"الفيصل" السعودية تناقش تحديات تطبيق وثيقة الأخوة الإنسانية
الثلاثاء 05/نوفمبر/2019 - 10:39 ص
طباعة
روبير الفارس
نشرت مجلة الفيصل السعودية في عددها الاخير- نوفمبر 2019- دراسة مطولة تحت عنوان "وثيقة الأخوة الإنسانية السلام بين الديانات في عالم مضطرب" الدراسة كتبتها الباحثة والكاتبة اللبنانية ريتا فرج التى اكدت ان الدراسة تسعى هذه إلى تقديم قراءة تحليلية لـــ«وثيقة الأخوة الإنسانية»، وتحاول قبل هذه القراءة الإحاطة بعدد من المحطات التاريخية التي رافقت العلاقات الإسلامية– المسيحية، وبخاصة العلاقة بين الفاتيكان والإسلام، وتتحقق من فرضية مفادها: أن «وثيقة الأخوة»، على أهميتها من المنظور الحواري والإنساني/ الديني، شكلت تراجعًا في العديد من مواقفها للفاتيكان، إذا ما قورنت بوثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، ومع ضرورة الإقرار باختلاف السياقات التاريخية بين الحدثين التاريخيين، لكننا نرى أنها صِيغَت بعقلية دينية محافظة، واتخذت مواقف سلبية تجاه غير المؤمنين واللاأدريين والملحدين، ولم تكن لغتها واضحة تجاه أبناء الديانات الأخرى كاليهودية على سبيل المثال.
وجاء في الدراسة
بقيت العلاقات بين المسيحية والإسلام متوترة لأوقات تاريخية طويلة، وظلت محكومة لحقب متأخرة بالجدال والردّ العقائدي، القائم على احتكار الحقيقة الدينية والاصطفاء الخلاصي، وإن ظهرت مساحات مشتركة بينهما تؤسس للتعارف المتبادل والحوار الديني خلال التاريخ الكلاسيكي والمعاصر.
قفز المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965م) قفزات هائلة تجاه المسلمين واليهود وكذلك الهندوسية والبوذية في بيانه «حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» (Nostra Aetate)؛ فإلى جانب الاعتراف بهم كمؤمنين موحدين، وباحثين عن «السر الإلهي»، أُدرجوا في منظومة الخلاص والأخوة الشاملة النافية للتمييز: «لا نستطيع أن ندعو الله أبا الجميع إذا رفضنا أن نسلك أخويًّا تجاه الناس المخلوقين على صورة الله. فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بأخوته البشر مرتبطتان إلى حد أن الكتاب (الإنجيل) يقول: «إن من لا يحب لا يعرف الله» (1 يوحنا 4/8). أدركت الكنيسة الكاثوليكية أنه لا بد من المصالحة مع العالم وقيم الحداثة، بعد العصور الظلامية الطويلة وإثر الحروب المديدة التي خيضت تحت راية الصليب، سواء في أوربا أم إبان الحروب الصليبية، فاعتذرت في مجمعها عن كل هذا «العنف الديني» مؤسِّسةً بذلك لذاكرة غفرانية تجاه الذات والآخر.
وقالت الباحثة ريتا إن المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر، مطالَبة اليوم بالتأسيس لثورة داخلية تُخرج المسلمين من الانغلاق الديني، وتتقدم بهم نحو قيم الحداثة والإجابة عن تحديات العصر والعالم؛ هذا المشروع الإصلاحي الضخم لا بد منه- كما حدث مع «الأصولية الكاثوليكية» التي فككها كبار الفلاسفة الأوربيين واللاهوتيين المجددين؛ من أجل الابتعاد التدريجي من «الإسلام الأصولي»، و«إسلام السلف»، و«إسلام الفقهاء»، والعودة إلى الجذور الحقيقية في المسائل الدينية الرئيسة ومن ضمنها الرؤية القرآنية تجاه «أهل الكتاب» شركاء المسلمين في التوحيد.
عرفت العلاقة بين الأزهر الشريف والفاتيكان، حالات من المد والجزر. قام الطرفان بمبادرات لا بأس بها تجاه الآخر، لكن شابهها الكثير من الحذر وأحيانًا القطيعة والابتعاد، ولا سيما إثر السجال الذي دار حول ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر (Benedict XVI) (2005- 2013م) عن الإسلام، وما رافقه من احتجاجات وتوضيحات.
أسس اللقاء بين البابا فرنسيس (Francis) (2013-)، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، الذي حدث خلال ثلاثة أيام (3-5 فبراير 2019م) في الإمارات العربية المتحدة، بدعوة بادر إليها الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، لتاريخ جديد في العلاقات الإسلامية– المسيحية، وفتح آفاقًا للتلاقي بينهما، كُلِّلت بالتوقيع على «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»، التي قارنها بعضٌ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ «لكنها هنا قائمة على القيم الدينية والأخلاقية مثل الرحمة والمحبة والإنصاف وقبول الآخر ومعاملة البر والقسط، وتقصُّد السلام والأخوة بكل سبيل»
قراءة الوثيقة
أولًا- العلاقات الإسلامية– المسيحية: الفاتيكان والإسلام
مرت العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي بمراحل سيئة وأخرى بالغة السوء، وقد وصلت إلى ذروتها عندما أعلن البابا أوربانوس الثاني (Urban II ) عام 1095م الحروب الصليبية (حروب الفرنجة كما سمّاها العرب والمسلمون)، تحت راية حماية الأراضي المقدسة، التي استمرت حتى عام 1492مفي عام 1212م، قام تحالف من دول مسيحية عدة بتوجيه من البابا إينوسنت الثالث (Innocent III) لطرد المسلمين الأندلسيين من إسبانيا، ونجح هذا التحالف في معركة «لاس ناباس دي تولوزا» (las Nabas de Tolosa)، كما يسميها المؤرخون الإسبان، وذلك نسبة إلى بلدة إسبانية تقع بالقرب من ساحة المعركة، أو معركة «العقاب» كما يسميها المؤرخون المسلمون، نسبة إلى اسم قلعة كانت قائمة في الموقع. وبعد سقوط القسطنطينية، على يد الأتراك (محمد الفاتح) عام 1453م، حاول البابا نيكولاس الخامس (Nicholas V)، ومن بعده البابا بيوس الثاني (Pius II)، إعداد حملة صليبية إيطالية، ولكن لم تلقَ دعوة أي منهما تجاوبًا يذكر.
