علم نفس الإرهاب: الأفراد والجماعات الإرهابية (1)
الأحد 07/يونيو/2020 - 11:15 ص
طباعة
حسام الحداد
يقدم علم نفس الإرهاب إطاراً تحليلياً عميقاً يساعدنا على فهم الإرهاب في طبقاته الأعمق والأكثر غموضاً في النفس البشرية. يرى البعض أن الحقول المعرفية الأخرى (الاجتماعية والسياسية والقانونية) أشد إلحاحاً لدراسة هذه الظاهرة المعولمة، لكن من المهم أيضاً تحليل وفهم الإرهاب بأدوات علم النفس، كونه يكشف لنا السلوكيات البشرية العنفية وكيفية اعتمالها (التصرفات، التأثر والتأثير، ردة الفعل) ويحيلنا على إدراكٍ أعمق لظواهر العنف، خصوصاً الجوانب الدينية والسياسية منها، وبذلك يعتبر علم نفس الإرهاب إحدى الطرق العلمية المفيدة لدراسة الإرهاب من نواحٍ عدة: العوامل النفسية لواقع الظاهرة الإرهابية (الشخصية الإرهابية)؛ تحليل الشخصية الإرهابية؛ سلوك وسمات الشخصية الإرهابية؛ الجذور النفسية للإرهاب؛ والعوامل الاجتماعية المؤدية للإرهاب.
ويُعد علم نفس الإرهاب من التخصصات الحديثة في علم النفس. وقد ظهر في الغرب من خلال دراسة موضوعات شائكة كـ”الجماعة الإرهابية” و”الفرد الإرهابي” و”الشخصية الإرهابية”، وتطور في السنوات الأخيرة مستعيناً بمناهج علمية جديدة تحاول -قدر الإمكان- الإحاطة بظاهرة الإرهاب متعددة المستويات.
حول هذا الموضوع جائت أبحاث كتاب المسبار “علم نفس الإرهاب: الأفراد والجماعات الإرهابية”، حيث يتناول الكتاب العديد من القضايا المهمة التي تسمح لنا بفهم ظاهرة الإرهاب بأدوات التحليل النفسي، لا سيما في المنطقة العربية. شارك في الكتاب باحثون متخصصون سعوا إلى تقديم تحليلات نفسية في دراسة الظاهرة الإرهابية بكل تشعباتها وتعقيداتها. حاولت الدراسات تغطية “سيكولوجيا الإرهاب” عبر درس مجموعة من المحاور الرئيسة: “سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها”؛ “سيكولوجية الإرهاب: نظرية الإحباط – العدوانية والغضب النرجسي”؛ “الانتحاريون و”الذئاب المتوحدة” أَهُم شخصيات سيكوباتية؟”؛ “العوامل النفسية والاجتماعية المعززة للتطرف لدى الشباب”؛ “السمات الشخصية التقريبية للإرهابي”؛ “إرهاب الجماعات المسلحة من منظور التحليل النفسي”؛ “عقل الإرهابي: مراجعة المناهج السيكولوجية ونقدها”؛ و”الإدارة النفسية لمحاربة الإرهاب: تدابير التحليل التبادلي”.
