جوهر التجربة الدينية
السبت 02/فبراير/2019 - 01:34 م
طباعة
تظل الإجابة على مثل هذا السؤال :"أين الطريق الصحيح؟"، محيرة ومقلقة للغاية، وخاصة في مجال الأديان، في البداية حاول الإنسان أن يصل إلى خالق الكون، المدبر الأول، والعلة الأولى، وقطع في ذلك شوطا كبيرا، وجهدا مضنيا، حتى هؤلاء الذين قالوا بالانفجار العظيم، الذي نتجت عنه التشكلات الكونية، وتطورت للصورة الآنية، تماسوا مع ذلك أيضا، لكن الفريق الذي آمن بتلك العلة الأولى حاول أن يصوغها في قالب معين، حاول أن يقدم براهين الطاعة لذلك الخالق، فنشأت اختلافات كثيرة بين البشر عُرفت بالدين، تلك العلاقة الخاصة بين الإنسان وما يعتقد في ألوهيته، أو هو الأفعال التي تعبر عن توق تجاه اللانهائي.
لم يساعد ذلك الاختلاف البعض على الإيمان بروح التعددية، ليؤسسوا بذلك مبادئ ديمقراطية عظيمة تسهم في إقامة الأوطان، لكنهم تعصبوا وتحزبوا لاختلافاتهم، في حين أن المقصد في البداية كان موجها ناحية إرضاء الرب، لكن الصورة المعينة التي انحاز لها البعض، قد تختلف في ظاهرها وتكاد تتشابه كليًا في الجوهر، الأمر الذي جعل فراس السواح المفكر السوري، الباحث في تاريخ الأديان، يرى على مدار دراسته لكل الأديان القديمة والحديثة، التي رافقت الإنسان، منذ تشكل وعيه على الأرض، أن التجربة الدينية للبشر واحدة، وفصل السواح وجهة نظره حول حقيقة الأديان في كتابه الرائع "دين الإنسان".
إن المراقب للأديان، يجدها تحاول عن طريق طقوس معينة، يؤمن بها أتباعها، إحلال السلام الذاتي والنفسي بداخلهم، جموع المؤمنين في بقاع الأرض، يشعرون براحة بال كبيرة؛ عند الفراغ من طقوس عباداتهم، أيضا المنظومة التربوية والأخلاقية التي تنشرها الأديان، في حقيقتها تدعو للخير وتحث عليه، وتنتصر للمظلوم، وتنحاز لقيم العدل الجمال، وفي مجموعها تبحث عن الخلاص من شرور النفس، والبراءة من الخطايا يوم مواجهة الرب.
ظهرت خلال التاريخ عدة تجارب، تأخذ على عاتقها هذا النهج من أجل إحلال سلام دائم للبشرية، أبرزها المقولة التي تمثلها أكثر من شخص "الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق" فكل إنسان لديه القدرة الذاتية التي يتواصل بها بشكل عرفاني وصوفي مع عالم غيبي، فعندما يؤمن الإنسان بهذه القدرة والتنوع الثري القائم على الخبرة البشرية بصورة كبيرة، يمكنه أن يستوعب تجربة محيي الدين بن عربي، ففي أبيات مشهورة له يقول: "لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني/ لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ / فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ/ وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ / وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن/ أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ / ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني" فكلماته نصيحة ألا يتعصب الإنسان، وأن يصبح صدره متسعا وقابلا لأداء حقيقة الدين، وهي التوجه الحق ناحية الخالق والتسليم له، ساعتها يصبح صدره بمثابة كعبة عابد ودير الرهبان، لكنه قابل في سبيل ذلك عناء شديدا من قبل المقلدين أو المعمقين للخلافات.
عمل أتباع الديانات بدأب كالعادة على تعميق الخلافات، وربط الشكلي والسطحي بالمضمون بصورة لا تجعلها تنفصل في عقل المقلدين، وكان الشيخ ابن عربي نموذجًا رائعًا في التعرف على حقيقة الدين، فهذه الأديان في ظاهرها صور وفي جوهرها متقاربة للغاية، كي تكون تعبيرا صريحا عن التوق البشري للانهائي والرغبة في رضا الله، وليس من المنطقي أن يضع الإنسان نفسه وراء العابرين للطرق، ويمضي مقلدا دون أن يتساءل عن ماهية الطريق، ثم يستهلك طاقته الخلاقة في الدفاع عن تصورات بشرية وخبرات فردية أخذت شكلا دينيا.