مركزية الحكم في العقل الإسلامي الحركي
السبت 12/أكتوبر/2019 - 02:05 م
طباعة
عماد علي عبدالحافظ
منذ أن ظهرت تجربة الحركة الإسلامية في بدايات القرن العشرين ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، ثم تبعها ظهور العديد من الحركات والجماعات الإسلامية بداية من ستينيات القرن ذاته وصولًا إلى يومنا هذا الذي تعددت فيه هذه الحركات بأشكال وأسماء مختلفة؛ منذ ذلك الحين وقضية الحكم تشكل أمرًا محوريًّا وهدفًا رئيسيًّا بالنسبة للحركة الإسلامية.
ومن أجل الوصول إلى الحكم والاستحواذ على السلطة دخلت الحركة الإسلامية –وما زالت– في صراعات متكررة، وعلى عدة مستويات، وقبلت التضحية بكل ما تملك، بل وأحيانًا بمصلحة المجتمع كله إذا اقتضى الأمر في سبيل الوصول لذلك الهدف، وتعتبر تلك الحركات أن في الوصول إلى الحكم سبيلًا لإقامة الدين، وأنه بمثابة العصا السحرية التي سيتغير بها حال المجتمع والأمة جميعًا، ونحن هنا نحاول أن نجيب على السؤال التالي: لماذا يحتل الحكم هذه المكانة الكبيرة في عقل وتصور الحركة الإسلامية؟
خلفية تاريخية
شهد تاريخ الدولة الإسلامية أحوالًا متباينة ما بين فترات قوة تمثلت في تفوق حضاري كان فيها المسلمون متقدمون معرفيًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا وماديًّا وعسكريًّا، وبين لحظات أخرى كان الضعف هو العنوان الرئيسي لها، رغم استمرار التوسع العسكري وزيادة المساحة الجغرافية للدولة الإسلامية، والذي لم يكن كافيًا بحد ذاته لاستمرار التفوق الحضاري.
وقد استمرت حالة الضعف هذه عدة قرون إلى أن استيقظ العالم الإسلامي مع بدايات القرن التاسع عشر على حضارة غربية قوية مثلت له صدمة شديدة، جعلته يعقد مقارنة بين واقع عالمين، أحدهما أصابته حالة من الجمود والتراجع الحضاري، وآخر يمتلك بيديه أسباب القوة المعرفية والمادية؛ ما جعل بينهما هوّة حضارية شاسعة، ومن ثم كان السؤال الذي شغل أذهان الكثيرين وقتها ومازالت الإجابة عليه حتى الآن لم تتبلور بشكل يمكن البناء عليه؛ وهو لماذا تخلف المسلمون وكيف ينهضون؟
من هنا بدأ العالم الإسلامي عن طريق العديد من رموزه الفكرية والدينية التي اتصلت بحضارة الغرب واطلعت على ثقافته عن طريق السفر لبعض البلدان الأوروبية، وعبر حركة الترجمة التي نشطت في ذلك الحين؛ في محاولة تشخيصٍ لواقع الدول العربية في محاولة لفهم أسباب ذلك التردي، كما حاولت وضع رؤى وتصورات لسبل اللحاق بالغرب، والخروج من هذه الحالة، وكانت أغلب تلك المحاولات تنصب على جهود الإصلاح الديني، والعمل على تجديد ديني يفتح باب الاجتهاد للنظر في العديد من الآراء والاجتهادات الفقهية القديمة، ويحاول أن يفهم النصوص الدينية بشكل يتوافق مع الواقع الجديد.
وأيضًا كانت هناك رؤى لإصلاح سياسي يعمل على إصلاح بعض جوانب النظام السياسي في الدولة، بجانب رؤى لإصلاح مجتمعي يعمل على الارتقاء بالمجتمع فكريًّا وأخلاقيًّا، وعلى ذلك كانت محاولات الإصلاح تنطلق من تشخيص الواقع على أنه تراجع حضاري له جوانب متعددة، وأن النقطة الأولى في الإصلاح تتمثل في نهضة فكرية يتبعها نهضة مادية على غرار الحضارة الغربية الحديثة.
