تأسيس الإسلام الموازي: التصوف الشعبي في الأناضول
الخميس 01/أغسطس/2019 - 02:12 م
طباعة
حسام الحداد
يأتي كتاب "الإسلام الموازي في تركيا: البكتاشية وجدل التأسيس" الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، ليستكمل حلقات المركز لاكتشاف الإسلام في البلقان والأناضول، ولرسم الخارطة الأساسية للتدين الشعبي في تركيا والبلقان وروسيا. حيث ان الإسلام الشعبي في هذه المنطقة يحيطه الكثير من الغموض، ولكنه يحتوي على تفسير لكثير من التحالفات السياسية المعاصرة، ويساعد فهمها على تحليل ظاهرة الحركة الإسلامية التركية، والتيارات المحافظة، وعودة الإسلامات، وصعود وانهيار الدولة العثمانية والمعاني المختلفة للخلافة والسلطنة. ويتبقى بعد هذا الكتاب تناول الإسلام الشعبي بصيغته الأخرى الموجودة في المولوية والنقشبندية وهما الأوفر بالتأثير مع إضاءة على الحركات التحديثية التي عاشت في رحابها كالحركة الجديدية. وهذه المساهمات تصب في الوعاء الكبير الذي يتناسب مع دراسة الإسلام وانفعاله مع الثقافات والتقاليد والعادات البعيدة، ويرصد سير اندماجه مع التقاليد، وهذا يفتح الباب لقراءة جديدة دائماً، وتفسيرٍ مختلف يناسب العصور الجديدة، ويشرح الظواهر التي تستغلق علينا، كما يتتبع الميراث الاجتماعي لكل حركة مسلمة.
يعرض أحمد محمود محمد إبراهيم (الباحث المصري في التاريخ الإسلامي) في دراسته للتيارات الصوفية في التاريخ الإسلامي عموماً وتاريخ الأناضول خصوصاً. وفي المقدمات التمهيدية والتاريخية ركز الباحث على “الإسلام النصي” و”الإسلام الشعبي”. وقد رأى أن التصوف واجه معارضةً حادة من قِبَل الإسلام السُّني، إبان القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ثم شهد القرن الرابع (العاشر الميلادي) تحسنًا ملحوظًا لأوضاع التصوف والصوفية في البيئات السُّنية، حيث اتجه طائفةٌ من أعلام التصوف إلى التوفيق بينه وبين الفقه، مع التنظير المعرفي لمعالمه الرئيسة؛ فألَّف الطوسي (ت 378هـ/988م) كتابه “اللمع”، وصنَّف الكلاباذي (ت 380هـ/990م) كتابه “التعرف لمذهب أهل التصوف”، ودوَّن القشيري (ت 465هـ/1072م) الرسالة التي نُسبت إليه، وهي “الرسالة القشيرية”، فجاءت وصفًا وافيًا لتعاليم التصوف من وجهة نظر فقيه شافعي ومتكلم أشعري.
يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام الشعبي كان مشحونًا بألوان من البدع والهرطقات، وخصوصاً في إيران والأناضول، بسبب تداخل البيئات وامتزاج العادات وتلاقح الأفكار والمعتقدات. وقد قَرَن كولن تيرنر (Colin Turner) بين تسلل البدع والهرطقة إلى الإسلام وبين الغلو أو التطرف، فعرّف الغلاة بأنهم “أولئك الذين كانوا مسلمين اسميًّا، ولكنهم تبنوا عقائد هرطقية، إلى درجة تخرجهم عن نطاق الإسلام ذاته.
يعالج الباحث السياسة الدينية لسلاطين سلاجقة الروم في الأناضول لافتاً إلى أنهم أرسوا دعائمَ بنية قوية للإسلام السُّني في مدن الأناضول، واضطروا في سبيل تحقيق ذلك إلى استدعاء كثيرٍ من العلماء والفقهاء من إيران وسوريا والجزيرة، وتشجيعهم على الاستقرار بالأناضول في ظل رعاية الدولة؛ فلا جرم كان للعناصر العربية والإيرانية الوافدة دور حاسم في تشكيل حضارة الأناضول وصوغ صورة الإسلام السُّني بمدنها.
