بين الشيخ شلتوت والبنا... المجدد والإرهابي في مجلة المصور
في شهر فبراير
من كل عام تمر ذكري وفاة الشيخ المجدد محمود شلتوت الامام الاكبر للازهر الشريف
.كما تمر في هذا الشهر ذكري اغتيال الارهابي حسن البنا وشتان بين المجدد والارهابي .مجلة المصور في عددها الاخير قدمت قراءة تبرز
الفرق الكبير بين نور الشيخ شلتوت وجحيم البنا
وتحت عنوان
"المجدد و الإرهابى" كتب أحمد أيوب
رئيس تحرير المصور يقول
غريب شهر فبراير
فيما شهده عبر التاريخ من أحداث الربط بينها يمكن أن يعطى رسائل مهمة ففى هذا الشهر
يغادرنا واحد من أئمة التجديد الوطنيين ورواد التنوير المقدرين وهو شيخ الأزهر العلامة
محمود شلتوت الذى توفى فى ١٢ فبراير١٩٦٣
وبعد يوم واحد وتحديدًا
١٣ فبراير لكن قبل ذلك بـ ١٤ عاما وتحديدًا فى ١٩٤٩ يقتل واحد من أئمة التخريب والتطرف
وقائد الدم وصانع الفتنة والإرهاب وخيانة الوطن والدين وهو حسن البنا.
رسالة فبراير التى
لم تفرق بينها فى أيّام الشهر سوى ساعات هى الفارق بين الوطنية والخيانة، بين التنوير
والرجعية، بين التجديد والجمود. . فبراير شهد مولد ووفاة الكثير من الأسماء اللامعة
مثل مولد الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين و مولد الأديبة الفلسطينية مى زيادة و وفاة
الكاتب فكرى باشا أباظة ووفاة الفيلسوف ابن رشد.
لكن بقيت التفرقة
بين شلتوت والبنا لها معناها فى المساحة الضخمة بين نور التنوير الذى نعيش فى رحابه
حتى الآن ونبحث عن كل السبل التى تضمن لنا أن نستلهم روحه ونحافظ عليه ونستكمل مسيرته
وبين ظلامية التطرف التى دفعنا ثمنها دما وخرابا وخيانة وإرهابا نقاتل من أجل التخلص
منه وإنقاذ الوطن بل العالم من شروره.
ما بين شلتوت والبنا
هى نفس المسافة بين المجددين الذين رغبوا فى البناء وفهموا الدين على مراد الله ومبتغاه
وانه استعمر الناس فى الأرض واستخلفهم ليعمروا فيها، وبين المخربين الذين طوعوا الدين
لخدمة مشروعاتهم وتدثروا بعباءته كذبا من أجل السيطرة والحكم، ومن أسف أن هذا المخرب
البنا استطاع أن يخلق تيارًا ويصنع جماعة توغلت فى المجتمع بأفكارها المدمرة وتوسعت
عالميا لأنها وجدت من يدعمها ويمولها ويستفيد من خيانتها، أصبح للبنا أتباع يحافظون
على سيرة الخيانة ومنهج العمالة وطريق الإرهاب وفكر التطرف وينشرونه، بينما لم يبقى
من شلتوت وعلمه إلا كتبه وقليل من المدركين لقيمته ومنهجه التجديدى.
شلتوت هو الشيخ الثالث
والأربعون للجامع الأزهر وأول من حمل لقب الإمام الأكبر كان بحق واحدا من المجددين
فى اتجاهات عدة ربما أبرزها قيادته وبجرأة قضية التقريب بين المذاهب، والقطع بأن التعبد
ليس مشروطًا بمذهب دون آخر، وهذه الرؤية لم تكن سوى قناعة وصل إليها الشيخ شلتوت عن
بحث وجهد علمى، فحتى قبل أن يتولى مشيخة الأزهر وفى عام ١٩٤٧ كان واحداً من المؤسسين
لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية بهدف توثيق الصلات وتعضيدها بين كافة الطوائف الإسلامية
وقطع سبل الخلاف بين أتباع كل مذهب وآخر، ولهذا كان هذا الفكر هو ما مهد الطريق لقرار
إدخال دراسة المذاهب فى الأزهر الشريف، وعندما تولى شلتوت مشيخة الجامع الأزهر أصدر
فتواه الشهيرة بجواز التعبد على أی مذهب من المذاهب الإسلامية، التی عُرفت أصولها ونقلت
نقلا صحيحا، ومنها مذهب الشيعة الإمامية، باعتباره مذهبا إسلاميا لا يختلف عن بقية
المذاهب السنية الأربعة)الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية(، وعندما نطالع تلك
الفتوى التى صدرت فی ١٩٥٩، وكانت نقلة فقهية وعلمية غير مسبوقة نكتشف كيف كانت عقلية
وفكر هذا الرجل؟ وكيف كان راغبًا فى تجديد يمنع الخلاف والصدام؟ ويسد كل الطرق التى
تؤدى إليه وتحول الدين إلى فتنة ومعركة يقتل بها أبناءه بعضهم بعضًا.