البابا يوحنا الثالث والعشرون
بدأت المرحلة الجيدة مع الإسلام مع انطلاق «المجمع الفاتيكاني الثاني» (1962-1965م) الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون، ومع أن الأسباب التي دعت إلى عقده كانت متعددة، فإن الرغبة في استكمال العملية التي بدأها المجمع الفاتيكاني الأول وفي جعل الكنيسة أكثر انفتاحًا على العالم كانت المهيمنة على تلك الأسباب. دشن هذا المجمع لأساس الاعتراف المسيحي بالإسلام في بيانه حول «علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» الذي جاء فيه: «وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحي القيوم الرحيم الضابط الكل خالق السماء والأرض المكلم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيب خاطر الإيمان الإسلامي. وإنهم يجلُّون يسوع كنبيٍّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرِّمون مريم أُمَّه العذراءَ كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك فإنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية، ويؤدون العبادة لله لا سيما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذ كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين فالمجمع المقدس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والحرية لفائدة الجميع». هنا من الضروري أن نذكِّر بالجهود الكبيرة التي قام بها الراهب الماروني الأب يواكيم مبارك (1924- 1995م) في المجمع الفاتيكاني الثاني من أجل عدِّ الفاتيكان الإسلامَ في مثلث الديانات التوحيدية، وهو ما شكل خروجًا تاريخيًّا على تراث الحروب الصليبية وسياسة التنكر الكامل للمسلمين. وفي وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني المعنونة «نور الأمم» (Lumen Gentium) أُدرج المسلمون في الخلاص الآخروي، حيث يرد ما يلي: «ولكن تصميم الخلاص يشمل الذين يعترفون بالخالق، ومن بينهم أولًا المسلمون الذين يقولون: إن لهم إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذين سيدين البشر في اليوم الأخير»
أعد الأب جوزيف كوك (1917- 1986م) والفيلسوف الفرنسي لويس غارديه(18) (1904- 1986م) دراسة قدَّم لها الكاردينال باولو ماريللا (1895- 1984م)، المسؤول السابق عن «الأمانة العامة لشؤون غير المسيحيين في الفاتيكان، جاء فيها: «يجب أن نعترف وبكل شجاعة وصدق، أن المسلمين لم يلاقوا من العالم المسيحي إلّا القليل من التعاطف والودّ… وقليلون هم الذين أوليناهم العناية الكافية… وحتى اليوم، وفي أكثر الأحيان، عرف المسلمون العالم الغربي من خلال الأنظمة الاستعمارية، وباختصار، يجب أن نعي وبكل موضوعية أن المسيحيين لم يحققوا بعد، كمجموعة، الشرط الأول والأهم الذي يؤهلهم لأن يكونوا موجودين وحاضرين في عالم المسلمين كما هو، وعلى حقيقته… وعلى هذا الأساس فإن الحوار لن يكون ممكنًا طالما أن مثل هذا الجهد لم يُبذل بعد». جاء في الدراسة أيضًا: «لقد ساد بين المسلمين والمسيحيين ماضٍ مؤلم سيطر عليه الاقتتال والعداوة، فيما عدا بعض أجزاء العالم الإسلامي التي بقيت جغرافيًّا بعيدة من الغرب المسيحي، لدرجة أن المجموعتين انطوتا على نفسيهما، وبقي كل منهما محافظًا على موقفه، ومثل هذا الوضع لا يشجع على الحوار إطلاقًا، ويجب أن نعمل على تجاوزه، وعلينا نحن المسيحيين أن نبدأ الخطوة الأولى من دون أن نحاول معرفة ما إذا كان هذا منطقيًّا في نظر الحكمة الإنسانية
أسس «الأمانة العامة لشؤون غير المسيحيين» البابا بولس السادس (Paul VI)(22) عام 1964م، وأعيد تسميتها عام 1988م لتصبح «المجلس البابوي للحوار بين الديانات» يرأس المجلس المكوَّن من 30 عضوًا من الأساقفة والكرادلة، كبير الأساقفة، يجتمعون في جلسة مكتملة كل سنتين أو ثلاث سنوات. ويُعهد إلى هذه المؤسسة المسؤوليات الآتية:
١. تعزيز التفاهم والاحترام والتعاون على نحو متبادل بين الكاثوليك وأتباع الديانات الأخرى.
٢. تشجيع دراسة الديانات.
٣. تعزيز إعداد الأشخاص المكرسين للحوار
أصدر المجلس عام 1984م وثيقة سماها «موقف الكنيسة تجاه أتباع الديانات الأخرى: تأملات وتوجيهات حول الحوار والإرسالية» حدد فيها أربعة أنواع للحوار:
١. حوار الحياة، وهو عبارة عن مشاركة تجربة الحياة الشخصية مع الطرف الآخر.
٢. حوار الأعمال، وهو يتعلق بمشاركة الأعمال مع الآخرين والتعاون معهم في سعيهم من أجل أهداف إنسانية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية.
٣. حوار الخبراء، حيث تتقابل التراثات الدينية وتتعمق وتُثرى بوساطة تطبيق الخبراء لخبرتهم على المشاكل المشتركة قيد البحث.
