسود على كلّ ما حدث بشكلٍ أو بآخر، وعنونته "هنا تباع الشعوب خلسةً"، وكتبت كذلك روايتين مثّلتا ضرباً آخر من المقاومة الفنية لما يحدث لنا تحت راية الإسلام السياسي؛ لأنّ الإرهاب ما هو إلّا الصياغة القصوى من صياغات الإسلام السياسيّ: رواية "جرحى السّماء"، ورواية "لن تجنّ وحيداً هذا اليوم"، وفيهما تخييل سرديّ لما حدث في تونس تحت راية "الربيع العربي".
الكتابة هي شكل من أشكال المقاومة، حتّى نفتح نافذة الأمل على مستقبل آخر، وأشير هنا إلى أنّ الكتابة لا تعني أنّ الانسان يكتب بشكلٍ نظريّ، دون أن تكون له علاقة بالواقع، ولا يمكنه أن يغيّر أو يفعل شيئاً لهذا الواقع، ذلك هو حكمٌ مسبقٌ؛ فليست الأجندات السياسية هي الفاعلة الوحيدة في الواقع، ولا ينبغي أن نسلّم أمرنا للسياسات والأحزاب والأيديولوجيات المتحكمة فينا، كأنّما ذلك هو قدرنا.
هذه الرؤية لما يحدث خطيرة جدّاً، ولا يمكنها إلّا أن تؤبّد الوضع السلبيّ على ما هو عليه، وتشجّع الطغاة والإرهابيين على السطو على حياتنا وعلى البلاد العربية، فيكون الوضع أشدّ خطورةً حيثما يهيمن الإسلام السياسي.
لم يعد الفن للمتعة أو للفرجة أو للتذوّق، فقد أصبح له رسالةً ثوريةً تحتجّ على حضارة الهيمنة
إنّ ما أردت أن أشير إليه هو الآتي: تساهم الكتابة في بناء ثقافةٍ جديدةٍ؛ أي ما نسمّيه "الثورة الثقافية"، وقد نتساءل "متى تحدث الثورة الثقافية؟" لكنّ الثورة الثقافية لا تقام باحتجاجٍ أو مظاهرةٍ في الشارع؛ أناس يموتون، وشهداء يستشهدون، كما في الثورة السياسية؛ بل على العكس من ذلك، تقوم الثورة الثقافية بشكلٍ رمزيّ ميكروفيزيائي، فنحن نراها تمرّ في كلّ الأحداث الفكرية التي تحدث والتي تكتب فيها كتب مؤثّرة، فكلّ روايةٍ ناجعةٍ، أو موسيقا أحبّتها الجموع هي لحظة من لحظات الثورة الثقافية، وكلّ مقالٍ نقديّ، وكلّ كتابةٍ فلسفيةٍ تمسّ الواقع وتشخّصه وتريد أن تفهمه، وتقدّمه للناس بطريقةٍ واضحةٍ هي لحظة من لحظات الثورة الثقافية، هي تحدث، إذاً، في كلّ لحظةٍ، لكنّنا لا نراها تمرّ، لأنّها تحدث بشكلٍ رمزيّ، وتنمو ضمن حقلٍ رمزيّ.
إنّ الكتابة هي مقاومةٌ رمزيةٌ لكلّ أشكال استعباد الناس، إنّها هكذا في كلّ مرّة هكذا؛ فمن يكتب إنّما يكتب من أجل أن يقول "لا" لمن يريد السطو على عقول الناس، وعلى مشاعرهم، وعلى مصيرهم. يقول الكاتب للناس: "بوسعكم أن تصنعوا قصّتكم بأنفسكم"، فالسرد، مثلاً، من جهة كونه كتابةً إبداعيةً، هو شكلٌ من أشكال صناعة المستحيل بشكلٍ ما، إذاً؛ عليك أن تسرد قصّتك، وأن تخلق مجتمعاً جديداً من القرّاء، وأن توجّه الناس نحو منطقة شعاعٍ صغيرةٍ، ذلك هو دور من يكتب.
* نستحضر كتاباً آخر لكم عنوانه "الفنّ يخرج عن طوره"، فماذا تقصدون بخروج الفنّ عن طوره؟
- "الفنّ يخرج عن طوره"؛ هو كتابي الأوّل في الجماليات، وهو بحثٌ جامعيّ أكاديميّ حول فكرةٍ أساسيةٍ هي فكرة "الرائع"، وبالفرنسية (Le sublime)، ويترجم هذا اللفظ، أيضاً، تحت راية "الجليل"، أو "السامي"، وكلّها اجتهادات صائبة.
جماليات الرائع: هي الجماليات التي تقف على حدود الجميل، فمنذ القرن العشرين لم نعد نستطيع التكلّم عن فكرة الجمال الكلاسيكي؛ بل نتكلّم عن فكرة "الرائع"، أي ما يفوق الجمال، أو ما يخرج عن شكله، من ذلك مفهوم "القبيح" تحديداً، والسؤال المؤرق راهناً هو: إذا كان ما يحدث قبيحاً جدّاً، فكيف نواجه هذا القبيح؟ كيف يكون ثمّة جماليات للقبيح؟ ونحن هنا طبعاً نجرّ حقل الجماليات إلى أفق جديد؛ أفق نهاية الجمال الكلاسيكي، والدخول في ضربٍ جديدٍ من تأويل الظاهرة الجمالية.
وعلينا هنا التنبيه إلى أنّه ثمّة، في هذا السياق الجمالي الجديد، انطلاقاً من النظرية الجمالية لثيودور أدرنو، معنى جديد للفنّ، فالفنّ لم يعد للمتعة، أو للفرجة، أو للتذوّق، فقد أصبح للفنّ رسالةً ثوريةً، الفنّ هنا يحتجّ على حضارة الهيمنة التي حوّلت كل شيء إلى بضاعة، والفنّ يقول إنّه بوسعنا تغيير العالم على نحو آخر، والفنّ يعيد للبشر قدرتهم على إبداع قصّةٍ مغايرةٍ، ورفض كلّ أشكال الوصاية على تاريخهم.