عصمت نصار: التطرّف الديني تجاوز لحدود الدين ومجافاة لأحكامه
السبت 24/فبراير/2018 - 02:41 م
طباعة
اعتبر المفكّر المصري الأستاذ الدكتور عصمت نصّار، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث والمعاصر ورئيس قسم الفلسفة والعميد السابق لكلية الآداب جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية، ان التطرّف الديني هو وهداه، فيصبح كلّ مغالٍ في دينه متطرّفا فيه، مجافيا لوسطيته ويسره. وقد جاءت أسباب التطرف الديني في مجملها مقترنة بسوء الفهم والتعصب للرأي وأحادية التوجه وخاصة في الأمور الاجتهادية، حيث يجعل المتطرف الأمور الاجتهادية أموراً قطعية ليس فيها إلا قول واحد ورأي واحد هو قوله ورأيه... بصورة تجعل المتطرّف شخصاً ذا سلوك مضطرب يعكس بنية نفسية تقوم على كراهية الآخر عند العجز عن فهمه أو تقبل وجهة نظره... وبحلول الموجات المتتالية لثورات الربيع العربي خرج مارد التطرف الديني من قمقمه، فصبّ على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه سوط العذاب والفتنة وكافّة أشكال الفرقة والصراعات المذهبية والطائفية التي استهلكت جهود التنمية ولم تخلّف سوى الخوف والذعر والخراب والتدمير.
وقال فى حواره مع الدكتور غيضان السيد علي الباحث المصري، وأستاذ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة بني سويف، والذى نشر فى موقع مؤمنون بلاحدود للدراسات والابحاث الذى اوضح فيه التطرّف الديني؛ أنواعه، وعقليته، وأسبابه، ونتائجه، وطرق علاجه ومقاومته، يدور هذا الحوار والمهموم بقضايا التطرف الديني ومرجعية الجماعات المتطرفة والعقلية الكامنة خلف الصراعات المذهبية والطائفية من خلال كتبه المتعدّدة مثل: "حقيقة الأصولية الإسلامية في فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي" و"الفكر الديني عند اليونان" و"الخطاب الديني والمشروع العلماني وجهان لعملة واحدة" و"رحلة الرجوع إلى الأمام" و"ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد" و"من جوه نبدأ"...وغيرها من كتب قيّمة أثرت المكتبة العربية في ذلك الإطار، هذا فضلاً عن العديد من البحوث والمقالات في الدوريات والصحف العربية المختلفة حول التطرّف الديني.
- في البداية هل يمكننا وضع تعريف جامع مانع لماهية التطرّف الديني، أسبابه، ونشأته، وتاريخه، وما الفرق بينه وبين الحماسة الدينية أو الغيرة على الدين والدفاع عنه؟
التعريف الجامع المانع هو الذي يعبّر عن الجنس القريب زائد الخاصة بلغة المناطقة، وهذا لا يتفق مع طبيعة مصطلح التطرف ولغته وسلوكه وسياقاته؛ وذلك لأنّه يعبّر عن الجنوح أو الجموح، وكلاهما نسبيّ، والنسبي - بطبيعة الحال - يتحول من عصر إلى آخر، ومن ثقافة وبيئة سياسية إلى أخرى، الأمر الذي يجمع الكثير من المصطلحات ذات الصلة في الدخول تحت مظلته، وكذا لا يمنعها من مشاركته في الكثير من خصاله.
وعلى الرغم من ذلك، يمكننا الاجتهاد في وضع تعريف للتطرف؛ فنقول: إنّ التطرف الدينيّ هو شكل من أشكال الإفراط أو التفريط أو التنطّع على نحو يتعارض مع طبيعة الدين وثوابته وغاياته، ولمّا كان صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول، فإنّ التطرف هو الجانح عن الصحيح والمتفق عليه وقطعي الثبوت وقطعي الدلالة في النصّ، وهو كذلك ما لا يقرّه العقل غير المتحيّز إلى إيديولوجية أو عقيدة مسبقة.
أما عن أسباب التطرّف: فيمكننا ردّها إلى عوامل بيئية ترجع إلى ثقافة أصحاب النِحل الجانحة، والمذاهب الشاطحة، والجماعات المتطرفة وعوائدها، ومدى دراية أهلها بطبيعة الدين، وسلامة أذهانهم، وسعة أفقهم، وأخيرًا: العقل الجمعي الذي يحيط بهم.
فإذا نظرنا إلى جماعتيْ القرامطة والحشّاشين، باعتبارهما المأوى الأول للعنف والتطرّف والبدع، والقول بعصمة القائد أو المرشد؛ فإنّنا سوف نجدهما كانتا وليدتيْ الصراعات السياسية الناتجة عن تمزّق الدولة الإسلامية إلى دويلات، الأمر الذي دفع الفرس من جهة، وشجّع اليهود من جهة أخرى على الكيد للإسلام وضربه من الداخل. أضف إلى ذلك ما كان يعاني منه العالم الإسلامي من فساد في الإدارة وانحطاط في أخلاقيات الصفوة (القصور الحاكمة والوزراء ورجالات الدولة)، بالإضافة إلى انحراف الفقهاء وموالاتهم لأولي الأمر من الساسة، وغيبة من توّفرت فيهم الدربة والدراية والحكمة والورع شأن الأئمة الكبار، فكلّ ذلك أسهم في ظهور فرقتي القرامطة والحشّاشين.
فالأولى تُنسب إلى حمدان بن الأشعث؛ وقد ظهرت نحو عام 278 هـ، والذي يعنينا من أمرها يتمثل في عدّة أمور:
أوّلها: هيكلها التنظيمي «الإخوان الأبرار الرحماء»، ثم «الإخوان الأخيار الفضلاء»، وهؤلاء يخضعون إلى قيادة «الإخوان العارفين»؛ وهم أصحاب الحَلّ والعقد في النحلة القرمطية، وتعلوهم طبقة «الأبرار المريدين المعلمين»؛ وهم الذين يتلقون الإلهامات الإلهية والتعاليم الشرعية، وهم دون غيرهم أصحاب العصمة.
ثانيها: يبدو في الطبقة التي تخيّروها لنشر أفكارهم؛ ألا وهي طبقة (العوام والجهلاء من الزرّاع والصنّاع والبدو الجفاة وضعاف النفوس)، وكان مدخلهم إليها هو السخط على الأوضاع الكائنة والغيرة على الإسلام، والرغبة في إقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ عن طريق العنف والجهاد المسلح.
ثالثها: فكرة الإمام الملهم الناسخ للشريعة، والمؤوّل للقرآن، والمحدّد لدار الهداية ودار الكفر.
أما الحشّاشون النزاريّون؛ فهي الفرقة الثانية التي نستشهد بها في هذا السياق؛ فقد أسّسها الحسن بن الصباح نحو سنة 471 هـ، والذي يعنينا من أمرها هو ذلك التشابه بينها وفرقة القرامطة من حيث طبقات العارفين والأتباع، وعلى رأسها الإمام المعصوم؛ الملهم، الناسخ للشريعة، وأمره مطاع بينهم، وتكفير دون فرقتهم من المسلمين، وتقويم الأغيار بالسيف، وخلطهم بين السياسة والعقيدة في سياق واحد.
ذلك فضلاً عن استحلالهم الكذب تحت مظلة التقيّة والتعريض، بالإضافة إلى إنكارهم أية نزعة للولاء والانتماء إلا للجماعة التي تربّت في كنفها.
والجدير بالإشارة أنّ كلتا الفرقتين قد كسرتا على يد المصريين؛ قلعة الإسلام ودرعه الواقي.
أما العامل الثاني الذي أدى لتفشي ظاهرة التطرف في المجتمع الإسلامي، فهو الكيد من قبل الدول المغلوبة التي فتحت عنوة على يد الجيش الإسلامي، وقد كان للمجوس وغلاة اليهود وغلاة المسيحية العامل الأكبر على نشأة الغلو منذ أخريات القرن الثاني الهجري، وهو بطبيعة الحال أحد صور التطرف الديني، وقد ظهر ذلك بوضوح في بعض الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية وشطحات الصوفية، وكان مدخلها جميعًا هو الغيرة على العقيدة وحماية الإسلام من الأفكار الدخيلة، ولا سيما المذاهب الفلسفية، ثم الدسّ في الحديث رغبة في إفساده من جهة، ومسايرة السلطات السياسية الحاكمة من جهة أخرى، الأمر الذي أنتج بعد ذلك الفرق الشيعيّة، ولا سيما المنحدرة من الفرقة الإسماعيلية، ثم الاثني عشريّة؛ الذين شرعوا في تكفير الصحابة والتعظيم من شأن الأئمة، وزعمهم بأنّ لديهم فصل الخطاب في الفهم الصحيح للقرآن، والقول الأرشد في ضبط السنّة، وتهذيب عوائد المسلمين.
وقد ساهم الاستشراق العقديّ منذ القرن العاشر الهجري في ظهور الجماعات السريّة الجانحة؛ كيهود الدونمة؛ التي ظهرت على يد شباتاي زيفي عام 1036هـ، وهي من أخطر الجماعات التي كان لها الأثر الأكبر في إعادة تشكيل المذاهب والنزعات والجماعات في شتى أنحاء العالم الإسلامي، ويرجع ذلك إلى تظاهر أعضائها بالإسلام، في حين أنّ باطنهم يسعى إلى إفساد عقيدته، واستمالة رجاله، وتسييسهم تبعًا لأهوائهم.