٤. حوار التجربة الدينية، حيث بإمكان أتباع الديانات المختلفة أن يتشاركوا في تجاربهم الإيمانية بتواضع وحسن نية
فتح هذا الموقف الفاتيكاني بوابات الكنائس الأخرى على الإسلام، ولعل أهمها بوابة مجلس الكنائس العالمي الذي أنشأ في عام 1971م دائرة للحوار مع الديانات، وخصوصًا مع الإسلام. وكان المجلس قد أقام في مارس/ 1969م أول مؤتمر له في بلدة كارتينيي مخصص لموضوع الحوار بين الديانات على المستوى العالمي. وبعد عشر سنوات، في عام 1979م، صدرت عن المجلس وثيقة تضمنت المبادئ العامة للحوار مع أهل الديانات الحية، حاولت إبراز القضايا الفقهية– اللاهوتية والقضايا العملية للحياة المشتركة بين المؤمنين بالديانات المختلفة(
تحتوي رسالة البابا يوحنا بولس الثاني (1920- 2005م) عام 1990م المعنونة بـــ«رسالة الفادي» على أكثر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية تقدمًا وموثوقية حول الحوار بين الديانات. جاء في الرسالة تحت محور «الحوار مع الإخوة من ديانات أخرى» الآتي: ينفتح حقل واسع أمام الحوار الذي يمكنه أن يأخذ أشكالًا وتعابير عديدة: بدءًا بالتبادل بين اختصاصيين في التقاليد الدينية، أو بين ممثلين رسميين لها، حتى التعاون في ترقّي القيم الدينية الكامل والمحافظة عليها، وعلى مشاركة الاختبارات الروحية الخاصة، إلى ما اتفق على تسميته بـ«حوار الحياة» الذي من خلاله يشهد المؤمنون المنتمون إلى مختلف الديانات الواحد أمام الآخر، في الحياة اليومية، عن قيمهم البشرية والروحية، ويتعاونون بها على الحياة ليؤسّسوا جماعة أكثر عدلًا وأكثر أخوّة»(
البابا يوحنا بولس الثاني
تأزمت العلاقات بين الأزهر والفاتيكان منذ عام 2006م؛ بسبب ما أثارته كلمة البابا السابق بنديكتوس السادس عشر من ردود أفعال في العالم الإسلامي، على خلفية استشهاده بأحد الفلاسفة الذي ربط بين الإسلام والعنف، لكن الحوار عاد عام 2008م. غير أن التأزم طبع عام 2011م بعد تصريحات البابا بنديكتوس حول تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية في شهر ينايرمن العام نفسه، طالب فيها بحماية المسيحيين في مصر، وهو ما عَدَّه شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب تدخلًا في الشؤون المصرية. اسْتُؤْنِفَت العلاقات عام 2016م بمبادرة من الفاتيكان، تُرجمت بلقاء بين البابا فرنسيس والإمام أحمد الطيب في مايو 2016م، وبزيارة لاحقة للبابا لمصر في شهر إبريل/ 2017م التقى فيها الإمام الطيب وشارك في مؤتمر الأزهر العالمي للسلام.
أعطى اللقاء التاريخي بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في أبوظبي في فبراير/ 2019م دفعًا كبيرًا للعلاقات الإسلامية– المسيحية، التي شهدت حالة من التشنج في حقبة البابا بنديكتوس، وجاء التوقيع على «وثيقة الأخوة الإنسانية» ليستكمل مسيرة التلاقي بين أكبر ديانتين في العالم. فما أبرز النقاط التي طرحتها الوثيقة لجهة الحوار الديني والعلاقة بين الديانات وقضايا العالم المعاصر وتحدياته؟ وهل شكلت بعض أفكارها بالنسبة للفاتيكان تراجعًا عن وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني؟ وما السياقات التاريخية المعاصرة التي طبعتها؟ يأتي القسم الثاني من هذه الورقة في محورين؛ الأول: قراءة وتعقيب على وثيقة الأخوة الإنسانيةوالثاني، تحليل السياقات والتحديات المرافقة لها.
ثانيًا- وثيقة الأخوة الإنسانية: الأفكار، والسياقات والتحديات
١. قراءة وتعقيب على «وثيقة الأخوة الإنسانية»
جاءت «وثيقة الأخوة الإنسانية»، المؤلفة من المقدمة والوثيقة والخاتمة، التي وقع عليها قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب، يوم 4 فبراير 2019م، في أبوظبي، محملة بالمعاني والدلالات؛ فلم تنحصر أفكارها بشؤون الحوار الإسلامي- المسيحي وثقافة العيش المشترك وضرورته في الأزمنة الصعبة التي نمرُّ بها، فإلى تأكيدها الخطوط العريضة لهذين الموضوعين الحيويين، تطرقت إلى قضايا عالمية تشغل مجتمعاتنا المعاصرة، كالفقر والتهميش، والمهاجرين، والحروب، والتعصب الديني، والصراعات الدولية والتقدم العلمي والتكنولوجي ومخاطره، وافتقاد عدالة التوزيع للثروات الطبيعية، والإرهاب، والحريةوالتعددية والاختلاف في الدين، والعلاقة بين الشرق والغرب، والمرأة والطفل والمسنين.
إنه لأول مرة في تاريخ العلاقات الإسلامية- المسيحية، تلتقي مرجعيتان دينيتان كبريان وتوقعان على وثيقة من هذا النوع، ولا ريب أن هذا الحدث التاريخي سيكون له تأثير إيجابي، في مساحات العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهي مساحات عميقة وحاضرة في ذاكرتنا وفي التاريخ والمعيش.
أشارت الوثيقة إلى أن «الإيمان المؤمن» يدفع إلى أن «يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعًا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعوٌّ للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله، وبتقديم العون لكل إنسان، ولا سيما الضعفاء منهم والأشخاص الأكثر حاجةً وعوزًا» لقد نظرت الوثيقة في مقدمتها إلى الآخر بوصفه شريكًا، والشراكة هذه لا يجب أن تنحصر باللقاء الأخوي/ الديني والروحي، بل تستدعي مساعدة كل إنسان بحاجة إلى العون، بصرف النظر عن عرقه أو إثنيته أو دينه. ترتكز المسيحية والإسلام على قيم الرحمة بين بني البشر، ويمكن ملاحظة ذلك في الأناجيل والقرآن الكريم، وصحيح أن تاريخ الديانات مشوب بالعنف والصراع العقائدي، لكن بين طيات هذا التاريخ وفي مساراته مساحات مضيئة، خارج مقولات التأكيدات المطلقة بامتلاك «الحقيقة الدينية» التي سُفكت من أجلها الدماء، إبان الحروب الدينية في أوربا، والصراعات الإسلامية– الإسلامية، أو ما يُعرف بالصراع السُّني- الشيعي الذي دخل منذ عام 2003م في مرحلة جديدة من الاحتداد المذهبي والتشنج
تشدد الوثيقة على أن الله «خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام» وتدعو «كل مقتدر وميسور» إلى مد يد العون للفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين «للتخفيف عنهم». ثمة إقرار ديني بأن جميع البشر متساوون، وهذه مسألة ليست بعيدة من روحية المسيحية، دينيًّا وعقائديًّا، وقد ثبت إصدار وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التوجه، وليست بعيدة من الإسلام الذي ساوى بين جميع البشر، فلم يضع القرآن تراتبية أو أفضلية على أساس الأعراق، وإنما على أساس درجة الإيمان، وحضّ على ثقافة الاختلاف كما هو واضح في هذه الآية القرآنية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات – الآية 13).