ومن أسف أن ما خشى
منه شلتوت قبل واحد وستين عاما هو ما يحدث الآن وأصبح جزءا من ضرب الأمة الإسلامية
وتقسيمها بين سنة وشيعة
جاء نص الفتوى ردًا
على سؤال وجه إليه خلاصته:
إن بعض الناس يرى
أنه يجب على المسلم لکی تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة
المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم
على هذا الرأی على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الإثنی عشرية مثلا.
كان رد شيخ الأزهر
محمود شلتوت الواضح:
«إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه إتباع
مذهب معين، بل نقول:إن لکل مسلم الحق فی أن يقلد بادئ ذی بدء أی مذهب من المذاهب المنقولة
نقلا صحيحا والمدونة أحكامها فی کتبها الخاصة، ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل
إلى أی مذهب کان ولا حرج عليه فی شىء من ذلك، إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة
الإمامية الإثنى عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً کسائر مذاهب أهل السنة، فينبغی للمسلمين
أن يعرفوا ذلك وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما کان دين الله وما
کانت شريعته باتباع مذهب أو مقصورة على مذهب، فالکل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى،
يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه فی فقههم ولا فرق فی
ذلك بين العبادات والمعاملات”.
ومثلما كانت هذه
الفتوى فاتحة لنار كادت تحرق شلتوت من بعض العلماء الرافضين لهذا المبدأ، كانت أيضا
موضع ترحيب ودعم من علماء آخرين، فكانت فتوى كالحجر الذى ألقى فى ماء آسن فحركه وأخرج
ما فيه من خير للأمة.
وأصبح الشيخ شلتوت
إمام التقريب بين المذاهب وصاحب الفضل فى نقلة تجديد مختلفة غيرت وجه الأزهر الشريف.
لكن هذه لم تكن حركة
التجديد الوحيدة التى قادها شلتوت فقد واكبتها جهود إصلاح لا تقل أهمية وساهمت فى إخراج
الأزهر من التقليدية التى عاش عليها عقودا فقد فتح تخصصات جديدة لم تكن متاحة لأبناء
الأزهر، واستحدث معاهد نموذجية تجمع بين التعليم الأزهری والعام، ومعاهد القراءات،
ومعهد البعوث الإسلامية، ومعهد الإعداد والتوجيه، الذی يؤهل الطلاب غير العرب للدراسة
باللغة العربية، وأدخل الكليات العملية وزاد عدد البعثات الأزهرية المتجهة إلى أوربا،
مثلما زاد بعثات الأزهر للدعوة إلى الإسلام والوعظ والإرشاد، وتدريس اللغات الأجنبية
فی الأزهر،
وكانت النقلة الكبرى
فى يناير ١٩٦٢ عندما قرر لأول مرة فى تاريخ الأزهر إنشاء معاهد الفتيات الأزهرية وكانت
البداية بمعهد فتيات المعادى.
