العنف والتكفير من الخوارج إلى الجماعات المسلحة
الأربعاء 28/مارس/2018 - 06:14 م
طباعة
يحاول الباحث جمال العزاوي في هذا العمل البحثي المعنون "خطاب العنف والتكفير عند فرقة الخوارج الكلاميَّة وانعكاساته على الحركات الجهاديَّة المعاصرة" والذي نشر في الملف البحثي "التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي، توسيع النقاش الدّائر حول معضلات التطرُّف الديني الذي يمكن عدّه من بين الإرهاصات الأولى التي كرَّست أزمة التأخر الحضاري العربي- الإسلامي في شموليته، وحسب الباحث فإنَّ القيام بهذه المهمّة البحثيّة قد فرض عليه مقاربة إشكاليّة التطرُّف الديني وفق منظور الأمد الطويل؛ وذلك بغية فهم كيفيات تشكّل سياقاتها التاريخيّة وانعكاساتها على حاضرنا الآني.
ومن هنا اهتم البحث بالقراءة الاركيولوجية للبني النصّيَّة العميقة لخطاب العنف والتكفير الذي أسّست له فرقة الخوارج منذ صدر الإسلام. وذلك ليتسنّى لنا توصيف انعكاساته على الحركات الجهاديّة المعاصرة، التي اتخذت من خطاب الخوارج مرجعيّة فكريّة وخلفيّة إيديولوجيّة استندت عليها من أجل تبرير الخطاب التكفيري والممارسة الجهاديّة المشرعِنة لمُصادرة حق الآخر في الحياة.
وعلى هذا الأساس، انطلق الباحث من اللحظة التأسيسيّة التي أدَّت إلى تشظي الداخل الديني والسياسي العربي-الإسلامي؛ أي لحظة انقلاب الخلافة إلى مُلك عضوض -حسب العبارة الخلدونيَّة- التي أسفرت عن ظهور الصراعات المذهبيّة والكلاميّة، ناهيك عن الاحتراب السياسي المتدخّل الفعلي في تجذير خطاب العنف والتكفير، الذي ما زال له حضوره الحدثي المُعلن من داخل المجال السياسي العربي-الإسلامي المعاصر. ثمَّ بعد ذلك بين الباحث انعكاس خطاب الخوارج التكفيري على البنية الذهنيّة للحركات الجهاديّة المعاصرة؛ باعتبارها بنية ذهنيّة ظلّت أسيرة إيجاد آليّات استدلاليّة شرعيّة لإقامة الدليل على حتميّة إعادة تأسيس دولة الخلافة على منهاج النبوَّة.
ووفق الباحث قد بررت مختلف الفرق الكلامية ممارساتها لخطاب العنف والتكفير، وأضفت عليه طابع المشروعيّة والصالحيّة العقديّة والتاريخيّة، من منطلق ادعاء احتكارها لسلطة الدفاع عن المبادئ الإسلامية (الخالصة) التي انحرفت من ـ منظورها ـ عن مساراتها الصحيحة، والتي لن تستقيم إلاّ من
خلال إقامة جدلها الكلامي واحترابها العقدي والسياسي على أساس كونها المعبّر الحقيقي عن جوهر مضامين منطوق الخطاب القرآني، والضامن الفعلي لأهلية الانتساب إلى النهج المحمدي القويم، من خلال هذه المنطلقات، أضحت الثيمات المركزيّة الناظمة لقول الفرق الكلامية الإسلامية مشتقة تعنيف المخالف وتكفيره، بل وسلب حقه في ممارسة فعل الحياة. علاوة على تقسيم المجال السياسي الإسلامي إلى دارين تجمع بينهما عالقة تناحر: دار الكفر التي يجوز محاربتها وتحريم القعود مع أهلها؛ كونهم يمثلون الفئة الباغية، ودار الإسلام المعبّر أهلها عن حقيقة الدين ومبادئه وقيمه المثلى. وهو ما يؤكد بالملموس التاريخي على أن أزمة الخلافة قد أحدثت قلقا في الوعي الإسلامي، عبَّر عن ذاته من خلال تجليَّات مختلف التناقضات التي أفصحت عن ذاتها موضوعيا ً من داخل الصيرورة التاريخيَّة للخلافة الإسلامية في شكل احتراب سياسي وعقدي مميت.
