عبد الرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير في الإسلام (1).. كيف يرانا الغرب والأمريكان؟
الثلاثاء 28/يناير/2020 - 10:01 م
طباعة
مراجع أمريكي رفض ترجمة كتابي لتصحيح صورة الإسلام لدى الغرب
الرؤية الغربية والأمريكية تسعى لتكريس الوجه السلبي المغلوط للدين الإسلامي
النبي أتاح لليهود حرية التعبير عن معتقداتهم.. وعاقبهم بسبب خيانتهم الوطنية
الكتيب برهن على أن كل آيات القتال في القرآن توضح أنه شرع للدفاع عن النفس والعرض والمال
فى أبريل من عام ٢٠٠٤، عرض علي مركز ابن خلدون، إصدار مجموعة من الكتيبات لتعريف الغرب بالإسلام على أن يكون أولها عن «الإسلام وحرية الرأي والتعبير» يصدر باللغة العربية، وتتم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية وتوزيعه في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، وجاء قبولي العرض من منطلق أن المستهدف من سلسلة الكتيبات هو الطرح العلمي الموضوعي للخطاب الإسلامي الحقيقي، والرد على الصورة النمطية السلبية السائدة، حيث يقترن الإسلام والمسلمون بالتطرف والعنف والإرهاب، وحيث يشيع الخلط والجهل بالقيم الإسلامية الصحيحة. وفى هذا الإطار تم الاتفاق بينى وبين مركز ابن خلدون، ومثله فى العقد د. سعد الدين إبراهيم على إصدار الكتاب الأول فى مدة أقصاها ثلاثة أشهر على أن يقوم المركز بدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه، ثلاثة منها تم تسلمها عند توقيع العقد، وتم إعداد الكتاب متضمنًا ثلاثة فصول: الأول: عن القرآن وحرية الرأي والتعبير، والثاني عن السيرة النبوية وحرية الرأي والتعبير، والثالث حول حرية الرأي والتعبير في التاريخ الإسلامي.
كانت الفكرة الجوهرية للدراسة الموجزة هى تسليط الضوء على حقيقة إيمان الإسلام الصحيح بالتعددية الفكرية، ودعوته إلى حرية الآخر المختلف دينيًا فى الاحتفاظ بعقيدته المخالفة، وإعلائه من شأن الصراع الفكرى البعيد عن الإسفاف والتهوين، فلا إكراه فى الدين ولا اعتداء على الآخر المسالم، ولا قهر أو إرغام، وإذا كان سلوك المسلمين بدا مغايرًا فى بعض الفترات التاريخية فإن مثل هذا السلوك لا يلزم الإسلام نفسه بما ليس فيه.
المفاجأة كانت فى الملاحظات التى سجلها المراجع الأمريكي، الذى كان يشرف على المشروع مع مركز «ابن خلدون»، عندما أعاد إلىّ الكتاب بعد المراجعة، وهي ملاحظات تكشف عن حقيقة الرؤية الغربية والأمريكية التى لا يريدونها أن تسود عن الإسلام، أو التى ساهم المتطرفون فى سيادتها، من خلال تكريس الوجه السلبى المنفر المغلوط للدين الإسلامى فى الغرب.
لقد أعاد مركز «ابن خلدون» مخطوطة الكتاب لى وأرفق بها ملاحظات يرى ضرورة «الاهتداء» بها حتى «يمكن» نشر الكتاب وترجمته.
بدأ المراجع الأمريكى ملاحظاته بالقول: «إن حرية الرأي والتعبير تتضمن حق النصارى واليهود فى التمسك بدينيهما دون أن ينتقص هذا من مقاميهما، وعليه يجب تفسير الآيات التي تتعارض مع هذا المبدأ ولا يجوز إغفالها كأنها غير موجودة.. الآيات التي تنبه على المسلمين عدم أخذ النصارى واليهود كأصدقاء، والآيات التي تمنع «ولية» غير المسلم على المسلم».
جاءت ملاحظات الرجل فى لغة ركيكة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية، فما معنى «عدم أخذ» النصارى واليهود كأصدقاء؟ وكيف لمثقف عصرى ومراجع لكتاب مهم يتضمن أفكارا سوف يتم ترجمتها للغات أخرى ليطلع عليها الغرب أن يكتب كلمة «ولاية» بمثل هذه الصورة المضحكة: «ولية»؟! وفضلا عن هذا الخلل الشكلى الفاضح والفادح، فإن الملاحظة المكتوبة «سابقة التجهيز»، لأن الكتيب يحلل ظاهرة الفهم المغلوط للإسلام ويبرهن على الحقوق الدينية لغير المسلم، ويؤكد أن الإسلام يدعو إلى التسامح والتعايش بين أتباع الديانات المختلفة، لكن السيد المراجع (مندوب العم سام) يرى أن هناك آيات تنفى ذلك كله، وتطالب المسلم بـ«عدم أخذ» النصارى واليهود كأصدقاء! لكنه لا يذكر واحدة منها على سبيل المثال، لقد قدم الكتيب رؤية موضوعية موثقة لعلاقة الرسول «صلى الله عليه وسلم» مع يهود المدينة، وبرهن على أنه -عليه السلام- كان عادلا منصفا فى تعامله معهم، حتى عندما عاقبهم بالطرد من المدينة، فقد كان العقاب الذى حل بهم نتيجة منطقية لخيانتهم العهد وارتكابهم جريمة الخيانة العظمى بالتآمر مع أعداء وطنهم، وليس بسبب عقيدتهم الدينية، لكن السيد المراجع كان يسجل ملاحظاته، وعينه بالضرورة على النفوذ الصهيونى القوى فى الولايات المتحدة، مطالبا بحذف تلك المعالجة الموضوعية، مردفا: «إن كتابة التاريخ من هذا المنظور الإسلامى يقابله دون شك منظور يهودى مخالف تماما»، ثم يطالب بـ«التركيز فقط» على ما يخدم «هدف الكتاب» خدمة مباشرة!