أوجدت السياسة الدينية التي اتبعها المغول في المشرق الإسلامي مناخًا متقبِّلاً لمختلف الميول والنزعات الدينية، الأمر الذي أفسح الطريق أمام نمو حركات الغُلُو الصوفي/الشعبي، وخصوصاً في إيران، ومنها انتقلت إلى بلاد الأناضول التي لم تنقطع هجرات القبائل التركمانية إلى أراضيها. وكانت تلك القبائل تدين بإسلام فارغ من المضمون (النصي/الفقهي)، متأثِّر بالأفكار الشامانية التي عززها الوجودُ المغولي.
وقد تزامن انتشار التصوف الشعبي مع ضمور “الإسلام النصي” وتآكل بُنَاه التقليدية، فانحسرت مفاهيم الشريعة، واعتزت الأقوام الرحل (وخاصة التركمان) بتقاليدها ونظم حياتها. وبعبارة أخرى فقد امتدت حركاتُ الغلو الصوفي ممتزجةً بأهواء شيعية واضحة في الفراغ الديني الذي صار إليه المشرقُ الإسلامي بسبب الغزو المغولي. ومن التقاطع بين التصوف والتشيع والغلو ومواريث الثقافات المحلية تكوّن ما سمي “التصوف الشعبي الهرطقي.
كما يتناول الباحث المصري في التاريخ الإسلامي أحمد عبدالمنعم العدوي في القسم الأول من المبحث تاريخ الدراسات البكتاشية، وقد روعي في وضعه أن يكون بمثابة دليل للباحثين العرب الراغبين في دراسة جانب من جوانب تاريخ أو عقائد تلك الطريقة الصوفية، ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السياسي والديني للدولة العثمانية.
أما القسم الثاني، فقد ألقى الضوء على تاريخ الطريقة البكتاشية، منذ النشأة وحتى الربع الأول من القرن العشرين. حيث تناول بالدراسة البكتاشية في مرحلة النشأة والتكوين، ثم في مرحلة الإمبراطورية، ثم محنتهم في عهد السلطان محمود الثاني. وأخيرًا تاريخ البكتاشية بين الحظرين، أي الفترة من عام 1826 إلى عام 1925.
عني القسم الثالث من الدراسة بإظهار علاقة تلك الطريقة بالإسلام بصفة عامة، وما إذا كان ثمة ديانات أخرى لعبت دورًا ما في تشكل عقائد وممارسات البكتاشية. والظروف التي أدت إلى اتخاذ عقائد وممارسات تلك الفرقة ذلك الاتجاه التلفيقي.
لقد عكس ذلك الخليط من المعتقدات والممارسات ذلك التأثر الشديد بديانات ومذاهب متباينة، انصهرت معًا في شكل عقيدة جديدة، كان الهدف منها -على ما يبدو- توحيد سكان الأناضول، مختلفي الأعراق والديانات والمذاهب واللغات، تحت راية واحدة.
فيما يلاحظ دوغان قبلان (أستاذ في كلية لاإلهيات في جامعة نجم الدين أربكان بقونيا )تركيا() أن هناك إرباك عميق في المجتمع التركي والطرف المعني بماهية العلوية والبكتاشية، ذلك لقلة المصادر. لأن هذه المسألة من الموضوعات الساخنة في السياسة التركية منذ بضع سنين. المنظمات العلوية والبكتاشية تتقدم بطلبات شتى من الحكومات التركية، من ضمنها إعطاء الوضع الحقوقي لمراكزهم الدينية “جم خانه” (Cemevleri) ودفع الرواتب لشيوخ العلويين “ده ده” (Dede ) الذين يخدمون في تلك المراكز… إلى آخره من الطلبات.