لقد ظل شلتوت حريصًا
على التجديد فى الأزهر ومناهجه وعلومه، باحثا عن مصلحة الأزهر وتطويره منذ أول يوم
له وبسبب هذا التوجه تعرض للفصل مع سبعين عالمًا آخرين بسبب المطالبة بالإصلاح داخل
الجامع الأزهر، وأعيد بعد ذلك بسنوات وعندما تولى مشيخة الأزهر فی ١٣ أكتوبر ١٩٥٨،
ورغم أنه لم يستمر سوى خمس سنوات فى موقعه كإمام أكبر حتى استقال فى ١٣ ديسمبر
١٩٦٣ إلا أن ما قدمه من أفكار إصلاحية وخطوات تجديد لم يكن من السهل على غيره أن يحققها
فى عقود وكان السبب فى ذلك هو يقين شلتوت بأن الأزهر يجب أن يتم إصلاحه وإعادة النظر
فى مناهجه حتى يستطيع أن يحافظ على قوته وتأثيره، وفى عهده صدر القانون رقم ١٠٣ لسنة
١٩٦١م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التی يشملها، وكان من بينها مجمع البحوث الإسلامية
الذى جاء بفكرة من شلتوت نفسه، وكان بحكم وظيفته عضوا فی أول تشكيل له.
هذا هو نموذج المجدد
الباحث عن الدين الوسطى المعتدل أو المتمسك بصحيح الدين الرافض للصدام والدم، لم يفرط
فى دينه ولم يتهاون فى الدفاع عن ثوابته لدرجة أنه عزل مرة واستقال أخرى اعتراضا على
ما رآه يضعف الأزهر لكنه إمام التجديد لم يجد بديلا فلم يتردد فى أن يتخذ هذا الطريق.
فى المقابل يأتى
إمام آخر لكنه إمام للدم والقتل والتخريب وهو حسن البنا الذى أسس جماعة للتفريق ونشر
الفتنة وإسقاط الهوية، جماعة ظهرت فى أحضان الإنجليز وانتشرت برعايتهم ودعمهم المالى
بهدف تفتيت المجتمع المصرى، ومن يومها وترى الاغتيال نوع من الجهاد ومن يومها لم تمارس
الجهاد ضد عدو بل مارست الاغتيال ضد المصريين بداية من القاضى الخازندار والنقراشى
وأحمد ماهر وعبدالناصر وصولًا إلى إرهابهم اليومى الذى يمارسونه ضد كل المصريين وفى
المقدمة رجال الجيش والشرطة.
لا تعرف الجماعة
فكرة الوطن ولا تعترف بسماحة الإسلام ولا تعمل بالتى هى أحسن بل دأبها وطريقها الدم
دائما وهذا باعترافات قادتها فى مذكراتهم سواء من كتبوا بعد أن غادروا الجماعة تائبين
عن الخيانة والتطرف والإرهاب أو من ظلوا داخلها وكتبوا بمنطق التباهى بما تفعله الجماعة
ودورها وقدراتها.
من مذكرات هؤلاء
عرفنا وتأكدنا بالأدلة أنهم من اغتالوا الخازندار وبتعليمات من مرشدهم الذى حاول التبرؤ
منهم بعد ذلك، وهم من اغتالوا محمود فهمى النقراشى وأحمد ماهر وغيرهم كثيرين.
كما اعترفوا بمحاولة
اغتيال عبدالناصر فى حادث المنشية، حتى التنظيم الخاص الذى طالما أنكروه اعترفت به
مذكرات قادتهم.
المهم أن كل هؤلاء
أجمعوا على أمر واحد وهو أن البنا هو من أسس للعنف وشرعن استخدام القوة، كما أن البنا
هو من أسس لفكرة الخيانة وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا كجماعة حتى عام ١٩٤٧ يحظون
بتأييد ومساندة حكومة النقراشى لأنهم كجماعة انقلبوا على الوفد، لكن عندما صدر قرار
النقراشى بحل الجماعة كان العقاب اغتيال النقراشى نفسه.
البناء هو من أسس
لفكرة من ليس معنا فهو ضدنا وضد الإسلام لدرجة أنه هو الذى وصف معارضيه بأن الشيطان
هو من زين لهم، بل ويأمر أتباعه بأن يضربوا بالسيف كل من خرج على الجماعة.
وكما ينقل عنه طارق
البشرى يقول البناء “ولكننا تأثرنا بالنظم المائعة التى يسترونها بألفاظ الديمقراطية
والحرية الشخصية وما كانت الديمقراطية ولا الحرية يوماً من الأيام معناهما تفكيك الوحدة
والعبث بحرية الآخرين وكما هو واضح فإن هذا الكلام يكشف كراهية البنا للديمقراطية ويطالب
بعقاب المعارض وقطع رقبته بالسيف أياً كان.