ولا يفوتنا في هذا السياق الحديث عن الاستشراق السياسي الذي لعب دورًا لا يقلّ خطورة عن سابقه، وذلك بعد فتح القسطنطينيّة على يد محمد الفاتح سنة 857هـ؛ إذ فطن الغرب إلى أنّ المواجهات العسكرية المباشرة لم تقض على الإسلام، وأن الأجدى هو تفتيت الإسلام من الداخل؛ عن طريق نشر الأفكار الغريبة، والنزعات الهدّامة، والديانات المصطنعة، فقد اتخذوا إلى ذلك طريقين:
أوّلهما: حملات تشكيكية في صحة القرآن والسيرة النبويّة وكتب الحديث؛ وذلك لإنشاء جيل من المسلمين ينتصر إلى العقل الوضعي، ويهاجم كلّ ما يعجز العلم عن إثباته من قصص وأخبار، الأمر الذي يساعد على ظهور تيار آخر يهاجم العقل، وينفر من العلم، ويتمسّك بما كان عليه السلف في كلّ شيء؛ انتصارًا للدين وخوفًا عليه من أفكار الأغيار؛ فظهرت النزعة الوهَابيّة على يد محمد بن عبد الوهّاب عام 1143هـ ترفع لواء السلف، وراية الفرقة الناجية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخليص المجتمع الإسلامي من البدع، وتكفير المتشبّهين بالغرب، والمبتدعين في العقيدة، وتقويم الجانحين بالسيف، وجعلوا الاجتهاد والتجديد محصورين في تفسير ما انتهى إليه الفقهاء الأول، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل وابن تيميّة. وقد ساهمت المخابرات الإنجليزية في نشر هذه الدعوة؛ وذلك لتمزيق الجامعة الإسلامية الخاضعة للواء العثمانيين آنذاك، وتجدر بنا الإشارة إلى أنّ الدعوة الوهابية لم تستطع التوغل في الثقافة المصرية خلال القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين؛ وذلك لقوّة شيوخ الأزهر الذين كانوا يدينون بالمذهب الأشعري من جهة، ووجود فرقتي الخلواتية والوفائية من الصوفيّة، وتغلغلهما في ثقافة العوام الدينية في القرى والنجوع من جهة أخرى.
أمّا الطريقة الثانية، فهي طريقة صناعة البطل، وتبدو في النحل البابيّة التي أسسها علي محمد رضا الشيرازي عام 1259هـ، والبهائية التي أسسها ميرزا حسين علي محمد حوالي سنة 1270 هـ، والمهديّة التي أسسها محمد أحمد المهدي عام 1298هـ، والقاديانية التي أسسها مرزا غلام أحمد القادياني عام 1318هـ، والإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا سنة 1347هـ، والتكفير والهجرة التي أسسها الشيخ علي إسماعيل عام 1385هـ، وجميعها قد اتصل قادتها أو أئمتها بالمخابرات الإنجليزية والروسيّة، ثم الأمريكية، وكان الهدف منها هو - كما ذكرنا - تمزيق العالم الإسلامي إلى طوائف متناحرة، وتعطيل أي مظهر من مظاهر النهضة أو الإصلاح في البيئة الإسلامية، وبعث روح الغلوّ في المعتقد السائد؛ وذلك لتشويه حقيقة الإسلام، والحدّ من الإقبال عليه في الغرب.
والذي يعنينا من ذكر هذه الجماعات هو تلك السمات التي تجمع بينها؛ وهي لا تختلف عن القرامطة والحشّاشين - كما ذكرنا، وذلك باستثناء الدعوة الوهابيّة والسنوسيّة، فجميعهم يزعم أنّ لديه فصل الخطاب، وأنه جاء بدعوة مكمّلة للرسالة المحمديّة، وأنّ جماعتهم دون غيرها يمثل الفرقة الناجية، وأن لا ولاء إلا لله، وأنّ الانتماء للوطن أو العرق من فعل الطاغوت، وأنّ الإسلام دين ودولة، والدولة هي الخلافة الإسلامية، وأنّ المجتمع المدنيّ دونهم كافر.
أما الوهّابيون، فقد تفرّعت جماعتهم في العالم العربي واتخذت العديد من الأسماء؛ مثل أنصار السنّة والجمعية الشرعية وجماعة المسلمين للتكفير، وجماعة التبليغ في مصر، وكتائب الحقّ وحزب التحرير الإسلامي في سوريا، وجنود الرحمن في لبنان، وحزب التحرير في الأردن، وحزب حركة النهضة في تونس (الاتجاه الإسلامي سابقا)، والحركة الإسلامية في الجزائر، والإخوان المسلمين في المغرب، وهم لا يختلفون عن غيرهم في استخدام العنف، وتوجيه لفظة الجهاد توجيهًا خاصًّا تجاه المجتمع الإسلامي بحجة أنّه أضحى مجتمعًا جاهلاً، وظهر التيار القطبي من الإخوان مسايرًا للتيار المودودي يجمع بين بعض معتقدات الوهابيّين وفكرة السمع والطاعة التي تميّزت بها الاتجاهات الجانحة التقليديّة.
وأما الفارق بين التطرّف الديني أو التطرف أو التعصّب في الدين: فيمكننا التماسه في عدة مظاهر؛ إذ يمكننا اعتبار المتصوّفة شكلاً من أشكال الجماعات المتعصّبة للفكر الباطني؛ الذي يعتمد على الوجدان في العرفان، ويعتبر التجديد في الإفراط في التقليد، وأنّ اعتزال العالم بكل ما فيه هو الطريق الأصوب والآمن دائمًا، وعلى مقربة من هؤلاء نجد الحنابلة المعاصرين والمرجئة؛ الذين تمسّكوا بظاهر النص، واعتقدوا بأنّ كل وافدٍ بدعة، وأنّ السير على سنّة السلف دون تأويل أو اجتهاد هو الذي سوف ينجيهم من النار.
أما الفرق المتطرّفة: فهم الذين اتخذوا من العنف سبيلاً لفرض رؤيتهم أو معتقدهم، ومن "أسلوب الإطاحة" ضربًا للحكم على خصومهم، فسلاحهم في السجالات هو التكفير، وسبيلهم إلى السياسة هو التّقية والتعريض والمداراة والمسايرة، وغير ذلك من الأمور التي نهى عنها النبي، فلا اغتيال ولا غدر ولا كذب باسم العقيدة، وليس أدل على ذلك من مسلك النبي في مكة مع المشركين ودأبه في المدينة مع اليهود، والقبائل الراغبة عن الإسلام، فلم يرفع السيف ليكره الناس على اتباعه، وهو النبي المتيقّن بأنّ سبيله هو الحقّ، وأنّ ما عليه خصومه هو الباطل، فلم يكن محمد بن عبد الله وصحابته من أولئك المتعصّبين للقديم؛ الذي وجدوا عليه أباءهم، ولا من الجانحين الإرهابيّين الذين استحلوا دماء الناس بغير حق، وعليه: فإنّ كل ما نراه من هذه الجماعات غريبًا عن الإسلام، ولا يمثله، ولا يعبّر عن صحيح معتقده، فكنتم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف بغير منكر، وتنهون عن المنكر بالمعروف، هكذا كان ديدن السلف؛ الذين نقتفي أثرهم.- ارتبط التطرف الديني في الوجدان الإسلامي المعاصر بنظرية المؤامرة، هل تجدون ثمة علاقة بين نشأة التطرّف، بل ورعايته في ضوء هذه النظرية؟
عصمت نصار: بالطبع لا يمكننا إنكار نظرية المؤامرة، ولكنها لم تحبك أو تصاغ على النحو الذي نعتقده في مخيلتنا، فالعالم الغربي تحكمه عدة مؤسسات؛ منها الاقتصادي، والإيديولوجي، والعقدي، وكلّ من هذه المؤسسات يعمل بطبيعة الحال لخدمة ذاته، فلا يعقل أن تضحّي المؤسسات الاقتصادية بمصالحها أو مكاسبها لصالح أمّة ما، وبمعنى آخر: إنّ الغرب الصناعي المنتج من مصلحته أن يظل العالم العربي الإسلامي راكدًا، ويلعب في سوق الاقتصاد دورَ المستهلك فقط، ومن ثمّ: عندما يعرقل أو يراقب أو يستقطب كل ما يساعد على نهوض هذه المنطقة نجده أوّل المعرقلين؛ دفاعًا عن مصالحه.