يعدّ مبدأ التعدد ركنًا رئيسًا من أركان الإسلام القرآني، والرسالة الأصيلة للمسيح والكنيسة هي ملاقاة الغريب/ الآخر واحتضانه ومحبته. إن منظومة القيم الداعية إلى مساندة من هم بحاجة تشكل جزءًا أصيلًا من الخطاب المسيحي والإسلامي، وقد يرى بعضٌ أنها تشكل للإسلام ثورة، على اعتبار أن الزكاة والصدقات تنحصران في أبناء الدين نفسه، لكن نظام التكافل ومساعدة غير المسلمين واسع، بتوسيع الصدقات تحت عناوين «الفقير والمسكين وابن السبيل» التي وردت في القرآن كما ورد في سورة التوبة﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
لفتت الوثيقة إلى مسألة أساسية حين تطرقت إلى المُهجّرين والنازحين، وهذه قضية شديدة الأهمية، وخصوصًا المهاجرين غير الشرعيين الهاربين من جحيم الحروب في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوربا. اتخذت الحكومات الأوربية تدابير قاسية إزاء المهاجرين، كما أن أحزاب اليمين المتطرف استغلت هذا الملف في أجندتها السياسيةعلى طرف نقيض من الخطاب الذي رفعه البابا فرنسيس الذي دعا في مناسبات عدة لتوفير ميناء آمن لهم واستضافتهم. وفي عظته بمناسبة اليوم العالمي للسلام الذي تحتفل به الكنيسة الكاثوليكية في الأول من يناير/ كانون الثاني عام 2018م، قال: «من الضروري أن يكون هناك التزام لدى الجميع، بما في ذلك المؤسسات المدنية والمنظمات المعنية بالتعليم والشؤون الاجتماعية والكنسية، من أجل ضمان مستقبل آمن للاجئين والمهاجرين وكل فرد»ودعا البابا في خطابه خلال تسلم جائزة «شارلمان» في الفاتيكان، عن الاتحاد الأوربي، عام 2016م، الأوربيين إلى بناء الجسور وهدم الجدران التي بُنيت لإقصاء المهاجرين، وندد في مناسبات عدة بلامبالاة العالم إزاءهم.
دعت الوثيقة قادة العالم وصُنّاع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي للعمل «جديًّا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورًا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليًّا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي» لا تطرح هذه الدعوة هنا سياقًا جديدًا وتعدّ خطابًا تقليديًّا اعتادت أن تطلقه المؤسسات والمرجعيات الدينية لدى الفاتيكان والأزهر، ولكن الجديد فيه أقله للجانب الإسلامي المتمثل بالأزهر، توجيه الوثيقة الدعوة «للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا لنشر هذه القيم بين الناس في كل مكان»عمومًا، كانت علاقة الأزهر بالمفكرين والفلاسفة والفنانين متوترة، خصوصًا في القضايا الدينية التي تتصادم مع الإسلام. الجدير بالذكر أن الأزهر أصدر مجموعة من الوثائق بعد ثورة «25 يناير» 2011م، من بينها «وثيقة الأزهر حول منظومة الحريات الأساسية» الصادرة عام 2012م، كان للمثقفين والمفكرين دور في صوغها، وجاءت بمنزلة نص مرجعي يسهم في حماية الحريات الأساسية، ووازن بعضٌ بينها وبين وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني لجهة ثوريتها واحترامها لحرية العقيدة ورفض التكفير. جاء في الوثيقة: «تعتبر حرية العقيدة، وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولة بثوابت النصوص الدينية القطعية وصريح الأصول الدستورية والقانونية (…) ويترتب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه»
قام شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب بخطوات حثيثة لمصالحة الإسلام مع العالم، على الرغم من الصعوبات التي تعترضه من جانب «حُرّاس العقيدة»، ولا شك أن مجموعة الوثائق التي أطلقها بدءًا من «وثيقة مستقبل مصر» 2011، و«بيان إرادة الشعوب العربية» 2011م، و«وثيقة القدس» 2011م، و«وثيقة الأزهر لنبذ العنف» 2013م، و«إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك» 2017م، تشكل أرضيةً صلبةً وانطلاقة حقيقية من داخل مرجعية دينية تقليدية، وأتت «وثيقة الأخوة الإنسانية» استكمالًا لسلسلة وثائق الأزهر التاريخية.