بل الأدهى أنه يرفض
التنوع والاختلاف حتى داخل الجماعة نفسها، فهذا هو ما أسسه البنا، العنف مع المختلف
معه وقطع رقبته، ولذلك لم يكن غريباً أن يصل الأمر إلى الاغتيال لكل من رأوا أنه يعارضهم
أو يرفض فكرهم ومن هنا ظهرت قائمة الاغتيالات والإرهاب الذى مارسوه على مدار تاريخهم
الملوث بالدماء، والطريف أن هذا المنهج فى اغتيال خصوم الجماعة والتعامل بالسلاح ضدهم
كنوع من الجهاد لم يوجه إلا ضد المسلمين وتحديدًا المصريين.
فبغض النظر عن العمالة
للإنجليز ثم الأمريكان فإن الجماعة لم تضبط متلبسة مرة واحدة بمحاولة اغتيال قيادى
أو عسكرى إنجليزى محتل لبلدهم مثلما لم يضبطوا هم أو فرعهم فى فلسطين»حماس» يطلقون
حملة جهاد ضد إسرائيل، فقط يطلقون الشعارات الحماسية لكنهم فى السر يعملون لصالحهم
وينفذون ما يطلب منهم، وكل هذا من أسس له هو البنا الذى كان يبنى جماعة الإرهاب والتطرف
والخيانة للدين فى نفس الوقت تقريبا الذى كان يدعو فيه شلتوت للتسامح والتقريب بين
المذاهب والتجديد الذى يضمن الانتصار لصحيح الدين، وفى الوقت الذى كان البنا يعمل سرا
لصالح القصر الملكى ويخدم مخططات الإنجليز كان شلتوت يعمل لصالح بلده ودينه الحق.
لماذا
بقيت جماعة الإخوان بعد مقتل مؤسسها؟!
تحت هذا
العنوان كتب الكاتب عبد القادر شهيب يقول
فى الساعة العاشرة
مساء يوم الثامن من شهر ديسمبر عام ١٩٤٨ اتصل وكيل وزارة الداخلية عبدالرحمن عمار بصديقه
الشيخ حسن البنّا، مؤسس جماعة الإخوان، ليؤكد له أن الأزمة، التى تمر بها الجماعة بعد
تورطها فى عمليات عنف واسعة فى سبيلها للانفراج، وأن شيئا ما سيحدث لإنقاذ الجماعة،
التى كانت تتعرض لملاحقة أمنية واسعة.. لكن حسن البنّا الذى كان ينتظر هذا الإنقاذ
هو ومجموعة من أنصاره فى المقر العام للجماعة فاجأه الراديو بإذاعة قرار مجلس الوزراء
بحل الجماعة بناء على توصية أعدها عبدالرحمن عمار نفسه، ووقعه الحاكم العسكرى العام
محمود فهمى النقراشى!
وكان القرار يتضمن
تسع مواد تضمن التصفية الكاملة لهذه الجماعة، التى كانت بعد عقدين من عمرها قد أضحى
لها دورًا سياسيًا واسعًا ومؤثرا فى البلاد، رغم أنها تأسست كجماعة دينية دعوية.. فقد
كان هذا القرار يقضى (بحل الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها أينما
وجدت، وغلق الأمكنة المخصصة لأنشطتها، وضبط جميع الأوراق والسجلات والمطبوعات والمبالغ
المالية والأموال وكل الأشياء المملوكة للجمعية.. ويحظر على أعضائها والمنتمين إليها
بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية، وبوجه خاص.. عقد اجتماعات لها أو الدعوة إليها
أو جمع الإعانات والاشتراكات.. ويعد من الاجتماعات المحظورة فى تطبيق هذا الحكم اجتماع
خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية.. كما يحظر على كل شخص طبيعى أو
معنوى السماح باستعمال أى مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات، أو تقديم مساعدة أدبية
أو مادية.. وعلى كل شخص كان عضوًا فى الجمعية المنحلة أو منتسبًا لها وكان مؤتمنا على
أوراق ومستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء أن يسلمها إلى مركز البوليس المقيم
فى دائرته، خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر.. كذلك تعيين مندوب خاص مهمته استلام
جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفية مازيرى تصفيته وتخصيص الناتجة للأعمال الخيرية أو
الاجتماعية، التى يحددها وزير الشؤون.