أمّا المؤسسات السياسية، فمن مصلحتها أيضًا أن تكون هذه المنطقة في وضع غير مستقر سياسيًّا، فدائمًا ما تجد الأصوات التي تحول بين العرب واتحادهم في سياق كونفدرالي أو تفعيل بعض ما جاء في ميثاق الجامعة العربية، بدايةً من الاقتصاد ونهاية بالدفاع المشترك، أقول ثانية: من مصلحة الغرب أن تكون لهم اليد العليا في تسييس هذه المنطقة، وقد استثمروا بعض عملائهم في المنطقة؛ بدايةً من تمزيق الولايات العثمانية، ومرورًا بإحباط كل المحاولات الوحدوية بين مصر وجيرانها (مصر والسودان - مصر وسوريا - مصر وليبيا والسودان - مصر وليبيا والسودان والعراق)، وفي الستينيات راحوا يوقفون الخليج من زعامة عبد الناصر، وفي السبعينيات راحوا يهددون الخليج أيضًا بإيران، وفي أخريات التسعينيات ورّطوا العراق في حرب الخليج الأولى، ثمّ حرب الخليج الثانية. ولا ننسى المؤامرة الكبرى؛ أعني وعد بلفور ووضع إسرائيل في المنطقة، وهو بلا أدنى شك قد لعب دورًا كبيرًا في الحيلولة بين وحدة العالم العربي، وأعتقد أنّ موقف العالم الغربي من القضية الفلسطينية لن يتغير؛ وذلك لأنّ وجود إسرائيل في المنطقة بات من المسلمات، رضي العرب أم أبوا؛ وذلك لحماية مصالح الغرب الاقتصادية والسياسية معًا، ويمكننا مراجعة موقف مجلس الأمن والاعتراضات المتتالية على أيّ قرار إدانة يوجّه لإسرائيل رغم أفعالها التي تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، أضف إلى ذلك كله: أنّ المنازعات والحروب التي تشنّ من حين إلى آخر بين أقطار المنطقة تنشّط حركة بيع السلاح وتجريبه والدعاية للمصانع التي تنتجه.
أمّا المؤامرة العقدية، فترجع إلى العديد من المؤسسات؛ شأن المحافل الماسونية، والجمعيات الإلحادية، والمنظمات الصهيونية، والمنظمات الصهيوأمريكية، وغلاة المسيحية الصليبية، فجميعها يدعم التطرّف بكل أشكاله؛ أي أنها تدعم التطرف الطائفي (شيعة وسنّة، ليبراليين أو اشتراكيين ضد السلفيين، إخوان ضد الدولة، جماعات مسلحة وخليّات سريّة ضد الأنظمة القائمة، دروز ضد موارنة، كاثوليك ضد أرثوذكس ضد بروتوستانت)، ذلك فضلاً عن الحملات التشكيكية التي تنشرها في أجهزة إعلامها، وفي كتابات مستشرقيها، وكذا دورها الفعّال في ظهور الجماعات الماجنة؛ مثل عبدة الشيطان والإيموز، وقد ذكرنا قبل ذلك دورهم في ظهور البابيّة والبهائيّة والقاديانيّة ثم داعش، الأمر الذي يجعلنا نسلّم بوجود ما نطلق عليه المؤامرة.
غير أنّني مع التسليم بكل ما سبق أقول: إنّ هناك قصورًا ذاتيًّا، وخللاً في بنية الأنا العربية الإسلامية، تتمثل في عدم الوعي بالمطامع الغربية، والتضحية بالمصلحة العامة من أجل الحفاظ على الإمارة والملك والحكم، والدليل على ذلك أنّ هناك أقطارًا إسلامية قد استطاعت الفكاك من ذلك الشرق الغربي؛ مثل باكستان وأندونسيا، فلم تحل الرقابة الأمريكية دون أن تحقّق هذه الدول ومؤسّساتها نهوضها حتى أضحت لها شخصية مستقلة تمامًا عن التبعية، وقادرة - في الوقت نفسه - على الردع، والردّ على كل من يحاول التعدّي على مصالحها.
وأخيرًا أوجّه للمتشككين في وجود نظرية المؤامرة بعض الأسئلة: من الذي وضع بروتوكولات حكماء صهيون؟ ومن الذي يغذي المحافل الماسونية بشتى أنحاء العالم العربي الإسلامي؟ ومن الذي وضع نظرية الشرق الأوسط الجديد، وتطبيقاتها في العالم الإسلامي؟ ومن الذي وضع نظرية العولمة، ونظرية الجات؟ ومن الذي يدعم الآن داعش والنصرة وأنصار بيت المقدس؟
علينا أن نتساءل: هل مواقف أمريكا من العالم الإسلامي قد تغيرت أو تحوّلت، أم بدّلت الأقنعة وغيّرت قواعد اللعبة؟
إن أسطورة المارد الأخضر وخوف الغرب من انتشار الإسلام هو الذي يدفعهم دومًا لتشويهه؛ وذلك لتيقّنهم أنّ عالمية الإسلام وما فيها من قيم روحية وأخلاقية كفيلة بأن تنقذ العالم، بل تنقذ البشرية من أغلال أيديولوجياتهم الفاسدة.
- إلى أي مدى عملت المفاهيم الدينية (الفرقة الناجية - الخلافة - الحاكمية) على إذكاء روح التطرّف الديني؟
إنّ من يراجع مقالي عن «الفرقة الناجية» الذي نشرته على بوّابة (روزاليوسف) سوف يدرك أنّ هذه الفكرة كانت وراء ما نطلق عليه «الشيفونية» أو «التعالي المليّ» أو «العنصرية»، ويبدو ذلك في أنّ كل فرقة كلامية قد زعمت بأنها هي التي تحمل لواء الوسطية، وتحمي جوهر العقيدة الإسلامية، ودونها بطبيعة الحال جانح أو فاسق أو مجدِّف، ففرقة المعتزلة تعدّ نفسها هي الفرقة الناجية، وحجّتهم في ذلك أنّ الباري سبحانه وتعالى وجّه كلامه إليهم دون غيرهم (قوم يعقلون، يفقهون، يتفكّرون، أولو الألباب)، وفرقة الأشاعرة نصّبت نفسها المتحدث الرسميّ بلسان أهل السنّة والجماعة، وقد برهنوا على ذلك برفضهم كل دخيل من العوائد على ما سنّه النبي، وردهم الجدلي على الفلاسفة وغلاة الصوفية، وإعلائهم من شأن المعقول على المنقول. وفي العصر الحديث نجد الشيعة والسلفية الجديدة والماتريدية والمدرسة الأزهرية والطرق الصوفية والإباضية والإخوان والفرق الجهادية والمداخلة والحدادية وداعش، كلّهم يظن أنّه يمثل تلك الفرقة الناجية.
والسؤال المطروح: أيّة من هذه الفرق تسير على نهج المصطفى؟ فقد جاء في الحديث، عندما سئل النبي عن سمات الفرقة الناجية، قال: «ما أنا عليه اليوم، وأصحابي»؛ فكلنا نعلم أنّه جاء ليتمّم مكارم الأخلاق، وأنه الرحمة المهداة، وأن ما به من مكارم وأوصاف وفضائل وخصال وطباع لو وضعت في كأس وارتشف المسلمون منها رشفة واحدة لأضحوا خير أمّة أخرجت للناس؟ وأين هم بأفعالهم الدنيئة من مقام المصطفى؟ لقد أخذ جميعهم المظهر دون المخبر، وليس أدلّ على ذلك من حملة «صلّ على النبيّ»، التي راحوا يروّجون لها على الشبكات العنكبوتيّة ووسائل الموصلات، ولم يحاول أحدهم الإجابة عن السؤال المطروح: كيف نصلّ على النبيّ، ونسير على دربه، ونحي سنّته؟ فالمخبر قبل المظهر، وأتساءل: هل يمكننا التسليم برواية حديث الفرقة الناجية على النحو الشائع؛ أي أنّ الأمة الإسلامية سوف تتشتت إلى ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة؟ فلو كان هذا صحيحًا لبات اعترافًا بفساد الأمة، والأصوب: الاعتماد على الرواية الأخرى؛ ألا وهي: «كلها في الجنة إلاّ واحدة»؛ وهذا التباين في الرواية الثانية يرجع إلى الاجتهاد والتجديد ووجود التميز بين المجتمعات في تطبيق الشريعة تبعًا لظروف كل منها، وهذا ما يقبله العقل، وتدعمه أقوال النبي المتواترة، وعلى رأسها: «أنتم أدرى بشئون دنياكم»، وحديث المجدّد الذي يأتي على رأس كل مئة عام، وقوله «اختلاف أمّتي رحمة»؛ فالنبي يعلم مسبقًا بأنّ تجديد الدين يحتاج إلى اجتهاد تبعًا للواقع المعيش المتغير والنسبي في كل زمان ومكان، وعلى ذلك: يبيت الخلاف سنّة محمودة، والعنت - بطبيعة الحال - كفرًا، ومصير أصحابه النار.
وأكرّر: إنّ القول بأنّ هناك فرقة تعلو على دونها في الإسلام لمن الأمور الغريبة على البنية العقدية الإسلامية، فكل المسلمين خطّاؤون، وخير الخطّائين التوّابون، أما تلك الشيفونية أعتقد أنها من مخلّفات العصبية، وواحدة من ادعاءات اليهود؛ لأنهم شعب الله المختار، وقد ساعد - بالطبع - هذا المعتقد على ذيوع التطرّف حتى في لغة الحوار؛ فلم يعد قول الشافعي «كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب»، يزيل به العلماء اجتهاداتهم، بل أصبحت مقولة: «هذا قول واحد، ودونه خطأ» هي لغة السجالات والاختلاف والإعلام.
