لم يكن القتل على مر العصور حلا مناسبًا لأزمات الرأي المخالف، لكنه في الحقيقة ينجح في عدة أشياء، ويفشل في شيء مهم ومؤثر، فهو ينجح في معاقبة الشخصيات الخارجة عن الجماعة، أو المغردة خارج السرب، لأنه ببساطة ينهي حياتهم، ليقضي على محاولات التوقف وطرح التساؤلات، وإعلان الرأي صراحة على الجمهور، وإن سبب صدمة، أو خلق مشكلات.

الموت بقسوته وسطوته يقطع صوت المتكلم، فلا يستطيع أن يبوح بمكنونه مجددا، في نفس اللحظة يُصدِّر القتل حالة من الرعب والخرس لهؤلاء الذين يفكرون في اتخاذ مسار البوح بآرائهم على العامة، ذلك يُعد تهديدا ضمنيًا، نستطيع أن نجد من يبلور فلسفة خاصة وجريئة، تخالف، وتصل حد المناقضة للمجتمع الذي يعيش به، لكنه لا يجرؤ على إعلانه تحسبًا من تلك التهديدات.

يفشل القتل في عزل الآراء التي قالها الشخص المرصود، بل يساعد بصورة كبيرة في نشرها أكثر، وتحريض الناس على الاهتمام بها، متسائلين: ما هي تلك الأفكار التي دفعت أشخاص للقتل؟ من المؤسف جدا أن يقتل الإنسان أخيه دفاعًا عن مجموعة أراء ومعتقدات يؤمن بها، فالبشر يستنزفون قواهم في الدفاع عن أفكار مغلفة بمبررات دينية أو سياسية غير منطقية.

كان القتل أو النفي من العقوبات التي طالت الكثيرين الذين باشروا حقهم الطبيعي في التعبير بحرية كاملة عن رأيهم المخالف، بدء من الفيلسوف الأول سقراط الذي واجه تهمًا بتغيير مفاهيم الشباب وتقديم فلسفة مغايرة للمجتمع، استحق عليها أن يقابل حكما بالإعدام، ووصولا للحادثة الأخيرة، قتل الروائي العراقي علاء مشذوب، حين اخترقت ثلاث عشرة رصاصة جسده على يد مجهولين، لتكون الطريقة مليئة بمشاعر الانتقام والجنون، ويقال أن السبب يكمن وراء توجيه انتقادات دينية طالت شخصيات ومؤسسات.

إن التاريخ العربي يزخر بمثل هذه الحوادث، فمن رواة الحديث الإمام النسائي، ألف كتابًا في فضائل الإمام علي، ورفض أن يحدث الناس عن فضائل معاوية بن أبي سفيان، فقاموا إليه فضربوه بالنعال، وأخرجوه من المسجد، وقيل أنهم طعنوه في خصيتيه حتى مات، وأيضا الحسين بن منصور الحلاج أخذوه وعلقوه على الصليب ومثلوا بجثته، وقُتِلَ السهروردي من المتصوفة، وظفر جماعة من أصحاب ضبة بن يزيد القرمطي بالشاعر الكبير المتنبي فقتلوه لأنه هجا صاحبهم، وعبدالله بن المقفع لقى نفس المصير، والجعد بن درهم الذي مات مذبوحًا، وغيرهم كثير.

وشهد التاريخ في بعض فتراته لحظات قوة تعامل فيها الناس والحكام مع الآراء الشاردة بحكمة، مثلما كان هناك العديد من الذين قابلوا مصائر عنيفة وقاسية في سبيل قناعاتهم الفكرية المكتسبة، نال آخرين -لكنهم قلة- حظ التمتع بالحياة، رغم ما يقولونه، وما يعتنقونه، فما وصل إلينا من شعر أبي العلاء المعري، الذي عاش في القرن الرابع والخامس الهجري،  يثبت أنه ضم رؤى فلسفية متمردة اتسمت بالحكمة، وإثارة الأسئلة حول ما قدمه الأنبياء، حتى قيل أنه لم يكن يؤمن بالنبوات وعاش ربوبيًا.

 اعتنق المعري كثيرا من المقولات المُشْكِلة، فهو ينكر استمرار عملية التناسل في ظل وجود عالم سيء وسوداوي، إن عملية الإنجاب تعتبر جناية كبيرة من الآباء على الأبناء، ثم بالغ في اعتزال الناس، وفي تفسير تلك الحياة قال الدكتور طه حسين في كتابه "مع أبي العلاء في سجنه": "ولكن أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار لا كما يريد الناس ويختارون".

ومن أشعاره يقول: "تواصل حبل النسل ما بين آدم/ وبيني ولم يوصل بلامي باء/ تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد/ بعدوى فما أعدتني الثؤباء"، وفي قصيدة أخرى يقول "هذا جناه أبي علي/ وما جنيت على أحد"، ويقول" "قضى الله أن الأدمي معـذب/ إلى أن يقول العالمون قضى/ فهنِّيء ولاة الميت يوم رحيـله/ أصابوا تراثا واستراح الذى مضى"، وهذا أقل ما ينقل عنه في مخالفته لفكر الجماعة.

وفي القرن الثالث الهجري، عاشت شخصية أحمد بن يحيي بن إسحاق الرواندي، الذي بدأ حياته بالانتماء لمدرسة المعتزلة، فدرس على أيديهم الفلسفة ، وتفتح عقله ناحية إدراك مشكلات الأديان وتناقضاتها، ثم خرج عن المعتزلة، ومال ناحية التشيع لفترة قصيرة، صنف خلالها مؤلفات تنتصر لمبدأ الإمامة، وترد على أخطاء المعتزلة، ويخرج عن ذلك كله لينحاز لفكرة تناقض مبدأ نزول الوحي مع فكرة ملكة العقل القادر على التمييز بين الحسن والقبيح، وتوجيه وإرشاد البشر للسلوك القويم، مع بقاء اعترافه بوجود الرب.

تحلى ابن الروندي بشيء من "الفهلوة" والطرافة، حين قبل طلبًا من صديق يهودي، بشأن تأليف كتاب يفند ما جاء به القرآن مقابل قدر من المال، فألف كتابًا سماه "الدامغ" وحينما نفد المال، وكان الرجل يعاني الفقر فقد ذهب للرجل اليهودي ينذره، إن لم يعطه مالا إضافيا فهو بصدد تأليف كتاب يدحض ما قاله في كتابه "الدامغ" ، فما كان من صديقه إلا أن أعطاه المال ليكف عن رغبته.

وتمتع كل من الشاعر أبي العلاء المعري والفيلسوف ابن إسحاق الرواندي بالحياة والعمر الطويل حتى تجاوزا الثمانين عامًا، ولم يتعرضا للتنكيل أو القتل.