وفور صدور هدا القرار
انطلقت سلطات الأمن فى مطاردة أعضاء وقيادات جماعة الإخوان فى أنحاء البلاد وتم اعتقال
أعداد منهم وفصل عشرات من الموظفين المنتمين للإخوان ونقل آلاف منهم إلى الوجه القبلى..
وتصاعد الأمر إلى دورته بعد قيام الجهاز السرى للإخوان باغتيال رئيس الحكومة محمود
فهمى النقراشى انتقامًا منه لحل الجماعة.. فعلى إثر ذلك اتسعت الحملات الأمنية والإعلامية
والسياسية، بل والدينية ضد الإخوان، وشارك فى هذه الحملات شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء،
ومفتى الديار المصرية وعدد من الكتاب والمفكرين.. وتم استدراج حسن البنّا الذى كان
يسعى لإنقاذ جماعته، التى أنفق عليها من عمره أكثر من عشرين عامًا من الانهيار لكى
يدين أعمال العنف، التى تورط فيها الجهاز الخاص السرى لها، الذى أنشأه هو شخصيًا وكان
يتولى توجيهه ورعايته، وهو ما تحقق ببيانه الشهير الذى اتهم فيه أعضاء هذا الجهاز بأنهم:
( ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)، والذى اختتمه بقوله: (وإنى لأعلن أنى منذ اليوم سأعتبر
أى حادث من هذه الحوادث موجها إلى شخصى ولا يعنى إزاءه إلا أن أقدم نفسى للقصاص وأطلب
إلى جهات الاختصاص تجريدى من جنسيتى المصرية، التى لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء!)..
وإذا كانت أجهزة الأمن استغلت هدا البيان فى الحصول على اعترافات كاملة من قاتل النقراشى
بعد انهياره لتخلى أمامه عنه ومشاركته فى إدانته، فإن الأهم أن ذلك البيان دفع عددا
من الإخوان للانقلاب على أمامهم ومرشحهم، بل وصل الأمر إلى حد تهديده بالقتل من قبل
قيادات التنظيم السرى المسلح من داخل السجن.. ولأن البنّا صار وحيدًا ومعزولا كان من
السهل اغتياله فى ١٢ فبراير عام ١٩٤٩، وهو بوم عبد ميلاد الملك فاروق، خاصة بعد أن
سحبت منه سيارته ومسدسه المرخص، وأيضًا الحراسة المحيطة به، بينما كان مازال يحاول
أن يعيد جماعته إلى الحياة مجددًا بإلغاء قرار حلها!
وهكذا جاء اغتيال
حسن البنّا ليدشن عملية تصفية جماعة الإخوان التى قررها النقراشى وقتها وتمت بمباركة
من الملك فاروق، الذى سبق أن منحها رعايته من قبل، وقدم لها الدعم والمساندة المالية
والمعنوية.. لكن رغم هذه التصفية لم تمت تلك الجماعة، وعادت إلى الحياة مجددا فى غضون
وقت قصير جدا، ونجحت فى أن تختار لها مرشدا جديدا هو المستشار الهضيبى بعد اغتيال البنّا
بنحو العامين، وأن تعود إلى ممارسة النشاط العام والسياسى مجددا، فى ظل محاولاتها لاستعادة
علاقاتها الطيبة بالحكم، حكومة وملكًا.. لذلك كان لافتا للانتباه قيام المرشد الجديد
بتزعم وفدا من قيادات الإخوان، ضم شقيق حسن البنّا وعضو مكتب الإرشاد، وصهره وسكرتير
الجماعة عبدالحكيم عابدين، وأقرب المقربين للبنا أعضاء مكتب الإرشاد صالح عشماوى، وعبدالناصر
عودة وحسين كمال الدين، ومحمد الغزالى، وعبدالعزيز كامل، وسعد الوليلى السكرتير الخاص
للبنا، وذلك ليؤكد فى سجل تشريفات قصر عابدين ولاءهم للملك فاروق!
ولم تعد الجماعة
للحياة مجددًا فقط، ولكنها استعادت نفوذها وتأثيرها فى البلاد، وسعت لاختراق العديد
من مؤسسات الدولة ومن بينها الجيش، وعندما حدثت ثورة يوليو ادعت الجماعة أنها هى صاحبة
هده الثورة لانتماء اثنين من قادة الضباط الأحرار إليها!، ولذلك طالبت بفرض الوصاية
على الحكام الجدد، وذلك بعدم إصدار أى قرار أو انتهاج أية سياسة إلا بعد الرجوع للجماعة
والحصول على موافقتها.