أمّا عن قضيّة الخلافة: فبات الحديث عنها أقرب إلى السخف وأحلام البلهاء منها إلى الواقع؛ وذلك لأنها مجرّد نظام سياسي، والسياسة - كما نعلم - ليست من الأصول، بل من الفروع التي تتبدّل وتتغير، شأن كل الأنظمة والآليات، فمن يضفي على نظام الخلافة أي شكل من أشكال القداسة أو يجعله من الركائز الشرعية، فإنه جاهل بأصل الدين، وهذا الرأي يستند إلى العديد من الوقائع التاريخية والحجج العقلية، فأين نظام الخلافة بعد عمر؟ وهل نُصِّب أبو بكر على نحو من البيعة يماثل لما نُصِّب عليه عمر وعثمان وعليّ؟ وهل ممالك الأمويين والعباسيين والفاطميّين والعثمانيين يمكن إدراجها ضمن ما نطلق عليه الخلافة؟
الحق: أنّ هذه القضية طالما وضعتها الفرق المتطرفة غير الواعية ضمن شعاراتها بإيهام العوام بأنه سوف يأتي يوم يتوحّد فيه المسلمون تحت مظلة رجل واحد؛ هو المهدي أو المرشد أو الولي، وهذا لا يمكن تحققه في ظل تباين المجتمعات واختلاف عوائد البشر، بل الأصوب القول بتفعيل دور المنظّمات الإسلامية الثقافية والاقتصادية والصحية والإعلامية؛ وذلك لتكامل المجتمعات الإسلامية للبرهنة على أنّ هذه الأمة هي التي تحمل الخير للناس كافة، فتصبح وحدتهم خير داعية بحقيقة الرسالة المحمّدية.
أضف إلى ذلك: أنّ الواقع المعيش بكل أوضاعه السياسية والاقتصادية يحول بين فكرة الخلافة الإسلامية ووجودها في الواقع؛ لأنها تهدد - بطبيعة الحال - الكيانات السياسية الكبرى (أمريكا - روسيا - الصين)، والاتحاد الأوروبي. ثم من أين تأتي مقومات تلك الوحدة والعالم الإسلامي ممزق سياسيًّا ومتفاوت اقتصاديًّا ومتخلف علميًّا، وشاغل بالخلافات الطائفية والمذهبية؟ وما هي الوسائل لوحدة هذا العالم؟ هل السيف الذي تصنعه أوروبا وأمريكا؟ أم بالإرهاب الذي ترفع رايته داعش والنصرة وبيت المقدس وغير ذلك من الجماعات المأجورة؟
الحقّ: أنّ مسألة الخلافة قد طرحت في العصر الحديث؛ لتكون مدخلاً لخلط الدين بالسياسة، الأمر الذي مزّق العالم الإسلامي إلى فريقين؛ الأول: مؤيّد للخلافة كرمز للجماعة الإسلامية، والثاني: علماني منحاز للنظم الأوربية، وقد تولد عن مصطلح الخلافة العديد من المصطلحات المعاصرة؛ مثل إسلامية الولاء، واتهام القوميّين والوطنيّين بالمروق، ثم ظهور مصطلح الدولة الدينية والدولة المدنيّة، والمقارنة بين مصطلح الشورى والديمقراطية.
أما عن قضية الحاكمية: فأعتقد أنها لم تثر في العصر الحديث إلا في الفكر الوهابي؛ الذي نقلها بدوره إلى أبي الأعلى المودودي، ثم إلى سيد قطب والجماعات السلفية والجهادية، وهي أيضًا من القضايا التي كانت تستخدم لدغدغة مشاعر العوام. وقد انبثق من هذا المصطلح شعارات كثيرة؛ منها الإسلام هو الحل، ولا حكم إلا لله، والحدود الشرعية والقوانين الوضعية، وحكم الطاغوت.
والجدير بالذكر أنه منذ عام 1226هـ قد تحوّل الدستور العثماني الذي يعدّ المرجعيّة لكل القوانين في الولايات العثمانية إلى دستور مدنيّ، ورغم ذلك لم نجد أي صدى لمصطلح الحاكمية الإلهيّة في الثقافة العربية الإسلامية، أضف إلى ذلك: أنّ جميع البرامج الحزبية التي ظهرت في مصر قد أكدت على نظام مدنيّة الدولة؛ بداية من حزب الأمة، ونهاية بحزب الوفد والأحرار الدستوريين، وكذا جميع الدساتير التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي قد وصفت نظام الدولة بأنه مدني، وعلى الرغم من ذلك كله نجد هذه الجماعات تتّهم مجتمعاتها بالكفر ومتابعة الطاغوت، بل الأكثر من ذلك كله أن الاتفاق الذي أبرم بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود كان اتفاقًا مدنيًّا، أو إن شئت قل: علمانيًّا، أي غير شرعي بالمعنى الدلالي لهذا المصطلح عند الجماعات.
والحقّ: أنا لا أعرف على وجه الدقة ما المراد بالحاكمية؛ فنظام الحكم في الإسلام من الوجهة السياسية قد فوّض الأمة في اختيار الحاكم، وجعل مبدأ الشورى بكل أشكاله هو السبيل لاختيار من يسوس البلاد، وجاء مصطلح السياسة الشرعية في كتابات ابن تيمية مرادفًا لمصطلح السياسة المدنيّة لأبي البقاء، ومصطلح الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى؛ وهو «العلم الذي يعرف منه أنواع الرياسات والسياسات الاجتماعية والمدنية وأحوالها من أحوال السلاطين والملوك والأمراء، وأهل الاحتساب والقضاء والعلماء وزعماء الأموال ووكلاء بيت المال ومن يجري مجراهم». أما إذا كان المراد من الحاكمية هو تطبيق الحدود فإن هذا القول مردود عليه. أمّا فقه الحدود، فيحتاج إلى تحديث يمكّنه من تطبيقه على أرض الواقع، أضف إلى ذلك: أنّ الحدود الإسلامية تعدّ سقف العقوبة أو العقوبة الأشد، وللقاضي أو الحاكم الأخذ بالتعازير «القوانين المدنية» إذا ما استشكل عليه الأمر أو حالت حوائل بينه وبين تطبيق الحدود.
أمّا حكم الطاغوت، فالمراد منه: الكفر بشرع الله، وتحليل ما حرّم وتحريم ما حلل، وهذا لا ينطبق على المجتمعات التي وصفتها تلك الجماعات بدار الشرك والمجتمعات الكافرة، ومن ثم: يمكننا إدراج هذا المصطلح ضمن المصطلحات التي أدت ليس للتطرف فحسب، بل العنف والإرهاب والخروج على الثوابت الشرعية باسم الدفاع عن الحاكمية، ويبدو ذلك في التقتيل واستحلال الأعراض والأموال وغير ذلك من الأفعال التي يمكن إدراجها في قوائم الهمجية والجاهلية. وقد حذّر الإمام عليّ من ظهور مثل هذه الجماعات في العالم الإسلامي في الأثر الذي نقل عنه: «إنهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرها لصوصًا سلاّبين».
- إذا كانت كافة الفرق والمذاهب نشأت في البداية نشأة سياسية، ثم اصطبغت بصبغة دينية قوية، فإلى أي مدى تلعب السياسة الدور الرئيس في توجيه عمليات التطرف الديني؟
أعتقد بأنّ القول بخروج جميع الفرق الكلامية من رحم الفلسفة يحتاج إلى مراجعة، والأصوب: القول بأنّ جلّ الحركات المتطرفة والجماعات الإرهابية قد انطلقت مدفوعة بالمطامع السياسية، أو إن شئت قل: إنها جماعات مسيّسة، فإذا ما تساءلنا عن علة ظهور تلك الجماعات ومقاصدها فسوف يجيب مؤسسوها: نشر الدعوة الإسلامية والحكم بما أنزل الله، وإصلاح المجتمع وهدايته، والإجابة في هذا السياق لا تعبر عن الحقيقة، والأمثلة واضحة، فالعمل الدعويّ والنهج التربوي لا يدفعان المعنيين به للتكالب على المناصب والكراسي وتشكيل الأحزاب ورئاسة النقابات، فإن كل هذه الهيئات السياسية تتعارض مع معتقداتهم التي يؤمنون بها؛ ألا وهي: أنّ النظم الحالية التي تقود المجتمع ضرب من ضروب الطاغوت، فكيف يشارك أولئك الناجون من النار - على حدّ تعبيرهم - للزج بأنفسهم في أتون السياسة وما فيها من ألاعيب وحيل يبرأ منها الدّين، وتدرج ضمن النجاسة، أضف إلى ذلك: علاقة معظم هذه الجماعات بالدوائر السياسية الغربية للتنسيق معها وطلب العون منها بكل أشكاله عند اللزوم، وإبرام الاتفاقات معها على نحو يمكنها من الحكم فحسب، متخذة من شعار «الغاية تبرر الوسيلة» للوصول إلى أغراضها، فها هم الإخوان يبرمون الاتفاقات مع أمريكا وإسرائيل، وكذا الجماعات السلفية في مصر غير عابئين بمصالح الدولة وأمنها، ذلك فضلاً عن ممارساتهم السياسية بداية من الإتجار بالأصوات الانتخابية، ونهاية بتيسير مصالحهم الشخصية، شأنهم في ذلك شأن من كانوا يصفونهم بالظلم والفساد على المنابر صبحًا وعشيَّا، فهل ما تقوم به هذه الجماعات من ممارسات يمكن إدراجها تحت ما تطلق عليه السياسة الشرعية؟
ولنا في سيرة رسول الله الأسوة الحسنة، فلم يفاوض النبي ولم يوارب ولم يظهر غير ما يبطن؛ فعندما عرضوا عليه الملك كان في إمكانه - بمنطق السلفيّين المعاصرين - أن يباريهم، ثم يفرض شروطه أو دستوره بعد تنصيبه، غير أنّ هذا لم يحدث، وكذا اتفاقية المدينة أو إن شئت قل: معاهدة المدينة؛ فلم ينقضها ولم يحنث بأي بند فيها، رغم أنها تعدّ اتفاقية سياسية، أؤكد أنّ ارتداء عباءة الدين في ميدان السياسة أضحى من الأمور المفضوحة التي لا تخدع سوى العوام المغيّبين.