ظهور الحركة الإسلامية المعاصرة
ظلت تلك المحاولات والأطروحات قائمة طيلة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلى أن أُضيف عنصر جديد إلى المعادلة تمثل في سقوط الخلافة العثمانية التي كانت نتيجة ضعفها وسوء حالها سببًا في تعميق أزمة المجتمعات الإسلامية، إلا أن الكثيرين كانوا يرونها رغم ذلك رمزًا لوحدة المسلمين وقوتهم، وقد كان لهذا الحدث دور أساسي في نشأة جماعة الإخوان المسلمين في العام 1928 بعد سقوط الخلافة بأربع سنوات، وقد وضعت الجماعة نُصب عينيها هدفًا كبيرًا يمثل مشروعها الرئيسي الذي ستسعى إلى تحقيقه، وهو إقامة هذه الخلافة مرة أخرى.
وتنطلق جماعة الإخوان –كما باقي الجماعات– نحو هذا الهدف من منطلقات شرعية وأخرى واقعية؛ فمن حيث المنطلقات الشرعية فهي تعتبر الحكم أصلًا من أصول الدين لا من فروعه، كما عبر عن ذلك حسن البنا بقوله إن (الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع)، مخالفًا بذلك رأي أهل السنة في نظرتهم للحكم، كما ينطلقون من حديث نبوي قال عنه بعض العلماء بأنه حديث ضعيف، وهو يتحدث عن مراحل خمس سوف تمر بها الأمة الإسلامية وهي: (مرحلة النبوة ثم الخلافة الراشدة ثم الملك العضوض ثم الملك الجبري ثم الخلافة على منهاج النبوة)، ونسوا أنه وفقًا للحديث الذي يستندون إليه –على افتراض صحته– أن فترة الملك العضوض كان شكل الحكم فيها هو ذات شكل الحكم في أيام الخلافة الراشدة، فالعبرة إذن ليست بشكل معين للحكم، ولكن بقيامه على أسس قيمية وأخلاقية من خلالهما يتحقق العدل ومصلحة الشعوب، أما المنطلقات الواقعية فتتمثل في أن لدى تلك الحركات قناعة بأن الحكم هو الوسيلة الوحيدة للإصلاح في المجتمع، وأنه لن تفلح أي محاولة للإصلاح ما لم تقترن بوصلها إلى الحكم، كما ترى أن الحكم هو الوسيلة الوحيدة التي من خلالها يتم تطبيق الشريعة.
أسباب التصور الإسلامي الحركي للحكم
من خلال هذا العرض الموجز الذي تبين من خلاله أهمية الحكم ودوره المركزي في تصور الحركة الإسلامية، وأنه بنظرهم ليس مجرد وسيلة لخدمة المجتمع أو إصلاحه، ولكن هو الخطوة الأولى التي لا بديل عنها لإقامة الدين وإصلاح المجتمع ونهضة المسلمين، وسوف نحاول في السطور القليلة القادمة، أن نوضح أسباب هذا التصور ونتائجه.
هذا التصور ينتج عن ثلاثة أسباب رئيسية:
الأول: التشخيص الخاطئ لواقع المجتمع؛ حيث إن حركات الإسلام السياسي تقوم بتشخيص أزمة المجتمعات الإسلامية بشكل عام على أنها مشكلة سياسية تتمثل في وجود أنظمة حكم غير صالحة، وهذا التشخيص يحمل الكثير من القصور والخلل وعدم الدقة؛ حيث إن الباحث في عمق المشكلة يدرك أنها أزمة اجتماعية بالأساس، بمعنى أنها ترجع لأسباب تتعلق بثقافة المجتمع وأفكاره الرئيسية، وأنماط تفكيره، وهل هو مستغرَق في الماضي، ويرى فيه النموذج المثالي الذي يجب استعادته أم أنه يؤمن بضرورة التحديث والتجديد؟ وغيرها من مظاهر أزمة راسخة في المجتمع لن يحلها بشكل جذري مجرد تغير سلطة سياسية أو نظام حكم طالما كان مبنيًا على نفس الأسس المجتمعية القائمة.