فكيف حدث ذلك؟!..
أى كيف خرجت الجماعة التى تم حل وتصفية كل أنشطتها ومصادرة أموالها من القبر لتستأنف
الحياة مجددا، عفية وقوية؟!
هذا هو السؤال الذى
يتعين أن ننشغل بالبحث عن إجابة له، ونحن نخوض معركة لم تنته بعد مع هذه الجماعة منذ
الثالث من يوليو عام ٢٠١٣، خاصة أن ما حدث بعد حل الجماعة فى نهاية عام ٤٨ ثم اغتيال
مؤسسها ومرشدها الأول تكرر فيما بعد أكثر من مرة!.. فهذا لم يكن الحل الوحيد للجماعة..
أنه الحل الأول وتلاه قرار بحلها للمرة الثانية بعد تورطها فى مباحثات سرية من وراء
الضباط الأحرار مع الإنجليز لإفساد مفاوضات الجلاء، ثم محاولة اغتيال جمال عبدالناصر
عام ١٩٥٤ لرفضه الخضوع للإخوان، وتم تأكيد حظرها فى الستينيات من القرن الماضى، بعد
أن كان الرئيس عبدالناصر قد أخرج عددا من قادتها من السجون، وذلك حينما تم اكتشاف أمر
قيامها بإحياء تنظيمها السرى تحت رعاية سيد قطب وترتيب خطط للإمساك بالحكم بعد القيام
بعدد من أعمال العنف كان أخطرها تفجير القناطر الخيرية، والذى كان من شأنه إغراق مساحات
شاسعة من الدلتا.. واستمر حظر نشاط الجماعة حتى بداية السبعينيات عندما أخرج الرئيس
الأسبق أنور السادات قيادات الإخوان من السجون وأبرم اتفاقا مع مرشدها وقتها عمر التلمسانى
يقضى بالسماح لهم بممارسة العمل الدعوى الدينى وإعادة إصدار مجلتهم الدعوة مقابل تصديهم
للنشاط الطلابى اليسارى والناصرى فى الجامعة، الذى كان قد بدأ يزعج السادات.. أما بعد
اغتيال السادات فقد اتسع حظر أنشطة جماعات العنف الدينية لتشمل الجماعة الأم (الإخوان).
لكن الملاحظ أن الجماعة
خرجت بعد كل مرة تم حلها أو حظر أنشطتها لتستأنف الحياة والنشاط والفعال مجددا وربما
أقوى أحيانًا مما كان عليه الحال قبلها.
فهى بعد الحل الأول
لها فى نهاية الأربعينيات احتاجت فقط شهورا قليلة لتستعيد نشاطها ونفوذها وتأثيرها
فى البلاد، ووصل الأمر إلى درجة أنها بعد نحو أربعين شهرًا فقط من اغتيال مؤسسها ومرشدها
الأول صارت هى القوة السياسية الوحيدة، التى حظيت بأن يكون لها وجود مميز مرحب به من
الضباط الأحرار، بينما قاموا بحل كل الأحزاب السياسية، وتم إعادة فتح التحقيق فى اغتيال
حسن البنّا، وعرض على الإخوان المشاركة فى الحكومة بثلاثة وزراء، وهو ما رفضوه وطلبوا
فرض وصايته بالكامل على الحكومة.
وبعد الحل الثانى
للجماعة فى الخمسينيات ومطاردة كوادرها وأعضاءها أمنيا لاذ هؤلاء بعدد من بلاد الخليج
ومنهم من ذهب إلى أوربا لا ليعيش فبها فقط، وإنما ليقوم بإنشاء أنشطة اقتصادية بتمويل
عربى خليجى مكنت الجماعة من تحقيق ثروة هائلة ملأت بها خزائنها ومولت بها فيما بعد
أنشطتها.