- من أبرز صور التطرف الديني في عصرنا الراهن هي الظاهرة الداعشية، ما تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وما مرجعيتها؟ وما موقفها من المخالفين لها في التوجه العام؟ ولماذا ابتعدت كل البعد عن مظاهر التدين الصحيح، بل وكل مظاهر المدنية والحضارة في إفراط وتفريط فجّ؟
لقد أشرت في غير موضع من كتاباتي إلى كيفية صناعة المخابرات الغربية لعملائها في الشرق الأوسط بخاصة، وسائر أقطار العالم بعامة، وذكرت أنهم ينتقون الشخصيات التي تتوفر فيها عدة صفات مجتمعة أو بعض منها (الشعور بالاغتراب - الاعتزاز بالأنا - الفكر الإطاحي - رفض الواقع والتمرد عليه - التطلع إلى غايات أكبر من الإمكانيات - الشطط - القدرة على المراوغة - الأنانية)، ثم يقدّمون لها العون المباشر وغير المباشر (الإعلام - المال - الترشيح للوظائف المهمة - التزكية لبعض الجوائز العالمية)، ثم بعد ذلك يقومون بتدريبه أو تلقينه وإعداده ليكون آلية لهم في المكان الذي يريدونه أن يعمل به، والأمثلة عديدة في تاريخ الفكر العربي الحديث، نذكر على سبيل المثال: إسماعيل أدهم الذي درّبوه في المعاهد الإلحادية الروسية، ثم اتصل بالمخابرات الأمريكية والمحافل الماسونية في تركيا، وروّجوا لعلمه ودراساته في الرياضيات والفيزياء، ثم ألقوا به في مصر؛ ليشكّل خلية إلحادية؛ تستقطب بعض الماركسيين وشبيبة الشوام والمصريين الذين راقت لهم كتابات المستشرقين الطاعنة في الدين والإسلام، ثم حسن البنا وأبي الأعلى المودوي وسيد قطب، وغيرهم من الشخصيات التي أضحت بعد ذلك أمراء منابر التطرّف الإسلامي، وعلى الجانب الآخر نجدهم يغذّون التيارات العلمانية بنفس الطريقة؛ أي أنّهم يجمعون كل الأوراق في أيديهم ثم يلقون بمن يصلح للعب في الوقت المناسب، فجماعة الإخوان -على سبيل المثال - لم يفلح عبد الناصر في اقتلاعها من الثقافة المصرية؛ وذلك لأنّ الأيادي التي كانت تحركها هي التي احتضنت الكثير من أعضائها في السعودية وإنجلترا وأمريكا وألمانيا، وجعلتهم يشكّلون خلايا؛ لتقوم بالأدوار التي يكلّفون بها تبعًا لتحوّلات السياسة، والجدير بالذكر أنّ جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات السريّة التي زرعتها أجهزة المخابرات الغربية في الشرق الأوسط كانت تشكّل على نحو عنقودي وطبقيّ تنظيميًّا؛ أي أنّ القيادة هي التي تتلقى الأوامر، ثم تصوغها على نحو يتواءم مع ظاهر ما تعتقده الجماعة، ثم تلقى الأوامر بعد ذلك لباقي الأعضاء من عوام المنتمين. وقد نجح هذا النظام وذلك التركيب في تسييس الجماعات، بداية من القدرة على تغيير القيادة، ونهاية بدفع الأطراف إلى العنف وتنفيذ كل المهام على خير وجه، وعلى هذا الدرب ظهر تنظيم القاعدة وطالبان لمناوءة الروس في أفغانستان، وظهرت حماس لمناهضة ياسر عرفات وفتح ومنظمات التحرير الفلسطينية، وكذا الخلايا السلفيّة في شتى أنحاء العالم الإسلامي؛ لتكون بديلاً عن الإخوان عند اللزوم؛ وذلك كله لتحقيق ثلاثة أهداف؛ أوّلها: ضرب الإسلام من الداخل، وثانيها: الحيلولة بين استقرار الدول الإسلامية والتنمية، وثالثها: تشويه صورة المارد الأخضر وتصويره على أنه دين عنف وحمق ورجعيّة ووحشيّة وإرهاب، ولا تختلف داعش التي أسّسها أبو عمر البغدادي عام 1427 هـ، وبعد مقتله تولّى قيادتها أبو بكر البغدادي عام 1431 هـ، وفي 1434هـ نصّب الأخير نفسه خليفة للمسلمين في العراق والشام معلنًا الجهاد على سائر الأقطار الإسلامية، بل يميزها أنها جمعت في بنيتها العقدية كل جيف ونفايات التطرّف؛ بداية من الكذب والتجديف على الله وتأويل الآيات القرآنية على غير وجهها الصحيح وتوجيه الأحاديث وجهة مناقضة لمراميها ومرورًا بالقتل والنهب والزنا (نكاح الجهاد)، وجحد أخلاقيات الإسلام في الحرب والقتال، وانتهاءً بتكفير المسلمين والعمالة للغرب.
وليس أدل على ما قدمنا من سياسة أمريكا وتركيا وإسرائيل تجاهها، فأمريكا التي تتظاهر بأنها تحاربها قد ثبت أنها هي مصدر السلاح الذي يحمله أفرادها، بالإضافة إلى دعمها اللوجستي عن طريق تهجير مئات الشباب إلى العراق وألمانيا وأستراليا. أما تركيا، فهي الداعم المباشر على الأرض، فقامت بمهاجمة كتائب البشمرجة والأكراد؛ لأنهم حققوا انتصارات على عصاباتها، والدعم الإسرائيلي يتمثل في الخدمات الطبيّة التي يقدمونها لجرحاهم في مستشفياتها، بالإضافة إلى الدعم الإخباري المخابراتي، ذلك فضلاً عن جمعهم مئات النساء المدربات؛ لاستمالة شباب الإرهابيّين إحياءً لنظام الحشّاشين في الإغراء (الحور العين الأرضيّات).
أقول: إنّ داعش لا يمكن إدراجها ضمن الفرق الكلامية؛ وذلك لأنّها شأن الكثير من الجماعات المتطرّفة تخلو من عنصر التنظير الفقهي والعقدي الذي يبرر أفعالهم، وقد وصفهم النبي بأنهم «كلاب النار».
- للتطرف الديني أيديولوجياته كالتأويل التعسفي للآيات القرآنية والتوظيف الأيديولوجي للسنّة النبوية وللأحاديث على كافة مستوياتها الصحيحة والضعيفة والموضوعة، كما أنّ هناك تطرّفًا مضادًا يقوم على التفريط في مواجهة الإفراط وهو المشروع العلماني، وكلاهما في وجهة نظركم تطرف حسب كتابكم «الخطاب الديني والمشروع العلماني وجهان لعملة زائفة»، فكيف تشرحون هذا الأمر؟
إنّ مسألة تأويل الآيات وتوجيه الأحاديث ليست بجديدة على ثقافة الفرق، فقديمًا - وتحديدًا منذ الفتنة الكبرى - أخذ الخوارج والشيعة والمجسّمة والسبئيّة والكرّاميّة وغيرها يؤوّلون ويتبادلون الاتهامات، وفي الفكر الإسلامي الحديث نجد محمد بن عبد الوهّاب وابن عثيمين وابن باز وأولاد الشيخ يؤوّلون ويستشهدون بالأحاديث والواقعات التي حدثت من الصحابة والتّابعين، وعلى نفس الدرب سارت كل الفرق المهديّة من المتصوفة أو من الدروز أو من الشيعة المحدثين، وأعتقد أنّ علة ذلك الجنوح وهذا التجديف، وذلك الاجتراء يرجع إلى ثلاثة أمور:
أولها: غيبة الحجّة العلمية؛ أقصد أهل الذكر، فلا نكاد نلمح ظهورًا وسطوعًا بنجم هذه الجماعات إلا في تلك الأزمان التي أفل فيها نجم شيوخ الأزهر العظام أو المجددين المصلحين العارفين، فقد نجح حسن العطار في الحد - كما ذكرنا - من تسلل الأفكار الوهابيّة إلى الثقافة المصرية، وقد خلا المجتمع الإسلامي من هذه الجماعات الابتداعية يوم كان الأفغاني ومحمد عبده ينشران أفكارهما في التجديد والإصلاح، ويدفعان عن الإسلام كل أباطيل غلاة المستشرقين، كما أنّ وجود محمد الغزاليّ ومحمد متولي الشعراوي قد حدّ من غلوّ وتعصّب من أطلقوا على أنفسهم السلفيّين.