الثاني: عدم استيعاب مفهوم الدولة الحديثة؛ حيث يختلف مفهوم الدولة الحديثة وفلسفتها وطبيعتها والأسس التي تقوم عليها بشكل كامل عن الدولة في صورتها القديمة، والتي كانت تتركز فيها السلطة في يد الحاكم أو الخليفة، وكان يعتمد أمر العدل في الغالب على صلاحه الشخصي، ولكن الوضع في الدولة الحديثة أنها دولة يحكمها مؤسسات لا فرد أو عدد قليل من الأفراد، فلم يعد الحاكم أو السلطة التنفيذية هي المسئولة وحدها، بل أصبحت منفذة للقوانين فقط، وهناك سلطة تشريعية هي التي تشرع القوانين، وسلطة قضائية تقوم بتطبيقه مع منحها سلطة تقديرية في الحكم، بالإضافة إلى أن كلا من هذه السلطات لها دور رقابي على السلطة الأخرى بجانب مؤسسات أخرى تمارس دورًا رقابيًّا أيضًا، كما أن للمجتمع ومؤسساته كذلك دور كبير ومؤثر في هذه الدولة.
الثالث: الفهم الضيق لمفهوم الشريعة، فالشريعة في تصور الحركات الإسلامية مجموعة من القوانين الجامدة فقط يقوم الحاكم بتطبيقها، رغم أن للشريعة معنى أوسع تحدث عنه العلماء قديمًا وحديثًا، فالشريعة إنما جاءت لتحقيق مصلحة الناس والمجتمعات، وكل ما أمر به الشرع وحث عليه يدخل في نطاق الشريعة، وكل عمل يستهدف إصلاحًا وتنمية في المجتمع وإخراج الناس من الفقر وتحسين معيشتهم فهو شريعة، وخلاصة ذلك أن الشريعة لا تطبق فقط بواسطة الحاكم أو بوصول فئة معينة إلى الحكم، ولكن هناك دورًا وجزءًا كبيرًا من تطبيق الشريعة يستطيع المجتمع متمثلًا في مؤسساته المتنوعة الاجتماعية والاقتصادية والخيرية القيام به.
نتائج هذا التصور
يترتب على هذا التصور جملة من النتائج على عدة مستويات؛ فعلى مستوى الحركة الإسلامية ذاتها فإنه يجعلها تدخل في دائرة من الصراع السياسي لا تنتهي، ولا تستطيع في النهاية تحقيق أيّ من أهدافها، وعلى مستوى المجتمع فإن كثيرًا من الانقسامات تقع بين صفوفه، وتحدث التصدعات في أبنيته والتمزقات داخل أنسجته؛ نتيجة تعرضه لحالة من الاستقطاب المستمرة؛ ما يجعله مجتمعًا غير قادرٍ على الخروج من كبوته، والتقدم نحو الأمام، وعلى مستوى الدين فإنه يتوه بين فريقين الأول يرى أن الدين تم تضييعه وعزله عن المجتمع، وأن الجميع يتآمر عليه، والفريق الآخر يبغض مَن يمثل الدين نتيجة الصورة السيئة التي ينقلها كثير من ممثليه وربما خرج البعض من الدين ذاته تبعًا لذلك.
خاتمة
إن حلم الوصول إلى الحكم الذي حشدت به جماعة الإخوان وباقي الجماعات كثيرًا من الشباب وأدخلتهم به في صراعات عاتية لابد أن يأتي اليوم الذي تمتلك فيه من الشجاعة ما يمكّنها من مراجعته، والنظر فيه مرة أخرى؛ اتقاءً للمزيد من الأزمات والصدامات والانقسامات.