جدلية العلمنة.. العقل والدين بين هابرماس وراتسنغر
الأحد 18/أغسطس/2019 - 11:13 ص
طباعة
حسام الحداد
يتناول كتاب ”جدلية العلمنة – العقل والدين” يورجن هابرماس – جوزف راتسنجر، مفهوم العلمانية والمواطنة، في إطار العلاقة الجدلية بين العلم والدين، في المجتمعات الغربية، خلال فترة ما بعد الحداثة، أو كما يحلو للبعض نعتها بالمجتمعات المصنعة ما بعد الحديثة.
والكتاب صدر عن دار جداول، لبنان، للكاتب والمترجم حميد لشهب، والكتاب عبارة عن نقاش، بين أحد أقطاب الفلسفة الحديثة ”يورجن هابرماس”، وممثل الكنيسة الكاتوليكية؛ الكاردينال ”جوزف راتسنجر”، نظمته الأكاديمية الكاتوليكية بميونيخ سنة 2004. صاغه حميد لشهب في كتاب أفرده بمقدمة تفتح للقارئ باب الدخول في عوالم المحاورة بكل تشويق. ويعتبر هذا العمل مساهمة بناءة في ما يخص الترجمة من الفكر الجرماني إلى العربي والإسلامي.
ويقدم الكتاب حمزة بومليك وهو باحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية في قراءة رصينة وممتعة على موقع "كوة" والتي نقدمها هنا على بوابة الحركات الإسلامية نظرا لأهمية الموضوع للمهتمين بحركات الإسلام السياسي والعلاقة الشائكة بين الدين والسياسية
ويقول حمزة بومليك في مقدمة قراءته: ارتبطت الحاجة إلى العقل والدين، بالبدايات الأولى لنشأة الإنسان، حيث تعززت عنده الحاجة لفهم العالم، فكان أن حصل نوع من الصراع بين الديني والعقلي، تولد عنه نزوع للبحث عن محاولات توفيقية بين العقل والدين، على اعتبار أن هذا الأخير يشكل الجانب الروحي في الإنسان، والذي لا محيد عنه، لضمان التوازن النفسي والروحي. أما العقل، فيظهر جليا في التطور الحضاري والإنساني، وقد عرفت العلاقة بين الدين والعقل سجالات وصراعات لطالما انتهت بالدماء، خاصة ابان القرون الوسطى.
جاء عصر الأنوار فشهدت هذه العلاقة -العقل والدين- نقاشات واسعة بين منظري الفكر الغربي، انتصر في غالبيتها العقل على الكنيسة، ومن ثمة القضاء على السلطة السياسية المخولة لها، وتبقى المؤسسة الدينية حتى وإن فقدت السلطة السياسية، فإنها لم تتخلى يوما عن الدور الروحي والفكري.
مكانة الثقافة الجرمانية في الفكر الغربي:
لا يختلف اثنان حول القيمة الفكرية والفلسفية للثقافة الجرمانية، على مر التاريخ، فيكفي مثلا أن تذكر كانط أو هيجل أو شوبنهاور…، حتى تلمس هذه المكانة التي تمتع بها الفكر الجرماني على مر العصور في مختلف المجالات، وعلى رأسها موضوع العلمنة. ولأنه فكر إنساني بديهي أن يعرف جدلا واسعا كما هو الحال في جميع المجالات التي تهم الإنسان ومستقبله، وهذا أمر مشهود له في كل مراحل تاريخ الإنسانية سواء الضاربة في عمق التاريخ أو التي حظيت بقدر وافر من التمدن، لأن الدين متجدر في الحضارة الإنسانية وهذه الأخيرة تقوم بالأساس على العقل وإلا لما عرف الإنسان التطور في السلم الحضاري.
هناك مجموعة من المغالطات المستفحلة في بعض الكتابات العربية اليوم؛ أغلبها تعتبر الفكر الأوربي التنويري والحديث لم يُعِر أي اهتمامه للموروث –الفكر الكلاسيكي- ، فالقارئ في تاريخ الفكر الجرماني يجد لهذا الرأي ما يفنده، فعلى مدار قرون، وجد من الفلاسفة من تمسكوا بالفكر الكلاسيكي؛ لأن تاريخ الفكر الإنساني يطبعه التطور فلا يقصي المعرفة الجاهزة بل يعمل على تطويرها وهذا ما يتوافق وفكرة أن المعرفة تراكمية.
