«أبوالأشبال» قاهر «خوارج العصر»
الإثنين 21/مايو/2018 - 04:51 م
طباعة
الأزهر الشريف علم الوسطية في العالم الإسلامي، وضمانة الاعتدال الفكري في مواجهة الحركات التكفيرية المتطرفة، برز دوره قديمًا مع ظهور بوادر التكفير والاغتيالات السياسية على أساس ديني على يدِّ جماعة الإخوان، فكان الأزهر وعلماؤه حجر الزاوية في صرح الدفاع عن الوسطية في مواجهة هذا التطرف، ويُعدُّ الشيخ «أبوالأشبال» أحمد محمد شاكر (1892م-1958) أحد أبرز من قاموا بهذا الدور في القرن العشرين، وأول من أطلق على جماعة الإخوان مصطلح «خوارج العصر».
فطن «شاكر» مبكرًا لخطر جماعة الإخوان، وفق مبادئها التي أعلنها مؤسسها حسن البنا 1928، فأعلن رأيه في الجماعة بكلِّ صراحة وقال: «حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه المسلمين الذين قلبوا الدعوة الإسلامية إلى دعوة إجرامية هدامة، ينفق عليها الشيوعيون واليهود، كما نعلم ذلك علم اليقين».
ولم تكن مقولة شاكر إلا استشرافًا للمستقبل نتيجة معرفة عميقة بطبيعة وتحليل أفقي لمنهجهم الديني، إلا أن رأيه في الجماعة تجسد على أرض الواقع بعد قضية اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا -رئيس مجلس الوزراء المصري الأسبق- سنة 1949، من قِبَل جماعة الإخوان، بعد قراره بحلِّ الجماعة (ادعوا أنها عملية فردية وليست بناءً على فكر الجماعة).
وقد كان لـ«شاكر» موقف واضح ورأي خاص حول الحادث، فكان أول من قال عنهم -وهو قاضٍ وعضو بالمحكمة العليا (ألغيت فيما بعد)- أن جماعة الإخوان هم «خوارج العصر»، وقال في أحد مقالاته في مجلة «الهدى» التي جمعت فيما بعد في كتاب: «أما القتل السياسي الذي قرأنا جدالًا طويلًا حوله فذلك شأنه أعظم، وذلك شيء آخر يقتل مطمئن النفس راضي القلب، يعتقد أنه يفعل خيرًا.. هم الخوارج.. كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب الرسول محمد.. وما فعله هؤلاء الخوارج بقتلهم لـ«النقراشي» يُعتبر خزيًا واستحلالًا للدم الحرام».
ورفض «شاكر» ما نفذته الجماعات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان من عمليات اغتيالات، قائلًا: «هذا حكم القتل (السياسي)، وهو أشد من القتل العمد الذي يكون بين الناس، والقاتل قد يعفو الله عنه بفضله، وقد يجعل القصاص منه كفارة لذنبه بفضله ورحمته، وأما القاتل (السياسي) فهو مُصرٌّ على ما فعل إلى آخر لحظة في حياته، يفخر به ويظن أنه فَعَل فِعل الأبطال! كما أن الاغتيال السياسي مُحَرَّم في الإسلام، فقد قال النبي (إِنَّ الإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ، لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ)».
وشدد «شاكر» على خطأ العلماء الذين يدافعون عن الجماعات التي تُمارس القتل السياسي، فيقول: «وعلى مَنْ يُدافع عنهم، ويريد أن تتردى بلادنا في الهوة التي تردت فيها أوروبا بإباحة القتل (السياسي) أو تخفيف عقوبته، فإنهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون، والهدى هدى الله».
الإخوان بين «الغزالي» و«شاكر»
حاولت جماعة الإخوان الهجوم على «شاكر»، نظرًا لفتاواه حول حرمة الانضمام إليها، وتجريم ممارساتها، فكان أن صَدَّرت الشيخ محمد الغزالي (1917-1996) للرد على «شاكر»، خاصة أنه أحد أشهر الذين انضموا إلى جماعة الإخوان، مع مكانته العلمية الكبيرة، فقد كان وكيلًا لوزارة الأوقاف، وقد اعترض في بادئ الأمر اعتراضًا شديدًا على موقف «شاكر» من جماعة الإخوان، وأورد ذلك في كتابه «من هنا نعلم»، فقال: «نعرف أنَّ الشيخ أحمد شاكر القاضي بالمحاكم الشرعية أصدر فتوى بأنَّ الإخوان المسلمين كفار، وأنّ من قتلهم كان أولى بالله منهم «كذا»، والرجل الذي يصدر هذه الفتوى كان ينبغي أن يُطرد من زمرة العلماء، ومع ذلك فلا نحسب أحدًا أجرى معه تحقيقًا».