وثانيها: تعملق الأقزام واعتلاء غير المتخصصين كراسي الفقه والفتوى ومنابر الدعوة، وتقاعس الأزهريّين في الردّ عليهم أو تقويمهم أو الحدّ من سلطانهم. فالكثير من المساجد تتبع جمعيات خاصة تحت مسميات عديدة، حتى باتت المساجد الإسلامية تنقسم إلى قسمين: إخوان، أو سلفيّين، وأمسى الأئمة الجدد ينتصرون لمن يدفع أكثر؛ فمنهم البكّاؤون، ومنهم المتنطعون، ومنهم الثائرون على السلطة الحاكمة، ومنهم المهيجون للفتنة الطائفية، أو المتحدثون عن فقه النساء أو الحاكمية، أو العلاقة بين الناسخ والمنسوخ، أو يتاجر في القضية الفلسطينية، وشتم ولعن الشيطان الأكبر (أمريكا)، وغير ذلك من الأفاعيل، وقد صاحب تلك الفتاوى والآراء الهاشة دعم ماديّ للمعوّذين من الأتباع في صورة إعانة الشباب على إيجاد عمل في تهجيرهم من مؤسساتهم، والزواج من بنات الجماعة، وأخيرًا: الإعانات المباشرة في المواسم، والرعاية الطبية في العيادات الملحقة بالمساجد، كل ذلك جعل لهاته الجماعات سلطانًا من العسير نقضه أو تقويمه، فمن ذا الذي يراجع الشيخ حسّان ومحمد عبد المقصود وحازم شومان؟ إن كانوا أزهريّين فهم مأجورون وعملاء للسلطة، وإن كانوا إصلاحيّين فهم علمانيّون؛ قليلو الإيمان وقليلو العلم.
وثالثها: غيبة المستنيرين العقليّين؛ الذين كانوا يجمعون بين الثقافة الإسلامية والتراث العربيّ من جهة، والثقافة الغربيّة وأيديولوجيّاتها وفلسفاتها من جهة أخرى. فلا غرو بأنّ وجود التيّار الذي أطلقوا عليه تيارًا علمانيًّا، وكان يضم مدرسة الجريدة بقيادة أحمد لطفي السيّد وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق وطه حسين والعقاد وعلي عبد الرازق وإسماعيل مظهر وأمين الخولي وعبد المتعال الصعيدي وخالد محمد خالد، كان بمثابة رمانة الميزان التي تحدّ من شطط الغلوّ والتطرف. فقد تصدّى معظمهم لهجمات المستشرقين ذودًا عن الإسلام، بداية من ردّهم على أرنست رينان، ثم الدوق داركور ثم كرومر، وكذا كتاب دائرة المعارف الإسلامية التي خطّها أدباء الغرب وفلاسفتهم، ثم ترجمت إلى العربية في الثلاثينيّات، وكانوا أيضًا يضطلعون بالردّ على الدعاوى الرجعيّة والفتاوى الجانحة، التي كان يخرجها بعض المتعصّبين من مشايخ الأزهر والدراعمة المتأثرين بالفكر الوهّابيّ. ولعل كتابات عبد المتعال الصعيدي عن الحرية الدينيّة وكتابات محمد الغزالي وخالد محمد خالد عن تجديد الخطاب الديني كانت تمثّل ثورة على كل مظاهر الجمود والشطط؛ أي كان التيّار الليبرالي الحرّ يلعب الدور الأكبر في توازن العقل الجمعي للثقافة الإسلامية، لا في مصر وحدها، بل في الشام والعراق وتونس وشبه القارة الهندية أيضًا.
والجدير بالإشارة في هذا السياق: أنّ أبا الحسن الندويّ؛ وهو العلامة الهندي المحترم والمعتمد في فكر معظم الجماعات الإسلامية قد حذّر من خلط الفكر الدعويّ بأمور السياسة، كما أكد على أنه لو كان هناك اختيار بين الحفاظ على أمن البلاد في ظل العلمانيّة والثورة الإسلامية التي ترمي إلى تطبيق الشريعة بالسيف لاختار الأولى؛ وذلك لأنّ الغرض الأساس من الإسلام وشرعته هو توفير الأمن والأمان والهداية للعباد. أما تطبيق الشريعة فمنوط به أولو الأمر وأصحاب الولاية، بداية من الحاكم ورب الأسرة، وعليه: رفض تمامًا كل الحركات المسلحة والجماعات الإرهابيّة التي اتخذت من الإسلام راية له، أكرر: فقد أدّى غياب الاتجاه العقلي المستنير عن الساحة الفكرية الإسلامية منذ بداية السبعينيات واعتلاء بعض المتحذلقين والمتغربين والمروجين للفلسفات والإيديولوجيات الغربية دون وعي إلى سطوع نجم الجماعات المتأسلمة، فقد اتخذت هذه الجماعات من تصريحات أولئك المتحذلقين ومدّعي الثقافة ضد الدين والطعن في كتب الحديث والتهكم على التراث الإسلامي والتصريح بتبنيهم الإباحية باسم الحريّة، كل ذلك قد استثمرته هذه الجماعات، واتخذت منه فزّاعة للرأي العام، مؤكدةً على أنّ الإسلام في ظل قيادة هؤلاء سوف يؤول إلى البوار، وتحلّ اللعنة على الجاحدين، وعلى النقيض من ذلك، وبنفس المنطق راح أولئك العلمانيّون المدعون يمسكون بعين العصا؛ ليحذّرونا من هجمة الاتجاه الإظلامي الردعيّ؛ المتمثل في جماعات الإسلام السياسيّ والإرهاب.
ذلك ما دفعنا إلى القول، إنّ العبثية التي نعيش فيها وأفضت إلى ذلك الواقع المتردي كان نتيجة منطقية لتهافت الخطاب الديني وحمق المشروع العلماني.
- هل يمكن القول بأن التطرف الديني لبعض الجماعات الإسلامية يضع الهوية الإسلامية كقربان لمذبح ديونسيوس الجديد الذي لم يعد إلهًا للخمر، بل أضحى ربًّا للعلم والمدنية والحضارة والإبداع؟
لقد اعتمد النهج الخطابي الدعوي الحديث على ثلاثة مناهج؛ هي المنهج النقدي، والمقارن والوصفي؛ لإثبات العمد والركائز الرئيسة التي تعبّر عن جوهر الإسلام وهويته، واجتهد الدعاة في دحض الآراء الطاعنة في الإسلام؛ استنادًا إلى الوقعات التاريخية والأساليب الشرعية المستمدة من القرآن والسنّة وسيرة النبي، ثم راحوا يحللون بنية الثقافة الغربية ويقابلون بين سوالبها وإيجابيات الفكر الإسلامي، وأخيرًا عكفوا على توضيح القيم الأصيلة المستمدة من الإسلام؛ لبناء الحضارة والمدنيّة، ويمكننا تلخيص متون الخطابات الدعوية التي ظهرت منذ أخريات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين في ما يلي:
- إنّ الإسلام لا يناهض العلم، ولا يحجّر على المفكرين والمبدعين، ومن ثم: فهو ليس راديكاليًّا أو رجعيًّا أو شيفونيًّا أو متعصّبًا.
- أنّ الإسلام يدعو إلى التجديد والتحديث، ويفصل بين الثوابت التي هي عمد الهوية الإسلامية والمتغيرات الحضارية التي تتبدل تبعًا للسنن الكونيّة والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن ثم: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لمن لديه الدربة والدراية بأصول الدين وضوابطها الشرعية.
- أنّ الإسلام أبعد ما يكون عن التحيّز للعرق أو الطبقة أو الملّة؛ فهو رسالة للنّاس كافّة، من آمن بها بقناعة وحرّيّة وإرادة وعقل فقد ظفر بحسن المقام في الدنيا وخير المأوى في الآخرة. أما من أبى، انتصارًا لملة أخرى، فلا سبيل إليه إلا النصح بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا إكراه في الدّين، وهو آمن مستأمن بكل حقوق المواطنة في بلاد المسلمين.
- أنّ البرّ والرحمة والمودة والتعاون والعدالة والتسامح والمساواة من القيم التي يحرص عليها المجتمع الإسلامي دون أدنى تعصّب للملّة أو تشيّع لمذهب.
- أنّ الدعوة للسلم والحرص عليه ومراعاة حقوق الجوار من الثوابت الأخلاقية الإسلامية، فلا اعتداء ولا سلب ولا نهب، ولا بغي في الحرب، ولا تمثيل ولا تنكيل. فالحرب الإسلامية المشروعة هي تلك الحرب العادلة التي تكون في صورة الدفاع عن المقاصد الشرعية.