شكل عصر الأنوار منعطفا حاسما في الفكر الجرماني والغربي عموما، حيث شُهد هذا الاهتمام الواسع بمسألتي العقل والدين، مع كبار الفلاسف والمفكرين، الأمر الذي عجل بنٌشوب حروب ضارية بين من تمسكوا بالفكر الكلاسيكي واللاهوتي، وبين من وجدوا الحل في العقل والتحرر من الرقابة التي يفرضها الدين، وبين هذا وذاك كان ميلاد رأي يدعوا إلى التوفيق بين العقل والدين، وانبرى أصحاب النزعة العقلية والنقدية للعمل على سن أخلاق علمانية مصدرها العلم، تتأسس على أخلاق وضعية مثل حقوق الإنسان.
يزخر الفكر الجرماني بفلاسفة أظهروا المكانة التي يستحقها، وساهموا في تلميع هذه الصورة من خلال الإرث الفكري الذي خلفوه، وحري بالذكر هنا أن الثقافة الجرمانية، عرفت هذه الإشراقة بعد سنوات من الاجتهاد، مع ثلة من العلماء الممهدين والرواد في الحقل الفلسفي والديني.
حظي الفكر الجرماني بمكانة خاصة في الأوساط الفكرية سواء في المجتمع الجرماني على وجه الخصوص أو الغربي عموما، على اعتبار أن هناك ”ضرورة للاهتمام بالوجه الجرماني للثقافة الغربية، لسبب بسيط، هو أن الثقافة الجرمانية هي أم الثقافة الغربية في العصر الحديث فقد خرجت من رحمها كل التيارات الفلسفية والتقنية والعلم إنسانية المنتشرة في الغرب”ص:13. وإنه لمن الجيد حقا أننا لم نعد نرى حضور الثقافة الجرمانية في البلدان العربية، تقتصر على وجهاء الناس من نخب المفكرين والباحثين في مجالات: الفلسفة، والسيكولوجيا، والسوسيولوجيا، بل نجد العديد من الدول العربية أصبحت اليوم، تشجع على الاهتمام بالثقافة الجرمانية؛ يُترجم ذلك بتزايد عدد التمثيليات في الدول العربية، ورغم اقتصار هذه التمثيليات على عواصم بعض الدول، إلا أنها تلعب دورا هاما في نشر ثقافة الوعي بين البلدان العربية، ولعل الاحتكاك بين الثقافتين الجرمانية من جهة والعربية الإسلامية من جهة ثانية، ينقلنا إلى رحابة الحوار الحضاري والثقافي الإنساني، وتبقى البلدان العربية في حاجة ماسة إلى الثقافة الجرمانية وغيرها للمساهمة في البناء الحضاري للمجتمع العالمي، لما يخدم إنسانية الإنسان.
إن الصورة النمطية التي كرستها كل من المدرسة الفرنكفونية والأنجلوسكسونية، والتي تزعم بامتلاكهما الفكر الغربي وتلخيصه فيهما، هي في الحقيقة صورة مغلوطة تقزم قيمة الفكر الغربي وتقصي الفكر الجرماني الذي لا يمكن لعاقل أن ينكر مكانته في الفكر الفلسفي الأوربي، وربما هي مسؤولية تبقى على عاتق الكل وخاصة الفلاسفة والمفكرين، لإعادة الإشعاع للفكر الجرماني، حفاظا على الهوية الفردية والجماعية من جهة، ولتعبيد الطريق أمام الناشئة من جهة ثانية.
إن الدور الكبير الذي لعبته الترجمة سواء في نقل الفكر الغربي إلى المشرق أو العكس، ساهم إلى حد كبير في الاحتكاك بين الثقافات، كما لعب دورا محوريا في مد جسور التواصل بين الحضارات، حتى أصبح العالم يتحدث بلغة واحدة، وهي: لغة العلم والمعرفة، كما لا يمكن إغفال دورها المهم في ترسيخ مبدأ الحوار بين الثقافات، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، هو ثمرة من ثمرات الترجمة حيث عمل حميد لشهب على جمع نقاش كل من ”هابرماس” و”راتسنغر” لتقريب المجتمع العربي الإسلامي من الثقافة الجرمانية، مستثمرا في ذلك العلاقة الجدلية بين العقل والدين، وانعكاسات العلمنة على مجتمع ما بعد الحداثة، و يبقى الدور الأساسي للكتاب؛ يكمن في أنه يعزز فينا فضول معرفة الثقافة الجرمانية، ويفتح علينا عوالم مختلفة للنهل من مضامينها العميقة والواقعية ، فلا يمكن لنا نكران جميل الترجمة، إذ لم يكن بإمكاننا مثلا الاحتكاك بالفلسفة اليونانية أو الغربية…، دونما توفر إمكانية الترجمة، وهنا يجب الإشارة إلى ما قاله فيكتور هيجو، حيث اعتبر المترجمين: ”بناة الجسور التي صارت الشعوب تعبرها لتبادل الزيارات فيما بينها”ص: 12.