إلا أن «الغزالي» نفسه تراجع عن ذلك بعد سنة 1952، حين نشب خلاف بينه وبين حسن الهضيبي، (المرشد الثاني لجماعة الإخوان)، خرج على إثره «الغزالي» من الجماعة، وألَّف كتبًا يتوافق فيها مع ما ذهب إليه «شاكر» في توصيف جماعة الإخوان، بل إنه وصفهم بــ«الماسونيين»، ومن أبرز كتبه بعد تراجعه عن الانضمام للإخوان كتاب «من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث».
«شاكر» وخوارج كرم القواديس
لم تنتهِ رحلة «شاكر» مع الجماعات التكفيرية بوفاته عام 1958، فبعد نحو 6 عقود، خرجت جماعات تكفيرية تتمسح بفتاوى «شاكر» لتبرر بها أفعالها الإرهابية، فعقب تفجير العناصر الإرهابية التكفيرية لكمين «كرم القواديس» في سيناء 24 أكتوبر 2014، خرجوا في مقطع مصور لتبرير فعلتهم، متمسحين بفتوى لـ«شاكر»، يقول فيها «مما يلعب به المُضلِّلون في عصرنا هذا، يجعلونها عذرًا أو إباحةً للقوانين الوثنية الموضوعة»، في إشارة منه لمن يرضى بقوانين الاحتلال الإنجليزي وقتها.
وذكر خوارج كرْم القواديس جزءًا مقتبسًا من كلام «شاكر»؛ حيث أوردوا قوله «أما التعاون مع الإنجليز بأي نوعٍ من أنواعِ التعاون قلَّ أو كثُر، فهو الرِدَّة الجامحة، والكُفرُ الصراح، لا يقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول.. سواء أكان ذلك من الأفراد أم الحكومات أم الزعماء؛ كلُّهم في الكُفر والرِدَّة سواء، تتضمن الخروج على الحاكم الظالم».
وبالرجوع إلى المصدر تبين اقتباس التكفيريين واجتزاؤهم لكلام الشيخ وتركهم لبقية كلامه، وفيه: «إلاَّ من جهِل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب واتخذ سبيلَ المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوبَ عليهم، إن أخلصوا من قلوبِهم لله لا للسياسةِ ولا للناس».
كما ادعى التكفيريون أن «شاكر» تكفيري، وأنهم أخذوا هذا المنهج من كتاباته، وكثيرًا ما يوردون اقتباسات من كتبه مجتزأة من سياقها.
ولد «شاكر» في القاهرة في 29 يناير 1892، لوالد من أكبر مشايخ الأزهر في بداية القرن العشرين، فقد كان وكيل الأزهر 1900، ولم يمكث «شاكر» في القاهرة كثيرًا، ثم سافر مع والده في الثامنة من عمره إلى السودان (كانت تابعة لمصر حينها)، بعد أن عين قاضي قضاة السودان، فالتحق بالتعليم المحلي في السودان، إلى أن عاد مع والده مرة أخرى إلى مصر سنة 1904، فألحقه أبوه بمعهد الإسكندرية الديني الذي تولى شاكر الأب مشيخته.
ثم عاد إلى القاهرة مرة أخرى عام 1909، ليلتحق بالجامع الأزهر، حتى نال شهادة العالمية (تعادل الدكتوراه حاليًّا) سنة 1917، وقد وفرت له هذه الرحلات العلمية ونشأته في رعاية والده الدينية اطلاعًا ضخمًا على رسائل وكتب ومصنفات العديد من المشايخ بتوجهاتهم العلمية والفكرية ورصيدهم المعرفي المختلف.
ودرس «شاكر» خلال هذه الفترة عدة فروع علمية مختلفة، مثل علم أصول الفقه على الشيخ محمود أبو دقيقة، وقد كان عضوًا بهيئة كبار العلماء، كما أخذ عن والده طوائف شتى من العلوم، مثل تفسير البغوي، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وبعض من صحيح البخاري، وفقه الهداية في الفقه الحنفي، وقد أولى علم الحديث منذ بداياته الأولى اهتمامًا خاصًّا، فطلب العلم على يد كبار شيوخ الحديث في الأزهر، أمثال: السيد عبدالله بن إدريس السنوسي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ شاكر العراقي، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ سليم البشري.
عمل شاكر فور تخرجه في التدريس، إلا أنه لم يستمر في هذه المهنة أكثر من أربعة أشهر، ليعمل في سلك القضاء قاضيًا للمذهب الحنفي بالمحكمة الشرعية، حتى أحيل للتقاعد سنة 1951.