سيكولوجية الجماعة الإرهابية ودوافع الأفراد للانضمام إليها
تناول أستاذ علم النفس في معهد الدكتوراه في الجامعة اللبنانية مصطفى حجازي -بداية- تصنيفات أنواع الأعمال الإرهابية. ثم يدرس مسألة علاقة العنف الإرهابي بكل من الاضطراب النفسي والسيكوباتية (الشخصية المضادة للمجتمع). ومرد هذا التساؤل هو عدم تصور إمكان صدور هذا القدر من العنف الوحشي، والتفنن بأشكاله المميزة للجماعات الإرهابية من قبل الناس العاديين. ويرى أن مسألة علاقة العنف الإرهابي أصبحت محسومة بالنسبة إلى الشخصية السيكوباتية. فهذه الشخصية تتصف بالأنانية الفردية والجري وراء المصلحة الذاتية، من خلال تضليل الآخرين وصولاً إلى استغلالهم سواء مادياً أم جنسياً. وتالياً فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بقضية كبرى يضحي بذاته من أجلها، كما هو شأن الإرهابي الذي يقدم على التضحية بحياته ذاتها من أجل قضية سامية، والذي يعمل أساساً ضمن جماعة ينتمي إليها، وتدعي العمل أساساً من أجل تحقيق هذه القضية السامية. ويستبعد في دراسته فئات الأمراض النفسية في فئاتها المعروفة، والتي هي بدورها مسألة فردية مكانها المصح العقلي، ويستبعد أن تنخرط في مشروع جهادي استشهادي؛ نظراً لما يمثله الاضطراب من إعاقة على صعيد ممارسة الوظائف العقلية والسلوكية والعلائقية. وتالياً فلقد خلصت سلسلة كبيرة من الأبحاث إلى أنه لا يمكن فهم السلوك الإرهابي من الزاوية السيكوباتية أو المرضية النفسية. وإنما قد ينطبق هذا التوصيف المرضي على بعض حالات القتل الجماعي، التي يقدم عليها بعض الأشخاص الفرديين في المدارس أو الجامعات أو أماكن العمل، مما يرد ذكره في الإعلام الأمريكي. على أنه لا يستبعد أن يعاني بعض المنضمين إلى الجماعة الإرهابية من اضطرابات نفسية تظل ثانوية بالنسبة إلى العمل الإرهابي. إن ظواهر العنف الوحشي التي تصدم المرء وتدخل الرعب أو التقزز إلى نفسه، مما يتم استعراضه على وسائل الإعلام، هي أساساً ظواهر جماعية سيتم الإضاءة عليها في دراسة سلوكات الجماعة الإرهابية وآليات اشتغالها العقلية والتفاعلية. فبالإضافة إلى عقيدة هذه الجماعات الدينية أو العرقية أو الأيديولوجية التي تبرر العنف، تتصف الجماعات بالقدرة على تحرير أفرادها من كوابح عنفهم الفردي بلا حدود في وضعيات التعصب المفرط. كما أن الحالة النفسية للجماعات الإرهابية تتصف بالغنى، وتلقي أضواءً تساعد على الفهم وتدفع إلى التفكير. إلا أنها لا تفسر بحال نشأة هذه الجماعات، ولا يجوز لها أن تفسرها. كما لا يجوز رد هذه النشأة والانتشار متعدد الأشكال والمجالات إلى مسألة المرض النفسي الفردي. ولا بد من تكرار التأكيد في هذا المقام، أن التفسير النفسي أياً كان عمقه لا يجوز بحال أن يبرر هذه الأفعال الهمجية؛ فالتفسير لا يعني أبداً الإعفاء من المسؤولية تحت أي ذريعة كانت، وخصوصاً أن جل الأدبيات المتداولة في الموضوع، هي في جلها افتراضية يعوزها البرهان العملي، حيث لم تجر إلى الآن دراسات ميدانية علمية على عينات من هذه الجماعات الإرهابية، أو على أفرادها وخصوصاً أولئك الانتحاريين الاستشهاديين منهم. والذي لا بد من الوقوف عنده، يتمثل برد هذا العنف البربري الكاسح إلى تعاليم الدين الإسلامي التي يركز عليها فقهاء التفسير، التي حلت محل القرآن والسنة والنصوص الأصلية أو هي اجتزأتها، مركزة على البعد العنفي وطمس الأبعاد الإيجابية للدين، والتي أنزلت رحمة للناس. فنقطة البدء في علاج هذا العنف الهمجي الذي يمارسه كل من الطاغية والإرهابي: الاعتراف بإنسانية المواطن أو الآخر على اختلاف انتماءاته. ويبدأ هذا الاعتراف بوضع حد لنرجسية الطاغية الذي يعتبر أنه البلد والكيان، ولنرجسية الجماعة الإرهابية التي تعتبر ذاتها الجماعة الناجية وكل ما عداها ديار كفر وحرب.