- أنّ كل ما حرّمه الإسلام من مطاعم ومشارب ومسالك لا يرمي إلى حرمان الإنسان أو منعه من اللذائذ الجسديّة، بل هو صون لصحّته، وحرص على عفته، وضمان لاستقرار المجتمع وأمنه.
- أنّ الحدود الشرعيّة التي تبدو في عيون الأغيار شكلاً من أشكال العنف تعدّ من الروادع التي لا تطبق إلاّ بشروطها، وهي لا تنطبق إلاّ على الفاجر المعاند، بداية من حدّ السرقة والقتل العمد، ونهاية بحد الزنا والحرابة. فردع الفاجر والمعاند إن كان به شرّ؛ فالخير الناتج عن تنفيذه أكبر وأعظم؛ وذلك ليستقيم المجتمع، ويأمن الناس من شرار المجرمين.
- أنّ المرأة في كنف الإسلام لها من الحقوق والرعاية والاحترام ما لم تنله في دساتير ومواثيق العالم. أما حرص الإسلام على عفّتها، فلا يرجع برغبته في سجنها أو حجبها أو الحجر عليها، بل من باب درء المفاسد، وصون لها من مطامع الأشقياء. أما حقّها في التعليم والعمل واختيار الزوج والانتفاع بالمال والنقد والاعتراض والمشاركة السياسية، كل ذلك مكفول، وأنّ عدم مساواتها بالرجل في الميراث مبرّر بما على الرّجل تجاهها من التزامات، في حين عدم وجوبها عليها.
- أنّ السلطة السياسية في الإسلام مدنيّة، فلا كهنوت ولا باباويّة تنسخ الشرع. فكل ما في السياسة يخضع للتجربة العملية؛ شريطة عدم مخالفة قطعيّ الثبوت وقطعيّ الدلالة في الأمور الشرعيّة، والأمر بين المواطنين شورى، والحاكم مطاع، ولا يثار عليه إلاّ إذا ثبت كفره البواح، وكان في خلعه حماية للمقاصد الشرعيّة؛ شريطة ألا تتعرض البلاد أو العباد للمهلكة وإراقة الدماء.
- أنّ للكتابيّين والذميّين والأغيار كافة حقوقًا في الدولة الإسلامية؛ فلا يعتدى عليهم، أو يحقَّروا، أو يضطهدوا، وأنّ على المسلمين الطاعة والامتثال لقوانين الدولة إن كانوا أقليّة فيها؛ فلا غدر، ولا إرهاب، ولا تآمر.
- أنّ الإسلام ربط بين الجميل والجليل والحسن والخير، وعليه: فهو لا يحرّم الفنون من موسيقى وشعر وتصوير وتمثيل ما دامت تلك الفنون لا تخرج عن نطاق الأدب والذوق الراقي. أمّا الفحش والازدراء والتدني، فلا يمكن درجه ضمن الفنون الراقية، وعلى ذلك: فهو من المحرّمات؛ حفاظًا على أخلاقيات المجتمع.
- أنّ الدعوة المحمدية جاءت لتتمة مكارم الأخلاق، ومن ثمّ: باتت هي الدستور الأمثل لا للإنسانية فحسب، بل للبيئة أيضًا، فالإسلام أرفق الشرائع بالحيوان والنبات والحجر والأنهار والبحار؛ أي أرفق بالبيئة على اعتبارها نعمًا مسخرةً لخدمة من استخلفه الله على الأرض.
نقول: أين نحن من هذه المبادئ في سلوكنا وعيوبنا وعوائدنا وأقوالنا؟ نقول: إنّ المجتمع الإسلامي يحتاج إلى إعادة بناء؛ تُرسى فيه الوسطية من جديد، ويُقتلع التطرف من جذوره، فلا غرو في أنّ تلك الجماعات المتأسلمة - وهي تلك العصابات العلمانية المجترئة - قد نقلت أبشع الصور وأسوأها عن المجتمعات الإسلامية المتخلّف حضاريًّا، والمنحط أخلاقيًّا.
- هل حرية الاعتقاد والفصل بين الثابت والمتغير من الآليات التي تمكّننا من معالجة التطرف؟
إنّ هناك العديد من المصطلحات التي نردّدها دون أن نحدّد معناها، ثم نطالب بها على أنّها واضحة بذاتها، وحق لا يمكن إنكاره، شأن كلمة حريّة، فما المقصود بها؟ فعندما نقول: حرية الاعتقاد مثلاً لا يقصد بها نقض الراسخ من ثوابت الآخرين، أو الاجتراء على المقطوع بصحته، أو التهكم على العبادات، أما دون ذلك من نقد آراء الفقهاء أو تحليل كتب التراث أو رفض فتاوى أو اجتهادات، فكل ذلك مقبول إذا كان نتاج علم وفحص ودراسة، ودون ذلك يعد تطاولاً واعتداءً على حريّة الآخرين فيما يعتقدون، وعندي أنّ المجتمعات التي تعاني من الاضطهاد الفكري هي التي تتسم بالتعصب وغيبة العلماء وتعملق المدعين والحمقى. فللتعبير عن الرأي مائة باب يعصم صاحبه من الإطاحة بالآخر أو ازدراء معتقداته، وقديمًا كانت الفرق الإسلامية تتساجل وتتناقش، ومعيار صدق المتساجلين هو صحة آرائهم هو البرهان والحجة، وفي العصر الحديث ظهرت العديد من النزعات النقدية التي وصلت إلى حد الاجتراء؛ مثل: إعلان إسماعيل أدهم لإلحاده في رسالته «لماذا أنا ملحد؟»، وما جاء في كتاب طه حسين في «الشعر الجاهلي»، وفي كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم». ولما كان العقل الجمعي القائد تتوفر فيه الحكمة والمعرفة والقدرة على التناظر والتساجل لم يتعرض أولئك الذين اجترأوا أو باحوا بأفكارهم إلى قمع أو إرهاب، فقد ردّ على إسماعيلَ أدهم أحمدُ زكي أبو شادي في رسالته «لماذا أنا مؤمن؟»، ومحمد فريد وجدي في «لماذا هو ملحد؟» وغيرهما، وتفاصيل ذلك تجدها في كتابي «ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد». أما كتابا «طه حسين» و«علي عبد الرازق»، فقد قُوبلا بعشرات المقالات والكتب النقدية، وجميعها لم يحرّض على قتل صاحبيهما أو التنكيل بهما، بل احتكم الخصوم إلى القانون ولائحة الأزهر.
والمقصود مما أوردناه هو: أنّ المجتمع آنذاك كان شاغلاً بالعلماء القادرين على التساجل والتناظر. أما في أيّامنا هذه، فما أسهل على المتخاصميْن إلا تبادل الطعون والشتائم والبذاءات، فهذا يكفّر، وذاك يتّهم الآخر بالجهل والتخلف.
وخلاصة القول: إن حريّة الاعتقاد وحريّة الفكر، بل وسائر الحريّات تحتاج إلى وعي في الممارسة، وإلاّ أصبحت فوضى، والوعي يتمثل في ضبط النقود، فليس من حق الجاهل التصدي لأمور تخرج عن نطاق درايته ودراسته.
أمّا الحديث عن علاقة الثابت والمتغيّر، فله ضوابط وقواعد. فالثابت عند الأصوليين هو المقطوع بصحته وثبوته ومعناه ودلالته من النصوص، وهو الواجب والضروري من العبادات، وهو المتصل بأصول الإيمان والإسلام في العقيدة، ودون ذلك فهو متغير ومتحوّل، ومن ثم يُعمل فيه العقل بالاجتهاد والتأويل، ويؤخذ على المتطرفين قلة بضاعتهم في هذا المضمار؛ فهم يخلطون بين إجماع الفقهاء والثابت والشرعي، وإذا نظرنا للإجماع في حد ذاته، فإننا لن نجده في تاريخ الفكر الإسلامي قد تحقق إلا على ثابت في العقيدة أو العبادة، ودون ذلك من أحكام فقهية قد اختلفوا حولها، ولم يكفر بعضهم البعض؛ وذلك لتيقنهم أنهم مجتهدون ومجددون. أمّا المقلّد، فقد يقع في معظم الأحايين في شرك التعصب وفي حلبة المصارعة التي تنتصر بغير ضابط؛ لما تعتقد في صحته، وعندي: لو ميّزنا في ثقافتنا الدينيّة وأحاديثنا ومناقشاتنا بين الثابت والمتغير لقضينا على ظاهرتين خطيرتين؛ هما التطرّف والإلحاد؛ فصاحبا الظاهرتين يتوهّم القضية ويدافع بغير فهم عن موضوع لا أصل له في الشرع ولا في الدين، ولكّنه موروث، أو قال به مشهور فظنّه الناس أنّه جزء من الدين.