إن المجتمعات الأوربية وبعد حقبة ما بعد الحداثة تواجه تضخم النزعة الفردانية ومركزية الأنا وهشاشة الروابط الأسرية. لفتت الوثيقة إلى عدد من الكلمات المفتاحية: «الضمير الإنساني»، و«إقصاء الأخلاق الدينية»، و«النزعة الفردية»، و«الفلسفات المادية». تطرقت وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني إلى المخاطر الناجمة عن النزعة الفردانية والفلسفات المادية -حين لفتت إلى تفشي عبادة الذات وعبادة الملذات الجسدية وعبادة المال- ويعكس التحذير هنا من جانب الكنيسة الكاثوليكية والأزهر خطابًا دينيًّا، يهدف إلى التشديد على أهمية «الأخلاق الدينية» التي تواجه اليوم بروز ظواهر جديدة تتمثل في تبدل الرؤى تجاه العديد من القيم الاجتماعية والأخلاقية بدفع من «النسبوية الأخلاقية. والحال نطرح الأسئلة الآتية: ألا تسهم مجتمعات ما بعد الحداثة في أوربا في نمو معايير أخلاقية جديدة تؤدي إلى إعادة تشكيل الأخلاقيات الكلاسيكية؟ هل الفتوحات العلمية في الغرب خصوصًا في مجالات الطب والفيزياء والتكنولوجيا تحتم فعلًا «أفول الدين» و«موت الإله» مقابل تأليه العقل البشري، أم إنه علينا الأخذ بمقولات ما بعد العلمانية التي أصبحت تعترف بهامش الدين وحضوره في الفضاء العام؟ إذا كان الغرب الأوربي يعاني تبعات الفلسفات المادية، فإن المجتمعات العربية والإسلامية ما زالت تعاني الحجمَ الضاغط للدين: فهل يؤشر هذا على حضور عالمين متقابلين متناقضين في فهم العالم؟ أليس بالإمكان الحديث عن ديانة الضمير الفردي مقابل الأخلاق الدينية التي أشارت إليها الوثيقة؟ هل يمكن إعادة أحد أسباب أزمات عالمنا اليوم إلى إقصاء الأخلاق الدينية؛ وكيف نفهم تحذير الفاتيكان والأزهر من المخاطر الناجمة عن النزعة الفرديةالتي تطبع منظومة الأخلاق المعاصرة؟
البابا وشيخ الأزهر يوقعان وثيقة الأخوة
يميز عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي في كتابه «أفول الواجب، الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة بين «المجتمع الأخلاقي» و«المجتمع ما بعد التخليقي»؛ الأول يرمز إلى وجود مطلقات أخلاقية، والمقصود بالمطلقات هنا معايير قيمية من حق وباطل مستمدة من مصدر ذي شرعية معترف بها. أما المجتمع ما بعد التخليقي، فيصف المجتمع الذي تحرك أفراده منطلقات وغايات غير متجاوزة، أي مادية بحتة، تسعى إلى تحصيل منفعة آنية، وتستند إلى معايير عقلانية تخاطب النزعة الفردانية لدى أفراد المجتمعات المعاصرة. يوضح ليبوفتسكي بنباهة، أن معالم الخطاب الأخلاقي المعاصر الذي مبناه على المبادئ السائدة في هذا العصر من مساواة وحرية فردية، والذي يتوجه في الوقت ذاته إلى النزعة الفردانية البراغماتية المتفشية في المجتمعات، فيرى أن مثل هذا الخطاب هو الخطاب الوحيد القادر على معالجة مشكلات المجتمعات التقنية الحديثة، فهو من جهة لا يطالب بإهمال الذات ونكرانها، كما أنه لا يبني مُثلًا مطلقة يصعب على الروح البراغماتية فهمها، ومن الجهة الأخرى، لا يعتمد على فرض السياسات من جانب أي سلطة وهو ما يمثل تهديدًا للحرية الفردية. إن ملامح النظام الفكري في المجتمعات ما بعد التخليقية أدى إلى تحول في المحرمات الدينية الموروثة من الأزمنة التقليدية –وهذا ما نبهت إليه الوثيقة حين أشارت إلى إقصاء الأخلاق الدينية- أو الالتزامات الاجتماعية الموروثة من عصور الحداثة، إلى أمور مشروعة لدخولها في إطار الحريات الفردية
تقدر الوثيقة «الجوانب الإيجابية التي حققتها» الحضارة الحديثة «في مجال العلم والتقنية والطب والصناعة والرفاهية وبخاصة في الدول المتقدمة» وتلاحظ «أن هذه القفزات التاريخية الكبرى والمحمودة تراجعت معها الأخلاق الضابطة للتصرفات الدولية، وتراجعت القيم الروحية والشعور بالمسؤولية؛ مما أسهم في نشر شعور عام بالإحباط والعزلة واليأس، ودفع الكثيرين إلى الانخراط إما في دوامة التطرف الإلحادي واللاديني، وإما في دوامة التطرف الديني والتشدد والتعصب الأعمى، كما دفع البعض إلى تبني أشكال من الإدمان والتدمير الذاتي والجماعي»
ثمة تعقيبان على ما ورد في هذا المقطع؛ الأول: أشارت الوثيقة إلى تأثير العلم والتقنية (التكنولوجيا) في القيم الروحية والشعور بالمسؤولية؛ إن هذا التأثير خاصة في أوربا قويٌّ وواضح، وقد انعكس التطور التكنولوجي والعلمي، يضاف إليهما تفاقم النزعة الفردانية، في الأفراد والجماعات فبدلت من رؤيتهم لذواتهم والقيم الأخلاقية والاجتماعية في مجتمعات ما بعد الحداثة. وهنا نجد أنفسنا أمام الخلاصات المهمة التي أسس لها عالم الاجتماع البريطاني زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) (1925-2017م) في سلسلة كتبه عن السيولة وبخاصة كتابيه: «الحداثة السائلة و«الحب السائل». يقول باومان: «ففي تحول عظيم صار المجتمع يعظّم، أيما تعظيم، المرونة في قلب الأشياء رأسًا على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، فضلًا عن الروابط الإنسانية التي يسهل حلها والفكاك منها، والواجبات التي يسهل الرجوع عنها، وقواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، فقد أُلقِيَ بنا جميعًا في سباق نَلهثُ فيه وراء كل جديد. ففي ظل السيولة كل شيء يمكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان»
تنقلنا أطروحة باومان حول الحداثة السائلة والظواهر الناجمة عنها وفي مقدمتها النزعة الفردانية، إلى تنظير الفيلسوف ناصيف نصار الذي اجترح مفهوم «التفردن» المقابل للفردانية. فماذا يعني به؟ «التفردن البشري عملية تجري في التاريخ الاجتماعي للإنسان بفعل الشعور بالهوية الخاصة للفرد والحرص على خصوصيته وإرادة التميز عن الآخرين. إنه مسار مفتوح، ولكن ليس على خط مستقيم ووتيرة واحدة، مسار متعرج متشعب متدرج، متباطئ حينًا ومتسارع حينًا آخر، ومحوره العام إنما هو استقلالية الفرد بالنسبة للآخرين الذين يعيش معهم ولا يمكنه إلّا أن يعيش معهم. ولذلك ينبغي الوعي جيدًا بأن التفردن ليس عملية مفتوحة على اللامحدود. أصالة الفرد البشري ليست مطلقة. وهذا لا ينفي فرادته. الفرد الفريد يبني هويته وفرادته وهو محكوم بالوجود بالمعية. فالقضية إذن هي قضية تحقيق استقلاليته على القاعدة الجدلية التفاعلية الحاكمة لوجوده مع الآخرين، وليس على قاعدة المبدأ الفرداني المطلق»