فبينما يؤكد الكتاب على أن النبى «صلى الله عليه وسلم» لم يعاقب اليهود لأسباب دينية وأنه أتاح لهم حرية التعبير عن معتقداتهم وممارسة شعائرهم، لكنه توقف عند خيانتهم الوطنية للوطن الذى يعيشون فى كنفه، إلا أن السيد المراجع لا يرى -من منظور أمريكي- أن هذه الأفكار أو تلك الرؤية تخدم «الأهداف» التى يريدها لأنه يريد التوجه إلى الغرب بما يريده هو، وليس بما يجب معرفته، ويسعى إلى تجنب إغضاب الصهيونية ذات النفوذ القوى المؤثر، ولا يتورع فى سبيل ذلك عن التشكيك فى التاريخ الإسلامى والتعاطف مع التاريخ الذى يكتبونه هم! السيد المراجع كان محكوما بفكرة مسيطرة؛ أن الإسلام ضد حرية الرأى والتعبير، ويقوم على القهر والإكراه، وأن في القرآن الكريم والسنة النبوية وأفعال الصحابة ما يثبت وجهة نظره غير المنصفة وغير العلمية، ما الذى يقوله عن القرآن والسنة والصحابة؟! يستشهد الكتيب بآيات القرآن التي تحدى فيها الله سبحانه وتعالى الملائكة بمخلوقه الجديد «آدم»، الأمر الذى يدلل على عمق فكرة تكريم الإنسان في القرآن الكريم، تمهيدا لمنحه كامل الحرية فى الاختيار، ويرد على الملائكة عندما يتساءلون عن سر خلافة آدم: «إنى أعلم ما لا تعلمون»، ويعلق السيد المراجع، خفيف الظل، عميق الثقافة: «هل هذا رد شاف لسؤال الملائكة؟!»، ولأنه يجهل لغة القرآن ولا يدرك معانيه ومراميه فإن ملاحظاته تصل إلى هذا القدر الهائل من الاستخفاف والسطحية! في حين يحاول الكتيب البرهنة على أن كل آيات القتال في القرآن توضح أنه شرع للدفاع عن النفس والعرض والمال، ولم يشرع للاعتداء على الغير، وأن قتال المسلمين للمشركين لم يكن مرتبطا بكفر المشركين وإنما ببدئهم قتال المسلمين، (أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» التوبة ١٣.
تعتمد البرهنة السابقة على اجتهادات مضيئة مستنيرة لعلماء أجلاء، في مقدمتهم الإمام الأكبر محمود شلتوت، في كتابه المهم «الإسلام عقيدة وشريعة»، ولكن المراجع الأمريكي الذي لا تروقه النتيجة يرفض كلام شيخ الأزهر، ويؤكد أن هذا الكلام لا يمثل إلا صاحبه، ولا يعتد به كحجة من حجج الإسلام! الهوى كله لما يقوله المتطرفون المتشنجون، فأقوالهم هى الإسلام أما الشيخ شلتوت فدون هؤلاء الصبية الذين يسيئون إلى الإسلام ويحظون بالاحترام ويؤخذ الإسلام من أفواههم دون ملاحظات!
يذهب الكتيب إلى أن حرية الاعتقاد مكفولة في الإسلام طبقا لتعاليم القرآن الكريم، وأنه «لا إكراه فى الدين»، ولا يروق التحليل للسيد المراجع فهو يشير إلى وجود آيات مضادة -وهذا غير صحيح- ويقدم تأويلًا غريبًا لآية «لا إكراه فى الدين»، فيقول بخط يده فى ملاحظاته: «قد يقال» «لا إكراه فى الدين» ولكن ستتعامل باحتقار وتفقد حقوقك فى التعامل مثل المسلم المؤمن». ولا يحتاج الأمر إلى تعليق، فالنية مبيتة على أن يسلب من الإسلام كل خير ولا يوصف إلا بالإكراه والقهر وقمع الحريات!