يتحدث البحث عن مشروع نشر مصادر العلويين والبكتاشيين، ويحلل تلك الآثار من حيث المحتوى لا سيما أصولهم، ويتحدث عن إمكان تعريف العلويين والبكتاشيين حسب مصادرهم.
إن تثبيت عقيدة أو فكرة يكون عبر مصادرها أولاً، وليس عن إشاعة أو أقاويل حولها. وهذه إشكالية تعيشها العلوية والبكتاشية في يومنا الحاضر.
وفي مقالة علمية تحتوي على تقويم اثني عشر كتاباً نشرت عن العلوية والبكتاشية، كانت هناك تعريفات متناقضة فيها مثل: إن أصل العلوية والبكتاشية يعتمد على الشيعة، أو على الشامانية، أو على الثقافات القديمة في الشرق الأوسط والأناضول، أو على التوفيق بين الأديان (syncretisme). وكان معظم المؤلفين من أصل علوي. لماذا كانت هناك مناهج متناقضة حول هذه القضية. لأن المسألة مرتبطة بتاريخ العثمانيين، وبالفصل المذهبي السني والعلوي في الوقت نفسه، والسياسة القاسية بين الطرفين. لذلك ليس عجبا أن نرى السنيين العاديين والعلويين العاديين مختلفين مع بعضهم البعض.
كما يرى الباحث السوري في تاريخ الأديان تركي المصطفى أن البكتاشية نشأت واشتد عودها في بيئة مليئة بالتناقضات، وقد كان لنشأتها هذه أثر في اختلاف النظر حولها، ومحاولة تفسيرها، والحديث حول نشوئها نشوءاً مستقلاً، أو كونها تلفيقاً جديداً لا يطابق اعتقاداً من الاعتقادات السالفة مطابقة كلية، وإن كان يشبهه على نحو جزئي.
هذا الخلاف يعود إلى طبيعتها الباطنية التي تقف حائلاً دون القطع بوجه من وجوه التفسير، كما هو الشأن في أمثالها من الظواهر الدينية الباطنية، كما تقف حائلاً دون القطع بوجه من وجوه الاستمداد؛ فنحن مع إدراكنا المطمئن إلى صلتها الوثقى بمذهب الشيعة، لا يمكننا أن نعدها فرعاً له، أو نعده مصدراً أو أصلاً لها.
يرى الباحث أن عديداً من النصوص يمكن أن تؤكد العلاقة العقائدية بين البكتاشية والمسيحية، غير أنه لا ريب أن البكتاشية الذين يؤكدون أن مذهبهم إنما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن الطريق يبدأ بالتزام الشرع، لا يقرون بذلك. ولا بد من الإشارة –هنا- إلى أنه فيما “يتعلق بتعاليم هذه الطائفة، هناك مسافة واسعة بين ما ينسب إلى الطائفة، وما يقوله البكتاشيون عن ذاتهم. وربما يعود ذلك إلى أن البكتاشية تنظيم مراتبي؛ يعطي لكل مرتبة فيه نصيباً معيناً من المعرفة، بحيث إن الأهداف الحقيقية تبقى محصورة في فئة ضيقة للغاية.
إن الأنموذج المصنوع الذي تتخذه الدعوة البكتاشية لها فيما بين مسيحيي روميلي، إنما هو شخصية “صاري صالتق”. وأعتقد أنه، من حيث أصله، ولي قبليٌّ، حدثت بينه وبين القديس نيكولاس “مطابقة أو توحيد”، على نحو عام، ويبدو أنه شغل عدداً معيناً من الكنائس التي كانت مكرسة لهذا القديس في القسم الشرقي الأوروبي من تركيا. وقد تكون هذه الكنائس أقحمت في أسطورة صاري صالتق من خلال رحلة تطوافه الأولى، وهي تصل هذه الكنائس بمغامراته المشكوك فيها في أوروبا، وتنتهي بموته وبالتحول العجائبي لجثمانه إلى سبعة جثامين، دفنت أربعة منها في تركيا ودفنت ثلاثة منها في أوروبا المسيحية.