وبعد تأكيد حظر الجماعة
مجددًا فى الستينيات وتوجيه ضربة أمنية قوية توجت بإعدام سيد قطب مؤسس تنظيمها السرى
الجديد، فإن الإخوان بالخارج اتجهوا إلى تأسيس تنظيمهم الدولى، الذى انتشرت فروعه فى
العديد من الدول الأوربية وعدد من الولايات الأمريكية، وكذلك الدول العربية.
وبعد العودة إلى
حظرها فى نهاية السبعينيات عادت تلك الجماعة للنشاط مجددا فى سنوات الثمانينيات والتسعينيات
ونجحت فى اختراق عدد من مؤسسات الدولة، بل وتمكنوا من السيطرة على بعض النقابات المهنية
(مهندسين وأطباء ومحامين ومعلمين).. وتمكنوا أيضًا من الدخول إلى البرلمان فى البداية
بالتحالف مع حزب الوفد، وبعده حزب العمل، ثم بالمشاركة ڤى الانتخابات كمستقلين، وأحرزوا
أكبر عدد من المقاعد البرلمانية فى انتخابات عام ٢٠٠٥ البرلمانية.. كما تمكنوا من إنشاء
العديد من المشروعات داخل البلاد إلى وفرت لهم مصادر تمويل مستدامة لأنشطتهم، التى
تستهدف تحقيق ما أسموه بالتمكين، وهو التجهيز للوثوب على السلطة فيما بعد.
فكيف حدث ذلك؟!..
كيف عادت للحياة تلك الجماعة فى كل مرة بعد إشهار موتها ودفنها؟!.. وكيف كانت عودتها
أكثر خطورة؟!
الإجابة من خلال
تحليل مسيرتها تكمن فى أمرين معا.. الأول هو وجود دوما دعم تناله الجماعة.. دعم داخلى
وخارجى.. أما الدعم الداخلى فهو انتشار للتطرف الدينى الذى يمكنه من التغرير بالمزيد
من الشباب وضم أعضاء جدد لها.. أما الدعم الخارجى فهو متنوع المصادر.. بعضها إقليمى
وعربى وبعضها دولى.. وهذا ما تكشف عنه العديد من الوثائق أبرزها الوثائق البريطانية،
التى سمح بفض السرية عنها.
ويتمثل السبب الثانى
وهو الأهم فى أننا لا نمضى إلى نهاية المطاف فى إجراءات تصفية هذه الجماعة والتخلص
من شرورها.. ويبدو أننا بمرور الوقت ننسى جرائمها ونتغافل عن شرورها، ونعيد فتح ذراعينا
لها مجددًا.. حدث ذلك فى وقت قصير جدا بعد الحل الأول لها فى أعقاب اغتيالها للنقراشى..
واحتاج الأمر لوقت أطول استغرق بضع سنوات بعد الحل الثانى لها فى الخمسينات، عندما
أخرج عبدالناصر عددا من قيادتها من السجون وفى مقدمتهم سيد قطب.. أما بعد تجديد حظرها
فى أعقاب اكتشاف مؤامرة الجماعة فى الستينيات فإن وفاة عبدالناصر وتولى السادات للحكم
أتاح للجماعة عمرا جديدا.. وعندما تم حظرها مرة أخرى بعد اغتيال السادات فإنه لم يكن
حظرًا محكمًا، وإنما كان حظرًا صوريًا سمح لها بالحياة والنشاط والتمدد والتوسع فى
نفوذها داخل البلاد، حتى صارت مع نهاية حكم مبارك جاهزة للوثوب إلى الحكم.
لذلك.. فإن دعوات
المصالحة التى تطلق بين الحين والآخر، بعد أن تم الحل الثالث للجماعة عام ٢٠١٣، هى
دعوات لإحياء خطر هذه الجماعة مجددا.. فإن عداءها لنا سيزيد أكثر وأكثر، خاصة أنها
لا ترغب فقط فى استعادة الحكم، الذى طردت منه شعبيا، وإنما تبغى أيضًا الانتقام منا
لأننا أطحنا بها من السلطة.. ولا أنسى وأنا أتابع من قاعة المحكمة محاكمة قادة الإخوان
فى قضيتى اقتحام الحدود والسجون والتخابر مع حماس لإعداد كتابى (اغتيال مصر)، الذى
صدر من جزءين ما قاله مرسى وهو يدافع عن نفسه، والذى أبدى فيه ندمه على أن الإخوان
لم يتخذوا إجراءات أسرع لأخونة البلاد.