سيكولوجية الإرهاب: نظرية الإحباط – العدوانية والغضب النرجسي
ديفيد باتريك هوتون (DAVID PATRICK HOUGHTON)- أستاذ شؤون الأمن القومي في الكلية الحربية البحرية الأمريكية (Naval War College) والمتخصص في علم النفس السياسي- تساءل عمّا إذا كانت دراسة الإرهاب -خصوصاً منذ 11/9/2001- باتت تفوق كثيراً الوتيرة الفعليّة لتلك الظاهرة. ويقول: إنه بالمحصلة، يفتك الفقر وسوء التغذية بملايين الناس سنويّاً ما يفوق بضعة آلاف الضحايا الذين تحصدهم هجمات الإرهاب، فيما يميل الإرهاب إلى التضاؤل واقعيّاً، وفق بعض المقاييس. نعاني مما سمّاه كاس سانشتاين (Cass Sunstein) “إهمال الاحتمال” (Probability Neglect)، بمعنى الميل إلى المبالغة في تقدير احتمالات الموت بهجمة إرهاب. يرجع ذلك إلى كون الإرهاب يستحثّ ما سمّاه دانيال كاينمان (Daniel Kahneman) “تدافع المتوافر” (Availability Cascade)، إذ يسيطر على العناوين الإخباريّة لكنه يخفي حقيقة أنّ الموت من الإرهاب يمثّل حدثاً نادراً في الغالب. نأى البحث في ذلك الموضوع عن علم النفس بأكمله، وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك البحث أساسيّ، لكن ربما سنعرف أكثر عن الموضوع عبر تطبيق معطيات سوسيولوجيّة أو سوسيولوجيّة- نفسيّة، بالمقارنة مع ما سنعرفه من نظيراتها التقليديّة المستندة إلى دراسة الحالات الفرديّة. إنّ الإرهاب نشاط يستند إلى مجموعة، مما يعني أن الفهم السيكولوجي له يتعزّز عبر مقاربات كالتفكير الجماعي أو نظرية الهويّة الاجتماعيّة، اللتين تركّزان على فعاليّة الجماعيّات بأكثر من النظر في قادة الإرهاب أنفسهم. في العادة، لا يكون الإرهابيّون مجانين أو مختلين عقليّاً مثلاً، على الرغم من أنّ معتقداتهم غالباً ما تكون غير عادية و”خارجة عن التيار العام”. وبالتأكيد، تفضي السريّة والانضباط الذاتي في ذلك النشاط إلى استبعادهم على يد المنظمة الإرهابيّة نفسها. تمثّلت المقاربة التقليديّة لذلك الموضوع بمحاولة فهم الإرهابيّين أفراداً أو قادة، وأعطت موجة الأعمال الإرهابيّة منذ 11/9 دفعاً جديداً لذلك الحقل.
من الأرجح أنّ الآليّات الاجتماعيّة للنشاط الإرهابي هو أكثر أهمية من المقاربات التي تبحث عن وجود نوع من الاختلال في المعتدين. إنّ الكائنات الإنسانيّة هي ذوات اجتماعيّة فعالة، ونحن نتأثّر بما يحسّ ويفكّر آخرون به. وبالتأكيد، هنالك أوضاع يكون فيها الفرد أكثر أهميّة من ضغوط المجموعة، تتوافر مؤشّرات ودلائل على أنّ مستقبل دراسات الإرهاب، سوف يستفيد من التركيز على الظروفيّة بأكثر من البحث عن ملكات أصيلة في الإرهابي.