هناك قاسم مشترك بين الفكر العربي الإسلامي والفكر الجرماني، من حيث الإهتمام بموضوعي العقل والدين، إلا أن الفكر الغربي عموما والجرماني خصوصا؛ تمكن من تجاوز هذه المحنة على الأرجح في عصر التنوير، من خلال تنازل الكنيسة عن مجموعة من الأسس لصالح العقل، فاستطاع هذا المجتمع في إطار العلمنة والتقدم العلمي من تجاوز الخلاف وبالتالي عرف إشراقة علمية كبيرة. وعلى النقيض ظل الفكر العربي الإسلامي يعيش هذه الصراعات والفتن قرونا من الزمن، ولا زال إلى يومنا هذا، رغم المحاولات التوفيقية بدءا مع الفارابي، ابن سينا، الغزالي، وابن رشد…. ولعلنا اليوم في حاجة إلى خلق جسور تواصل وحوار بين المفكرين والفقهاء… لتوحيد الرؤى، والقضاء على النظرة الأحادية التي يغلب عليها طابع الفردانية، والاحتراس من الآخر قصد بناء فكر متناغم ومتكامل. فما مضمون محاورة كل من هابرماس وراتسنجر؟ وماذا يمكن أن نستفيد منها على مستوى البناء الفكري للثقافة الإسلامية؟
تحمل محاورة كل من الفيلسوف المعاصر ”يورغن هابرماس” والكاردنال ”راتسنغر”؛ في طياتها مجموعة من الدلالات التي تٌغني التنوع على مستوى الحوار الديني والحضاري الإنساني، وتتجلى أهمية هذه المحاورة في أنها كسرت مجموعة من الحواجز والطابوهات الكلاسيكية، في إطار العلاقة بين العقل والدين باعتبارهما موضوعان لطالما شهدا سجالات واسعة، انتهت في الكثير من الأحيان إلى نشوب صراعات عديدة. ولأن ”هابرماس” من أنصار العقل العلمي للفكر ما بعد الميتافزيقي، فقد أكد على أن الفلسفة واعية بما فيه الكفاية بالوضع غير المستقر والذي يجعلها قابلة للنسبية في أطروحاتها، مما يستدعي ضرورة اعتماد الدولة قوانين تخدم جميع الثقافات القابعة تحت سلطتها، ويسري هذا الأمر على الدين أيضا، وهو بذلك يرى بضرورة استقلال الدولة الديموقراطية القانونية عن أي وحي ديني أو ميتافزيقي. وعلى الطرف الآخر -الموقف الديني- يرى ”راتسنغر”؛ بضرورة وضع السلطة السياسية تحت سيطرة القانون لتحقيق العدل والمساواة للجميع وليس من أجل ضمان امتيازات أقلية معينة.
الأسس القبل السياسية للدولة الديموقراطية القانونية
يبقى ”هابرماس” من الفلاسفة الذين يمثلون الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ومن أقطاب الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية. يعود في مطلع مداخلته، إلى الإشكالية التي طرحها إرسنت فلولفانغ سابقا، في منتصف الستينيات: ”ألا تتغذى الدولة العلمانية الحرة من فرضيات معيارية لا يمكن أن تضمنها هي بنفسها؟”ص:45.
والطرح الذي جاء به ”يورغن هابرماس” لا يعدو أن يكون توفيقيا لكلا الموقفين، حيث نجد أن موقفه يرى بضرورة أخد الدولة المشرعة للقوانين في إطار الوعي الما بعد علماني للمجتمع، وهو الأمر الذي جاء مصرحا به في معرض حديثه عن الأسس القبل سياسية للدولة الديموقراطية القانونية، كما يؤكد على ضرورة تفهم اللائكية الثقافية والمجتمعية كصيرورة تعلم مزدوجة يكون في حاجة لها أتباع تقاليد الأنوار والتعاليم الدينية والبحث في حدود تخصصها، مع العلم أن دستور الدولة اللبرالية يجد جذوره في هذه الدولة من خلال الوعي بعقلية مستقلة تجنح إلى الميتافيزيقا.