أشارت الوثيقة –التعقيب الثاني- إلى «التطرف الإلحادي» و«اللاديني» حين تحدثت عن المؤثرات السلبية للحضارة الحديثة في مجال العلوم، فهل يعني ذلك للفاتيكان تراجعًا عمّا ورد من مواقف تاريخية في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث كان أكثر رحابة وانفتاحًا على الإلحاد واللاأدرية لجهة الفهم والاستيعاب، علمًا أن الكنيسة الكاثوليكية بعد هذا المجمع رأت أنه لا ينبغي فرض التدين بشكل قسري على أي شخص، واعترفت بحرية الاعتقاد واللاعتقاد، لهذا السبب فتح الفاتيكان مكتبًا خاصًّا لمحاورة الملحدين في أوربا وغير المؤمنين من المفيد الإحالة هنا إلى المناظرة المهمة التي نُظمت بداية عام 2004م في الأكاديمية الكاثوليكية في ميونيخ، بين الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، الذي يعلن أنه ملحد، وأحد أعمدة ممثلي الكاثوليكية الأوربية الكاردينال الألماني جوزيف راتستغر (البابا بنديكتوس السادس عشر «2005-2013م») وقد تضمن النقاش التجاذب بين العلم والدين في المجتمعات ما بعد الحداثة، وما وصلت إليه الفلسفة الغربية في هذا الموضوع الحيوي خصوصًا في تنظيرات ما بعد العلمانية
في وثيقة «دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم» (Gaudium et spes) يحدد المجمع الفاتيكاني الثاني موقفه من الإلحاد وجذوره من دون أن يدين الملحدين، فصحيح أن الكنيسة ترفض الإلحاد رفضًا باتًّا، لكنها «تُعلن مع ذلك بكل صراحة أن على البشر أجمعين؛ مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين أن ينكبوا على بناء هذا العالم في العدل، هذا العالم الذي يحيون فيه معًا: ولن يتم ذلك إلّا بالحوار الصريح الحكيم. فالكنيسة تأسف إذًا للتمييز في المعاملة بين مؤمنين وغير مؤمنين الذي تقومُ به بعض السلطات المدنية بطريقة ظالمة محتقرة حقوق الإنسان الأساسية. إنها تطالب للمؤمنين بالحرية العملية وبإمكان بناء هيكل الله في هذا العالم. وإنها لتدعو الملحدين دعوة إنسانية ليتفحصوا إنجيل المسيح بموضوعية تامة». إلى ذلك لم تحدد «وثيقة الأخوة الإنسانية» موقفًا واضحًا من اليهود، فهي تشير في مقدمتها إلى أن «الخلق جميعًا إخوة» وأن «الله الذي خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشر فيها قيم الخير والمحبة والسلام»، فلا تتخذ موقفًا واضحًا من أبناء الديانات الأخرى كاليهودية والهندوسية والبوذية، علمًا أن الفاتيكان حدد البيان حول «علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» موقف الكنيسة الكاثوليكية بشكل واضح: «إن هذا المجمع المقدس، إذ يتقصى سر الكنيسة يذكر الرباط الذي يربط روحيًّا شعب العهد الجديد بذرية إبراهيم. وتقرّ كنيسة المسيح بأن بواكير إيمانها واختبارها توجد لدى الآباء ولدى موسى والأنبياء وفقًا لسر الله الخلاصي». نفترض أن مُعِدِّي «وثيقة الأخوة» من الجانب المسيحي قد راعوا الجانب المسلم، ليس كرهًا لليهود كأبناء في التوحيد الإبراهيمي، وإنما قد تكون هذه الضبابية في تحديد من هو «المؤمن» على علاقة بأسباب سياسية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقضية الفلسطينية والعوامل السياسية المرافقة لتوقيع الوثيقة، مع أهمية التمييز هنا بين اليهود والصهيونية، ومع ضرورة الإقرار أيضًا بأن اليهودية والمسيحية والإسلامية، ديانات إبراهيمية من أصل توحيدي واحد وأنهم شركاء في التوحيد. من الأهمية أيضًا القول: إن الإسلام كانت له الأسبقية التاريخية والدينية في الاعتراف باليهودية والمسيحية، وسعى الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية الدعوة إلى ربط جذوره ورسالته بإبراهيم، أب التوحيد، وهذا واضح في القرآن الكريم والسيرة النبوية والمصادر التراثية
٢. السياقات والتحديات المرافقة لـــ«وثيقة الأخوة الإنسانية»
أتى التوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية في ظروف إقليمية ودولية مضطربة، وعلى الرغم من أنها ذات طابع «أخلاقي ديني»، ولن يكون لها تأثير في الحد من الاضطرابات الجارية في العالم، لكنها تساعد على توطيد الروابط بين المؤمنين من المسلمين والمسيحيين، وتقلص من حجم التوترات المنبعثة على أسس دينية، وتطور مساحات التلاقي والعيش المشترك بينهما.
إن السياق الأهم الذي رافق هذه الوثيقة وسبقها طبعًا، يتمثل في صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوربا والعالم؛ وهي أحزاب تستند إلى الخطاب الهوياتي والنزعة العرقية وكره الأجانب والغريب، وتفيد من الدين لصناعة حضورها. في المقابل يعاني الإسلام المعاصرُ تداعياتِ العنف الديني وتفجرَ الأصوليةِ الإسلامية من داخله، ولا شك أن ثمة تقاطعات بين الإسلاميين والخطاب اليميني لجهة إقصاء الآخر والشمولية الفكرية والإفادة من جهل الجمهور ومخاوفه، والأيديولوجية العنيفة.
اتخذت أزمة المهاجرين في أوربا طابعًا عالميًّا في السنوات الأخيرة، وتعاطت معها الحكومات الأوربية بحذر ودرجات متفاوتة من القبول وتأمين الحد الأدنى من الفرص الإنسانية لهؤلاء الهاربين من أوطانهم، لأسباب عدة تتصدرها الحروب. تصدّت أحزاب اليمين المتطرف للمهاجرين، فعملت على تأجيج الكراهية ضدهم، وأسقطت الشرط الأخلاقي لقبول «المهاجر»/ الغريب واستضافته. لقد كان للفاتيكان –وما زال- مواقف تدعو إلى احتضان المهاجرين، وتوفير الظروف الإنسانية لهم، وتحدث البابا فرنسيس عنهم مرات عدة، مركزًا على الواجب الأخلاقي والإنساني.