الانتحاريون و”الذئاب المتوحدة”.. أَهُم شخصيات سيكوباتية؟
يشير الأستاذ الفخري في علم النفس في كلية براين ماوار (الولايات المتحدة) (Bryn Mawr College) كلارك ماكّولي (Clark McCauley) إلى أنه عند استرجاع التطوّرات في علم نفس التطرّف والإرهاب، تبرز ميول عدّة. أولاً: هنالك ابتعاد عن النظر إلى الإرهابيّين بوصفهم معتوهين، مقابل التفكير بهم ضمن إطار خيار منطقي يُظهِر أنّ قادتهم -على الأقل- يحاولون تعظيم فاعلية الاستراتيجيّات والتكتيكات، إلى حدّها الأقصى. وفي تطوّر حديث تماماً، يُعطَى اهتمام أكبر إلى العواطف في شرح سلوك الإرهابي. ثانيّاً: واتّصالاً مع النقطة الأولى، ساد في البداية تشديد على شروحات للإرهاب تعمل على المستوى الفردي، ثم تلاها اعتراف بقوة المجموعة، فيما يتزايد الاهتمام في الوقت الراهن بالسياقات المتعلّقة بالحراك الاجتماعي والرأي العام اللذين يحدث الإرهاب ضمنهما. ثالثاً: ركّزت الجهود الأولى لفهم الإرهاب عليـ”هم”، أي الإرهابيّين. وحاضراً وببطء، يتراكم التنبّه إلى دينامية وآليّات “الفعل وردّ الفعل”، في الصراع بين الإرهابيّين والحكومات التي يناوئونها. ضمن تلك الوجهة، تكون ردّة فعل الحكومات على الإرهاب بمثل أهمية هجمات الإرهاب نفسها. أخيراً، يستهل الميل الأبطأ والأكثر تجريديّة، بالاعتراف بأنّ الإرهاب ومناوءته هما من شؤون السياسة، بل شكلان للصراع السياسي يمكن النظر إليهما من منظور حرب العصابات والحرب الأهليّة.
ويرى أن الإرهاب هو استخدام عنف مادي (أو التهديد به) ضد مدنيّين، بهدف الحصول على مكاسب سياسيّة. يشكّل احتكار العنف ضمن حدودها، إحدى العلامات المميّزة للدولة الناجحة. ولكسب هذا الاحتكار وضمان استمراريّته، تستخدم الدول العنف بما فيه التعذيب والموت، ضد من يعيشون ضمن حدودها، بل غالباً ضد المدنيّين غير المسلّحين. بذا، يكون العنف قديماً تماماً ومتّصلاً بقوّة الدولة. لكن استعمال كلمة إرهاب في الإشارة إلى عنف سياسي، يرجع حصراً إلى الثورة الفرنسيّة في تسعينيات القرن الثامن عشر. آنذاك، عمد الثوار الذين تهدّدتهم مقاومة داخل فرنسا وجيوش أجنبيّة على حدودها، إلى تسييد الإرهاب لقمع عدوهم في الداخل. إذاً كانت قوّة الدولة خلف أول عنف سياسي نال تسمية الإرهاب.
على الرغم من أن جذر تسميّة الإرهاب السياسي يعود إلى عنف الدولة، وأنّ ما يتسبّب به من ضحايا يفوق سواه، يُفْهَم مصطلح الإرهاب اليوم باعتبار أنّه يقصد الإرهاب غير الحكومي؛ إذ يشمل الإرهاب المناوئ للدولة، والإرهاب العقابي والابتزاز بالحماية؛ لكن الإرهاب المناوئ للدولة هو الذي يجتلب الاهتمام الأكبر، ويقصد به العنف الذي تمارسه مجموعات لا تملك سلطة الدولة، ويتوجّه ضد دول معترف بها. يركّز هذا الفصل على الإرهاب المناوئ للدولة الذي يسمّيه المؤرخ الأمريكي وليتر لاكيّير (Walter Laqueur) “الإرهاب من أسفل” (Terrorism From Below)، على الرغم من أنني سأخلص إلى أنّ هذا الإرهاب لا يُفهَم من دون التنبّه إلى دور “الإرهاب من أعلى”. يجيب كلارك في هذه الدراسة على التساؤل التالي: كيف يتمكن أفراد ومجموعات لا يحوزون قوّة الدولة، من ممارسة عنف سياسي يطاول أشخاصاً غير محاربين؟