أما ”راتسنغر” فقد وجد أسسه الفكرية في العلاقة بين الإنسان والله، كون الإنسان مخلوق من طرف الله، وانطلاقا من هذا يمكن القول أنه يرى بضرورة تمتين العلاقة الروحية.
وتتجلى قيمة الطرح الذي جاء به ”هابرماس”؛ من خلال تأكيده على ضرورة المصالحة بين العقل والدين، مع التأكيد على أن هذه المصالحة لا تعني انتصاره للطرح الديني على حساب الطرح العقلي أو العكس، بل يتعين النظر في القيمة الأخلاقية وتجلياتها في مجتمعات ما بعد الحداثة، من خلال التخلي الكامل عن تقديس الذات-العلمانية والدينية- مع العودة إلى الجذور الأولى للعقل، ويبقى للفلسفة دور مهم في التفكير الديني.
ينبغي للفكر العلماني أن يكون قابلا للتفكير في مآلات المجتمعات ما بعد الحديثة، ولأن العقل يثور على إنجازاته بشكل متواصل كان من البديهي أن يثور على العقلانية ذاتها، ولعل الهاجس الذي راود مجتمعات ما بعد الحداثة، هو الخوف من الانزياح عن القيم، مما يؤثر سلبا في مسار الديمقراطية وضمانها. لكن عاد ”هابرماس” للتأكيد على مكانة الديمقراطية من خلال كونها دينامية تجعلها في منأى ومعزل عن القيم.
تسبب التداخل بين المسيحية والميتافزيقا اليونانية في تقريب بعض المضامين الفلسفية من الديانة المسيحية، وتبلور هذا من خلال العمل على بوثقة مجموعة من المفاهيم المعيارية من قبيل المسؤولية والاستقلال، ولا ننسى أن الفلسفة بدورها غيرت، إلى حد ما، من معاني هذه المفاهيم.
من خلال تناوله لسؤال: إلى أي حد يمكن لشعوب موحدة في دولة تضمن حرية الأفراد أن تستمر في الوجود دون حبل رابط بين هذه الأفراد يسبق هذه الحرية؟ يرى “هابرماس” أن الدولة الدستورية الديمقراطية لا تعمل على توفير الحرية السلبية فقط من أجل رفاهية مواطنيها، بل ينضاف إلى ذلك عنصر الإعداد عن طريق الحث على حرية التواصل للمشاركة في النقاشات العامة حول القضايا التي تهم الكل، وهنا نشير إلى أن الطبيعة العلمانية للدولة الدستورية الديمقراطية لا تتضمن أي ضعف داخلي في نظامها السياسي يمكنه أن يهدد -من وجهة نظر عقلية أو عاطفية- استقرارها الخاص، على حد قول “هابرماس”. فتعبير “ما بعد العلماني” في نظر “هابرماس” لا يقر للجماعات الدينية بالاعتراف العلني لمساهماتها الوظيفية في إنتاج التصورات والدوافع، لكن يمكن للمجتمع العلماني والديني إذا ما فهمناه كصيرورة تعلم متكامل أن يقدم مساهمة ذات قيمة، في ما يتعلق بالمواضيع المختلف حولها في الحياة العامة. لكنه -هابرماس- يُعقب بأنه على الدِّين أن يتنازل عن حقه في السلطة، وفي احتكار التأويل، وتنظيم الحياة الشاملة؛ نظرًا لشروط علمانية العلم، وحياد سلطة الدولة، والحرية الدينية الشاملة، مع فتح إمكانية لممارسة التأثير الخاص عن طريق الرأي العام من قبل الجماعات الدينية، وهنا يتحقق مبدأ الوعي العام للمجتمع. والوعي العلماني حسب ”هابرماس”: ”لا يتمتع بحرية المعتقد تمتعا مجانيا، بل يقتضي هذا الوعي شرط التمرن على التفكير الذاتي في الأنوار”ص:61.
ويختم مداخلته بأنه لا يحق للمواطن العلماني أن يُنكر صحة أو مصداقية التصورات الدينية للعالم، ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية، وطرح مواضيع للمناقشة في الفضاء العمومي. من خلال قوله:”لا يحق للمواطن العلماني، طالما أنه يقدم نفسه في دوره كمواطن، لا أن ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدينية حول العالم ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية وطرح مواضيع للمناقشة عموميا”ص:62.