قدم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930- 2004م) مطالعة فلسفية مهمة حول الهجرة واللجوء في بعدهما الأخلاقي، فرأى أن الضيافة قرار ينتج عن شكلين؛ الأول: الضيافة غير المشروطة (أو المطلقة) ليصف الحاجة إلى المحافظة على بيت المرء وحمايته لاستقبال الضيف، وجعل إقامته فاعلة سياسيًّا واقتصاديًّا. والضيافة غير المشروطة، عنده، هي ما يشكل القانون المطلق للضيافة. فيملي قانون الضيافة بأن يرحّب المضيف بالضيف من دون أن يطرح عليه أي سؤال، بما في ذلك اسمه وأصله، وأن يطلب منه شيئًا في المقابل مهما كانت الظروف. وهو على نحو الغفران يُمنح دون شروط، ولأن الضيافة معيار يقدم التوجيه بشأن كيفية التعامل مع الآخر، فهو يُقام على معايير الأخلاقية. وكل أخلاق عند دريدا ضيافة أولًا. تُمكِّن الضيافة، بوصفها إيماءة مقدسة، من بروز مجتمع جديد، وتذكرنا في الوقت نفسه بجوهر البشر المنفوي. فالمضيف اليوم ربما يصبح ضيفًا في الغد. غير أن الشرط المنفوي للبشر –كما يرى دريدا- غالبًا ما تهبط مرتبته إلى المهاجر الموسوم بالآخر والغريب الذي نقابله بالدولة القومية واستقرار الهوية. أما الضيافة المشروطة فتخضع لقوانين الضيافة، وتؤدي قوانين الضيافة في شرطها المتطرف إلى السيطرة على الضيف ومراقبته، وإغلاق بيت المضيف في نهاية المطاف، وبموجب هذا النوع من الضيافة يكون الضيف «طفيليًّا» يمكن أن ينتهك القواعد المحلية ويؤدي إلى تدمير البيت من الداخل»
تمرُّ أوربا اليوم بــــ«أزمات صامتة» والطريقة التي أدارت بها ملف المهاجرين، تبرهن على تنامي المخاوف من «الغرباء» الذي رافقه صعود ظاهرة «الإسلاموفوبيا» في القارة الأوربية. أدت الخطابات التي رفعها اليمين المتطرف تحت شعار الثقل الديموغرافي للمسلمين، وما ينتج عنه من تبدل ومخاطر محتملة في تغيير الهويات الأوربية، إلى تأجيج العداء ضد الجاليات المسلمة، فعُمِّمتْ ثقافة الخوف منها. وقد شكلت وسائل التواصل الاجتماعي أحد أخطر المنابر الرقمية في الترويج لأيديولوجيات التباغض وإقصاء الغريب، ودفعت بعض مَنْ تأثر بمقولات اليمين –دون أن يكون هذا البعض منتظمًا أو منضويًّا داخل أي تشكل حزبي- إلى تنفيذ أعمال عنف إرهابية ضد المسلمين، كان الأعنف بينها، «حدث نيوزلندا الإرهابي» في مارس 2019م. إن مخاطر الترويج للأفكار المتطرفة عبر الميديا الجديدة تؤدي إلى تشكل ظاهرة خطرة من «فاعلين منفردين» يرتكبون أعمال عنف باسم الأيديولوجية اليمينية. كانت «وثيقة الأخوة الإنسانية» قد أشارت إلى المهاجرين ودعت إلى توطيد التضامن الإنساني مع الآخر/ الغريب، وحذرت كذلك من مخاطر الانجراف إلى العنف الديني، والآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي. ندرك عن كثب أن السياساتِ غيرُ الديانات في معالجتها القضايا والملفاتِ الشائكةَ، لكن السياسة كما الدين محكومان بالبعد الأخلاقي أو المعايير الأخلاقية من أجل مساعدة الحقيقة.
قام البابا فرنسيس بخطوات إصلاحية مهمة، وهو «نمط جديد من البابوات، ما عرفت الكنيسة الكاثوليكية نظيرًا له في شخصيته ورؤيته وتطلعاته وسلوكه منذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965م). فحتى يوحنا بولس الثاني بابا «الإيمان والحرية» الذي كان ودودًا مع المسلمين وضد الحرب على العراق، وعاون الولايات المتحدة في تجاوز الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، ما توافرت لديه هذه الروحية الإصلاحية بداخل الكنيسة، ولا هذا التضامن العميق بالفعل مع آلام الفقراء والمعذبين في الأرض، ولا هذا الإحساس الخاص تجاه المسلمين بوصفهم الأكثر معاناة بين أمم العالم، كما أن دينهم وهو أكبر أديان العامل من حيث عدد معتنقيه، هو الأكثر تعرضًا للظلم من جانب أهل الديانات الأخرى ومن جانب الدول والشعوب الغربية على وجه الخصوص»
إلى ذلك قام الإمام أحمد الطيب بتحولات جريئة في مسار الأزهر عبر إصداره أولًا، لمجموع الوثائق المعروفة بوثائق الأزهر وسعيه الحثيث لتمتين علاقته مع الأقباط والتضامن مع معاناتهم جراء تعرضهم –كما المسلمين أيضًا- لعنف الحركات الإرهابية. ويُعد «بيت العائلة المصرية» الذي أُسس عام 2011م أحد انجازات الطيب، في ملاقاة مسيحيي مصر وتأكيد العمق الوطني لأبناء البلاد على مختلف انتماءاتهم الدينية، هذا عدا إيمانه بالحوار بين أبناء الديانات. إن مسارات الإصلاح بين الفاتيكان والأزهر متفاوتة، ولكن شخصية كل من البابا والإمام من الشخصيات الدينية الاستثنائية في تاريخ المؤسستين، وثمة ضغوطات كبيرة عليهما من جهة المسؤوليات والحد من تداعيات العنف الذي يرتكب باسم الدين.