وحسب الباحث أيضا وانطلاقا من المبدأ الكلامي ذاته لفرقة الخوارج، المتمثل في: (لا حكم إلاّ لله)، ذلك المبدأ الذي شكل النواة الأولي لتبلور مختلف المقدمات الكلامية التي شرعت من خلالها لخطابات وممارسات العنف والتكفير، أسسوا لخروجهم على الخليفة علي بن أبي طالب، وعملوا على تكفيره وقت حصول معركة صفين، المعركة التي شهدت مواجهة عنيفة بين شيعة علي ومعاوية، انتهت برفع جيش معاوية للقرآن فوق أسنة الرماح بهدف إنهاء القتال، من أجل تحكيم مضامين منطوق الخطاب القرآني بين الخصمين. وعلى أساس
رفض الخوارج لهذه الآلية السياسيَّة التي قبلها علي، أجمعوا على تكفيره، واعتبروه غير ملتزم بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بسبب نهجه منهج تحكيم الرجال في كتاب الله؛ ذلك المنهج الذي يعني من منظورهم الوقوع في المحظور الديني المتجسد في عدم الحكم بما أنزله الله في حق (الفئة الباغية) التي يمثلها معاوية وشيعته. ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إن واقعة التحكيم قد كرست المستندات النظريَّة لفرقة الخوارج الكلامية، بحيث بررت عن طريقها مجمل عمليَّات الاستعراض، أي قتل كل مسلم لا يرى رأي الخوارج
بغير تمييز متى وجدوه في طريقهم، مبررين ذلك بكونهم لا يمارسون سوى واجبهم الديني المتمثل في جهاد الكفار والمشركين أهل (الفئة الباغية)، بهدف الحفاظ على قدسيَّة المبادئ الإلهية، وتطهير المجال السياسي والعقدي الإسلامي من دنس الكفر والظلم، حتى لو كان ذلك على حساب سلب حق الآخر في ممارسة فعل الحياة.
وانسجاما مع المقدمات الكلامية لفرقة الخوارج يكتشف الباحث ان مجمل الحركات الجهاديَّة المعاصرة قد أسست لفعلها بخطاب العنف والتكفير ـ كرد فعل مباشر ضدا على نتائج عاملين أساسيين: تمثل الأول في الإصلاحات السياسيَّة التي قام بها كمال أتاتورك القاضية بالإلغاء التام والتشطيب النهائي للخالفة العثمانيَّة سنة 1924 .ذلك الإلغاء الذي وجدوا فيه انحرافا عن جوهر
مبادئ الممارسة السياسيَّة في التاريخ الإسلامي، الذي يتمثل ـمن منظورهم ـ في مفهوم (الحاكميَّة لله).
وتجسد العامل الثاني في محاولة تدويل فعلها الجهادي، وذلك من خلال استئناف انخراطها في سياقات الصدام الحضاري العالمي، القائم بين المسيحيَّة والإسلام، خصوصا وأن العلاقات بين الإسلام والمسيحيَّة كانت غالبا عاصفة،
مما يدل على أن الحركات الجهاديَّة المعاصرة، باتت فاعلا استراتيجيَّا على المستويين المحلي والدولي، لهذا يمكن تأطير مختلف ممارسات العنف والتكفير التي لازمت الجماعات الجهاديَّة المتطرفة ضمن إطار عام يتمحور حول إعادة تأسيس (صحوة إسلامية) تعيد تكريس موقعة المد الإسلامي من داخل الصراع السياسي القائم بذاته موضوعيَّا بين منظومتي (الشرعيَّة)، والدولة العلمانيَّة باعتبارها وليدة نظم استعماريَّة تستند على منطلقات وضعيَّة برانيَّة بعيدة كل البعد عن (تحكيم شرع الله) في القضايا السياسيَّة للأمة العربيَّة-الإسلامية.
وفي الأخير يصل الباحث الى عدة نتائج من أهمها وانطلاقا من تفكيك خطاب العنف والتكفير عند فرقة الخوارج الكلامية، وتوصيف كيفيَّات انعكاساته على الحركات الجهاديَّة المعاصرة، وذلك عن طريق استحضار أهم النصوص المؤسسة لفعلها الحركي الجهادي، تبيَّن أن كلا الخطابين قد تأسسا من داخل سياقات تاريخيَّة مختلفة، لكن ما وحد بينهما هو معضلة التطرف الديني، الذي شكل أحد أبرز العوامل التي أفرزت معضلات الاحتراب السياسي والعقدي، الذي مازال له حضوره الحدثي وجاذبيته الإشكالية والمفاهيميَّة إلى حدود اللحظة الآنية من داخل مجالنا التداولي العربي-الإسلامي المعاصر.