يستعين الكتيب بتفسير الشيخ محمد الخضرى للآيات العشرين التى أوردها السيوطى باعتبارها منسوخة فى محاولة للتأكيد على أن آية «لا إكراه فى الدين» لم يتم نسخها، ويعلق كاتب الملاحظات: «ولماذا نأخذ بكلام الخضرى بدلًا من كلام السيوطى؟» بالطبع فالمطلوب أن نأخذ بما يتوافق مع الأهداف التى يريدها العم سام، وليس مطلوبا أن نقدم الإسلام على حقيقته دينا متسامحا حضاريا!
أى علم هذا؟ وأى منهج؟ وما حقيقة الأهداف التى تحققها ترجمة كتب تسىء إلى الإسلام وترسخ الصورة النمطية السلبية السائدة عنه فى الولايات المتحدة والغرب؟!
يرفض السيد المراجع مقولة أن الهدف من القتال فى الإسلام هو الدفاع عن النفس، فالهدف -عنده- هو نشر الإسلام!.. الآية واضحة: «قاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا»، لكن العلم الغزير للسيد المراجع وملاحظاته «العلمية» تنفي ذلك.
يصر السيد المراجع، على أن الكثير من الآيات والأحاديث يتنافى مع حقوق الإنسان! ولا يكلف نفسه عناء تحديد الآيات والأحاديث الصحيحة، ذلك أنه عداء لا ينهض على أسس ويحرص على التصيد والإساءة المتحاملة التى تتجلى في اعتراضه على ما ورد فى الكتيب من أن الإسلام قدم إطارا نظريا مثاليا في التعامل مع قضية حرية الرأي والتعبير، فهو يكتب بخط يده «ليس مثاليا على الإطلاق». ويعود في موضع آخر ليقول بالنص: «إن كثيرا من أحاديث الرسول تتعارض مع حقوق الإنسان، فلماذا تنتقي منها ما يحض على احترام حقوق الإنسان فقط»! «الكثير» الذى يتعارض مع حقوق الإنسان؟ ولا يتطوع سيادته بذكر نموذج صحيح واحد لهذه الأحاديث التى يزعم وجودها؟! إنهم يريدون شيئا محددا ويتصورون أن على الباحثين «السمع والطاعة وتنفيذ التعليمات والأوامر»!
وتصل الوقاحة ذروتها، وهذا أخف تعبير ممكن، عندما يتحدث الكتيب عن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وقبوله التعايش السلمى مع اليهود وغير المسلمين في المدينة، وإبرامه وثيقة اعتبرها المحدثون واحدة من أهم الدساتير التى تؤسس لدولة مدنية في ذلك العصر، ويعلق المراجع العبقري بالقول «يا سلام! وهل كان يملك إلا ذلك وهو المهاجر إليهم»! وقاحة متناهية! فما علاقة كلمة «يا سلام» بالمنهج العلمى، ثم إن الرسول لم يهاجر إلى اليهود وغير المسلمين، إنما لبى دعوة الأنصار، وكان ملء قلوبهم، لكنه الجهل والتعصب وتوهم خفة الظل فى غير موضعها! وكلمة الوقاحة لا تكفي عند التوقف أمام ملاحظة أخرى من ملاحظات السيد المراجع، فعندما يتحدث الكتيب عن نوعية الأسئلة التى طرحها اليهود على الرسول عليه الصلاة والسلام حول «الساعة» و«الروح» و«ذي القرنين» وكيف قدم الرسول المثل الأروع فى إتاحة الفرصة لحرية الرأي والتعبير بلا حدود، يعلق المراجع متجاوزا كل الحدود والخطوط: «لماذا هذا الاستنتاج؟ أسئلة وجيهة يجب توجيهها لمن ادعى النبوة»! هكذا يتكلم المراجع المعتمد من ابن خلدون والأمريكان وهكذا يريدون كتبا يتوجهون بها إلى الغرب.
يتوقف الكتيب فى فصله الثالث أمام «حرية الرأي والتعبير عبر التاريخ الإسلامي»، وينهال كاتب الملاحظات بتعليقات بعيدة عن العلم والموضوعية، ومفارقة لآداب الحوار. وحتى نتجنب الإطالة يمكن التوقف أمام نموذج واحد لتعليقات المراجع الأمريكى على اجتهادات الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأسلوبه في الحكم قائلًا: «لقد توخى العدل بين المسلمين، وكان ظالما ومفتريا على كافة الشعوب التى فتح بلدانها»! الهدف إذن أن نتوجه إلى الولايات المتحدة والغرب ونحن نقدم الخطاب الإيجابى للإسلام، فنقول إن أعظم رموز العدالة فى التاريخ الإسلامى عمر بن الخطاب، كان ظالما ومفتريا!.
هذه بعض من ملاحظات المراجع الأمريكى لكتابي، آنذاك، والتى وضعها شرطا أساسيًا لترجمة الكتاب ونشره فى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، أردت أن أعرضها عليكم قبل أن أشرع فى نشر بعض أجزاء منه، لتعلموا أن المعركة كبيرة ومستمرة وأن فتح باب الاجتهاد لتخليص الفكر الإسلامى من الشوائب التى علقت به ضرورة اللحظة إن لم نفعلها تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.