تعترض وثيقةَ الأخوة الإنسانية تحدياتٌ عدة، الأبرز من بينها ما يفرضه الإرهاب من إنهاك وانتهاك للدين أولًا، وتوظيف سياسي وحركي للدين من جانب جماعات وأحزاب هوياتية، لا ترى في الآخر سوى الغريب/ المنافس، أو العدو/ الديني ثانيًا. وإلى جانب هذين التحديين ثمة التحدي الأخلاقي، فالأخلاقيات الجديدة تعمم «النسبوية الأخلاقية» التي تهرب من القواعد الأخلاقية والالتزام والتضامن الاجتماعيين، ولعبت التقنية والتكنولوجيا في الدول المتقدمة دورًا كبيرة في تغيير العديد من القيم التي تحتويها المنظومات الأخلاقية؛ وقد لحظت الوثيقة هذه المسألة بتشديدها على إيقاظ «الأخلاقيات الدينية» والشعور بالمسؤولية. لكن مسار التطور البشري في الحقل التقني/ التكنولوجي والطبي؛ وما يصاحبه من نمو مضطرد لـــ«مجتمع الإفراط في الاستهلاك» و«حضارة الرغبة»لن يتوقف وسيترك في المستقبل مؤثرات أقوى في الأفراد والجماعات والمفاهيم والنظم الفكرية والسياسات والديانات والأخلاق.
على مستوى الحوار الديني بين المسيحية والإسلام، هناك تحديات كثيرة تعترضه؛ أهمها التوتر الناتج عن العنف الذي يرتكبه الأصوليون من الجهتين، وما يرافقه ويترتب عليه من ردود أفعال وتشنجات، قد تعيد الطرفين إلى نقطة الصفر. كما أن مساحات العيش بين الناس مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب التطرفات الدينية والسياسية، وهو ما يحتم مسؤوليات مضاعفة على الفاتيكان والأزهر.
الخاتمة
وفي ختام الدراسة كتبت ريتا فرج تقول من الضروري أن يرافق الحوار الإسلامي– المسيحي، قناعات دينية وثقافية حقيقية باكتشاف الآخر، فثمة تاريخ مشترك بين المسيحية والإسلام من عدم الفهم، والجهل المتبادل؛ لذا من المفيد أن يدخل كل طرف الخبرة الدينية للطرف الآخر لكي يفهمه من الداخل، وهذا لن يؤدي إلى زعزعة الإيمان بل يسمح بالمعرفة العميقة، على اعتبار أن الديانات الإبراهيمة من أصل واحد، وهذا يعني أن المشتركات إذا عُمِلَ على توطيدها بين المؤمنين ودعاة التعارف، كثيرة وعميقة الجذور، بعيدًا من الإطلاقيات والاصطفاء الديني.
إن الإسلام اليوم مدعو للانفتاح أكثر على التعددية الدينية كما فعلت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد أن كانت رؤيتها قائمة على امتلاك الحقيقة. هذه الدعوة تقتضي إجراء إصلاحات جادة ومؤلمة بهدف التحرر من «فقه الفرقة الناجية» و«فقه التكفير» والسير بخطى ثابتة نحو «فقه التنوير» و«إسلام الأنوار»(58) (l’Islam des Lumières)؛ أي الإسلام القادر على الانخراط في الحداثة والخروج من الجمود التاريخي الذي يتخبط به المسلمون منذ قرون، وبناء الثقة بالذات والعالم.
تطرح الوثيقة نقاشًا جادًّا أمام فلاسفة الأخلاق والمتخصصين في العلوم الإنسانية؛ إذ تشير إلى التدهور الأخلاقي وتجلياته على مستويات عدة، فتنظر إليه كما لو أنه مشكلة من مشكلات مجتمعات ما بعد الحداثة. يدفعنا هذا إلى التقدم بالتحليل الآتي: إن النسبوية الأخلاقية والتحولات المصاحبة للتطور التكنولوجي، ولا سيما مع ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي، وضمور الدين أو حتى أفوله في الغرب؛ دفع إلى بروز ظاهرة جديدة لا تقيم اعتبارًا للضوابط والنظم العامة، أُطلق عليها مصطلح «ما بعد الحقيقة» (Post-truth) وقد عرَّفه معجم أُكسفورد بأنه: «الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيرًا أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنةً بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق العلمية». فماذا يعني ذلك؟ إن مسيرة التقدم الحضاري والعلمي أدت إلى قفزات بشرية هائلة، وأنتجت في المقابل فلسفات ما بعد الحداثة، ظواهر خطرة تزدري الذاكرات التاريخية والتراثات وتحطُّ من حضور الهويات الوطنية والعديد من القيم الأخلاقية في الوعي الجمعي، وأثرت العولمة وثقافة السوق بشكل أو بآخر فيها. أمام هذه السيولة بات من «الواجب -كما يلاحظ الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك (Slavoj Žižek )- على مستوى بعض الصعد إيقاف التقدم والالتزام ربما بخط محافظ، يحافظ على مكاسب البشر حتى اليوم ولا يَعمِد، هكذا بإطلاق، إلى قبول ودعم أي صيرورة تحدٍّ أو ازدراء للتقاليد أو الأخلاق أو الحدود أو غيرها»
يشهد الزمن المعاصر اضطرابات كثيرة نتيجة الازدواجية السياسية وغياب التوازن في السياسات الدولية، وضمور القيم الأخلاقية في إدارة العالم، والتشكلات الناتجة عن مجتمعات ما بعد الحداثة في الغرب، وشيوع ثقافة اللايقين، والتحولات في منظومات الإيمان الديني، وتآكل البنى الاجتماعية التقليدية ومبادئها التي يتقدمها التضامن والتآخي، وانتشار اللامبالاة أمام المآسي البشرية، وارتفاع منسوب الأصوليات والتطرفات الدينية؛ هذا كله وغيره يترك ندوبًا في الأفراد والجماعات من مؤمنين وغير مؤمنين، ويضع أتباع الديانات والنخبة المثقفة والفاعلين في الميادين السياسية والدينية والثقافية والتربوية والمجتمعية أمام تحديات بارزة، حول أي مستقبل نصنعه؛ هذا ما نبهت إليه «وثيفة الأخوة الإنسانية» بلغة القيم الدينية، وما حذر منه علماء اجتماع وفلاسفة وأدباء من بينهم الأديب اللبناني- الفرنسي أمين معلوف في كتابه الأخير «غرق الحضارات».