ولعل الخلاف بين الفقهاء حول الناسخ والمنسوخ يساهم بحجم كبير في هذه القضية؛ أي نسخ السنّة للقرآن؛ فالمقصود بذلك - عند الجمهور - أنّ السنّة هي الشارحة والمكملة والموضّحة للأحكام التي وردت في القرآن. أمّا النسخ بمعنى الإلغاء التام، فهو مختلف عليه عند الشافعية، فلا يجوز نسخ حكم بخبر الواحد، ولا يجوز أيضًا نسخ حكم المتواتر أو مؤكد عليه في القرآن، ويعني ذلك أنّ الفقهاء قد جوّزوا، والتجويز لا يعني الوجوب، والحكم فيه احتماليّ، ويرجع الجواز إلى عدم الدراية بتاريخ رواية الحديث، هل هو أسبق من الآية المنسوخة، أم هي الأسبق؟ فالنسخ لا يجوز إلاّ بعد حكم شرعي قد استقر، والمتطرّفون يجعلون الجائز واجبًا، والمؤول حقيقيًّا، وهكذا يحدث اللغط دون دراية وعلم.
أقول: إنّ هناك قضايا شرعيّة تحتاج لفحصها الإلمام بعلوم القرآن وعلوم السنّة والفقه المقارن، ومن يجهل تلك العلوم لا ينبغي عليه أن يتصدى لا للدعوة، ولا للفتوى، ولا رئاسة الجماعات؛ لأنه بذلك يكون ضالاًّ ومُضّلاً.
- هل يعد التطرف الديني عدوًّا للإبداع بكافة مظاهره الأدبي والفني، وهل هناك حوادث واقعية محدّدة ضدّ المبدعين في البلاد الإسلامية؟
لم تعد المعاجم اللغويّة والاصطلاحيّة عندها الجواب الكافي على معاني الألفاظ والمصطلحات ودلالاتها؛ فالمبدع والمبتدع كلاهما قد أتى بالجديد والمستحدث والطريف، وعليه لا يمكننا الحكم على الأعمال البديعة أو الأقوال المبدعة إلا استنادًا على المعاني الإجرائية في الواقع المعيش، تلك المعاني التي تستمد دلالتها من ما تحدثه الأعمال من أثر في المجتمع، فأعتقد أنّ الفارق بين المُبدِع والمبتدع شأن الخلاف بين الممتاز والمخالف، فإننا لا نقول إنّ هذا العمل وصل إلى درجة الإبداع إلا إذا كان متقنًا، ويحمل بين طيّاته الجِدّةَ والجودة، الأمر الذي يجعل المتلقي يستحسن ما فيه من فنّ وجمال، وعلى قريب من ذلك نجد الأعمال المقوّمة والناقدة والمستحدثة التي تشكل ثورة على المألوف، وهي - بطبيعة الحال- مفارقة للعقل الجمعي، أو إن شئت قل: صادمة له، ولكن ذلك لا ينقص من كونها إبداعًا؛ لما تتميّز به من دقة، وتتفرّد به من إتقان.
أما التطرف، فيأتي من مردود الأعمال التي لا ترمي إلا للمخالفة وتقليد الغريب ونقض كل الثوابت دون هدف إصلاحيّ؛ فالدعوة للعريّ مثلاً في الأعمال الأدبيّة أو تعمّد إظهار الفحش والمجون في الأفلام وفي الأغاني وفي الصور والتماثيل؛ كل ذلك لا يعدّ إبداعًا، بل هو تطرّف وإفراط في استخدم الحريّة؛ يؤدّي حتمًا إلى تفريط وتطرّف مضاد؛ يريد الحجر على الفنون كافة، بل ويحرمّها.
وأعتقد أنّ للفن رسالة تكمن في الارتقاء بالأذواق وتهذيب الحسّ وتدعيم الأخلاق، وأنّ أية ثورة في هذا الإطار تكون محمودةً، وينبغي الدفاع عنها؛ فكلام طه حسين أو علي عبد الرازق - على سبيل المثال - لا يمكن إدراجه ضمن الإبداع من جهة، ولا الأعمال الشاذة الرّامية لإشعال نار الخلاف في المجتمع من جهة أخرى؛ فقول طه حسين أنّ قصة بناء الكعبة وإسماعيل في القرآن لا تكفي لتكون دليلاً في سياق العلم، فهو قول قد استمدّه من منهج ديكارت من جهة، ومن كتابات المستشرقين، ومنهم مارجليوث من جهة أخرى. فالمقصود الذي صرّح به الكاتب: أنّ القرآن كتاب لا يمكن الشك فيه عند المسلمين، ولكن ميدان العلم يجمع بين المسلم وغير المسلم، وعلى ذلك: فإنّ حجيّة القرآن لا تكون مطلقة في هذا السياق.
أمّا علي عبد الرازق، فقد ذكر ضرورة فصل الدين عن سياسة الدولة، وأنّ الخلافة مجرّد شكل من أشكال نظم الحكم، وهو في هذا لم يكن مبدعًا ولا مبتدعًا، فقد ذهب أصحاب جماعة الاتحاد والترقي الطورانيّة منذ عام 1255هـ إلى مثل ذلك، ثم مقالات عبد الحميد الزهراوي ومحمد حسين هيكل والكماليين قد نزعت جميعها إلى نفس المنزع، غير أن الجمهور قد هاج وماج على الكتابين بدافع الخلافات السياسيّة بين القصر وحزب الوفد والأزهر من جهة، وحزب الأحرار الدستوريّين من جهة أخرى.
أما ما نجده الآن من اعتراضات على بعض القصص والروايات والأعمال التليفزيونية والسينمائية وحملات التكفير وفتوى التحريم، كل ذلك لا أعده في سياق نقد الأعمال المبدعة أو الغيرة على الثوابت الأخلاقية؛ وذلك لأننا نعيش في عالمنا العربيّ في طور من العبثيّة والفوضى والعشوائيّة، والإبداع - بطبيعة الحال - أبعد ما يكون عمّا نحن فيه.
ومن أشكال التطرّف أيضًا القراءات والتأويلات؛ فقد كُفِّر نزار قباني؛ لأنه استعار صورة المرأة وجعل منها رمزًا لهموم الأمّة وقضاياها، ووُصِمت أمّ كلثوم بالعهر؛ لأنّها غنّت قصائد الحبّ والعشق، وكاد نجيب محفوظ أن يُقتَل؛ لأنّه كتب قصة «أولاد حارتنا»، وصودِرَ كتاب «ألف ليلة وليلة»؛ لأنه يروي بين ما يروي ما كان يحدث في المخادع.
أقول: يجب التفريق بين الأعمال الفنيّة التي تقدّم رؤية وإن اختلفنا معها، والأعمال الأدبية الفنيّة الشاغرة من الأدب والفن؛ فالأولى يجب التعامل معها بالنقد، والثانية بمعايير جودة الفنّ وبالقانون الذي يحافظ على أخلاق المجتمع.
- أين نحن من فقه الاختلاف وأدب الحوار الذي حث عليه ديننا الحنيف في الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة، وكيف يتسنى لنا الخروج من نفق الأحادية واختزال الآخر، ومن ثم معاجلة التطرف ومقاومته؟
أكرّر: أنّ العالم والعارف والحكيم والواثق هو القادر دون غيره على إدارة الحوار والتساجل والنقاش؛ وذلك لأنّ هدفه هو الوصول إلى الحقيقة، وقد استمد الأقدمون من أدب الاختلاف في الثقافة الإسلامية نهجهم في التناظر، وميّزوا بين الاختلاف بين العلماء الذين يتبعون منهجًا في النقاش - يحتكمون فيه للحجة والبرهان وصحة الخبر- والمخالفة في الرأي دون استنادٍ إلى حقيقة أو مبدأ أو حجة، وعدّوا الثاني ضربًا من ضروب الحمق والثرثرة والمغايرة وادّعاء العلم.
وللاختلاف عند الأصوليين ضوابط نوجزها في:
- التزام الحيدة والموضوعيّة في طلب الحقّ.
- الابتعاد عن القطعيّة في إطلاق الأحكام، واعتبار أنّ الآراء المطروحة مجرّد اجتهادات يُصطفى منها الأصلح للواقع المعيش.
- قبول حجّة المناظر دون تحرّج، والاعتراف بالخطأ أو الجهل أو التهافت إذا ما ثبت ذلك.
- عدم إغلاق باب الاجتهاد ما دام النّقاش انتهى إلى درجة الترجيح والجواز.
- الحرص على الانتهاء من مجالس اختلافاتهم إلى اتفاق؛ لا يُذَمّ فيه الرأي الوجيه، ولا يُعاب فيه الاجتهاد المحمود، ولا يُمَجُّ إلا التعصّب والجمود والعنت.
وكما رأيت: إنّنا نحتاج إلى الأخلاق والعلم؛ لتستقيم مناقشاتنا، وتعلو مناظراتنا، وفي النصف الأول من القرن العشرين دارت عشرات المناظرات حول قضايا النهضة والعلم والمرأة والتجديد والسياسة والأدب والفنّ، وكان الجميع يدلو دلوه، ولم نسمع منهم ما يتردّد الآن: «أقول قولاً واحدًا»، و«إنّ هذا الرأي خطأ وصاحبه مأفون»، وغير ذلك من البذاءات التي تؤكد جهل المتساجلِين، وافتقارهم إلى أدب الاختلاف.
مرحبًا باختلاف العلماء الذي نفتقده، وسحقًا لتلك اللجاجة والصلف الذي نجده في جدل وصخب المتعالمين والحمقى، فإذا أردنا أن نعالج التطرف علينا أن نصغي لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «اختلاف أمّتي رحمة».