راتسنغر والموقف الديني من العقل:
ماذا يوحد العالم؟ سؤال انطلق منه راتسنغر في مداخلته، ويرى بأن العلم بمثابة: ”ethos، لايمكنه تقديم أي شيء، وبأن تجديد الوعي الأخلاقي لا يمكن أن ينتج عن طريق المناقشات العلمية”ص:68، كما يرى بأن التغيرات الأساسية في العالم وكذا تصورات الإنسان في ما يخص المعارف العلمية لها دور في القضاء على الثوابت الأخلاقية، على اعتبار هذه الأخيرة هي الركيزة الأساسية في المجتمع.
أشار راتسنغر إلى ضرورة إعادة النظر في الإمتيازات التي تخولها السلطة للأقلية على حساب الأغلبية، على اعتبار أن الأساس الجوهري الذي يعبر عن الشكل الجيد للنظام السياسي الديمقراطي هو ضمان المشاركة الجماعية في وضع القانون وفي التسيير العادل للسلطة، ليصبح القانون ممثلا للجميع، والضامن الفعلي لحقوق الكل، وليس قانونا يخدم الأقليات. ثم أشار في معرض حديثه إلى أن هناك تحديا يهدد تحقق هذا المبتغى، وهو خطر الإرهاب. ليتسائل راتسنغر عن إمكانية وضع الدين تحت رقابة العقل، فهل يمكن اعتبار هذه الرقابة ضرورة لتطور الإنسانية وتوصلها في النهاية إلى الحرية والتسامح الكوني؟
حقوق الإنسان بالنسبة ”لراتسنغر” جزء من القانون الطبيعي، على اعتبار أنها تجعل من الإنسان موضوعا أساسيا لها. وفي الأخير يكشف لنا عن اتفاقه مع ”هابرماس” في مسألة التعلم المتبادل بين العقل والدين، وكأنه يدعو إلى عدم التخلي عن هذه الثنائية، فالأمر يتطلب توفر جو يسمح بقبول الكل، والعمل على خلق مجتمع تتسامى فيه القيم الإنسانية، والإيمان بتعدد الثقافات، لبناء المشترك الإنساني من جهة، وللعمل على تقبل الاختلاف من جهة ثانية.
تبقى محاورة كل من ”هابرماس” و”راتسنغر”، واحدة من بين أهم المحاورات التي يمكن التأسي بها في عصرنا الذي تفشت فيه الصراعات الدينية والفكرية…، فساد التقتيل والتكفير والإرهاب والعنف…
لقد وعى المجتمع الغربي بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، مما جعله يفكر في عقد هدنة بين ما هو عقلي وما هو ديني، لأنه تنبأ بالخطر الذي أصبح يواجه المجتمعات ما بعد الحديثة بفعل التطور العلمي، هذا الخطر الذي قد يقضي على العنصر البشري إذا ما استمر الوضع بهذه الوتيرة، وما بعض المفاهيم الجديدة اليوم إلا ثمرة لهذا التطور السريع، من قبيل الذكاء الاصطناعي….هي مجموعة من العوامل التي حتمت على المجتمع الغربي توحيد الرؤية تبعا لمجموعة من المتغيرات التي تهدد إنسانية الإنسان، وهذا ما يعجل بضرورة بناء المشترك والحفاظ عليه.
لم يتوقف الفكر الغربي هنا، في معزل عن المجتمع العربي والإسلامي، بل نجده قد سعى في العديد من المرات إلى فتح آفاق الحوار لربط العلاقة مع المسيحيين وغيرهم من الديانات والملل الأخرى، ولا ينكر عاقل منا ضرورة الحوار بين المجتمع الإسلامي والغربي لنسيان الندوب التي خلفتها الهزائم المتكررة، والعمل على غرس ثقافة الحوار في نفوس الناشئة، لخلق جيل مفعم بالحوار الديني والحضاري، قصد بناء المشترك الإنساني.
تعد إذن محاورة كل من الفيلسوف الحداثي هابرماس والكاردنال المسيحي راتسنجر نموذجا للنقاش البناء الذي يؤمن بمشروعية الإختلاف وقبول الآخر. وهذا ما يسهم في بناء المشترك الإنساني بعيدا عن كل أشكال الصراع.